آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ
ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ

وَلَمَّا شَرَحَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْوَالَ حِرْمَانِهِمْ عَنِ الرِّبْحِ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّةَ خُسْرَانِهِمْ، بَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى الْحِرْمَانِ وَالْخُسْرَانِ، بَلْ ضَمُّوا إِلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ وَالْعِقَابِ الشَّدِيدِ، فَقَالَ: لَهُمْ مِنْ/ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ وَالْمُرَادُ إِحَاطَةُ النَّارِ بِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْأَحْوَالِ النَّفْسَانِيَّةِ إِحَاطَةُ الْجَهْلِ وَالْحِرْمَانِ وَالْحِرْصِ وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ بِالْإِنْسَانِ، فَإِنْ قِيلَ الظُّلَلُ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ سُمِّيَ مَا تَحْتَهُ بِالظُّلَلِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠]، الثَّانِي: أَنَّ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَهُ يَكُونُ ظُلَّةً لِإِنْسَانٍ آخَرَ تَحْتَهُ لِأَنَّ النَّارَ دَرَكَاتٌ كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الظُّلَّةَ التَّحْتَانِيَّةَ إِذَا كَانَتْ مُشَابِهَةً لِلظُّلَّةِ الْفَوْقَانِيَّةِ فِي الْحَرَارَةِ وَالْإِحْرَاقِ وَالْإِيذَاءِ، أُطْلِقَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لِأَجْلِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ. قَالَ الْحَسَنُ هُمْ بَيْنَ طَبَقَتَيْنِ مِنَ النَّارِ لَا يَدْرُونَ مَا فَوْقَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَهُمْ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٥٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الْأَعْرَافِ: ٤١].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أَيْ ذَلِكَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وَصْفِ الْعَذَابِ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ خَبَرٌ، وَفِي قَوْلِهِ: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: التَّقْدِيرُ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُعَدُّ لِلْكَفَّارِ هُوَ الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ فِي الْقُرْآنِ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ تَخْوِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ إِذَا سَمِعُوا أَنَّ حَالَ الْكُفَّارِ مَا تَقَدَّمَ خَافُوا فَأَخْلَصُوا فِي التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي تَقْدِيرِ جَوَابٍ عَنْ سُؤَالٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ مُنَزَّهٌ عَنِ الشَّهْوَةِ وَالِانْتِقَامِ وَدَاعِيَةِ الْإِيذَاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُعَذِّبَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَخْوِيفُ الْكُفَّارِ وَالضُّلَّالِ عَنِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَإِذَا كَانَ التَّكْلِيفُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّخْوِيفِ وَالتَّخْوِيفُ لَا يَكْمُلُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا بِإِدْخَالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ وَجَبَ إِدْخَالُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْوُجُودِ تَحْصِيلًا لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيفُ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أقرب، والدليل عليه أنه قال بعده:
يا عِبادِ فَاتَّقُونِ وقوله: يا عِبادِ الْأَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ عَذَابِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ تَخْوِيفُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَالِغُوا فِي الخوف والحذر والتقوى.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ ذَكَرَ وَعْدَ مَنِ اجْتَنَبَ عِبَادَتَهَا وَاحْتَرَزَ عَنِ الشِّرْكِ، لِيَكُونَ الْوَعْدُ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ أَبَدًا فَيَحْصُلَ كَمَالُ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الطَّاغُوتُ فَعْلُوتٌ مِنَ الطُّغْيَانِ كَالْمَلَكُوتِ وَالرَّحَمُوتِ إِلَّا أَنَّ فِيهَا

صفحة رقم 434

قَلْبًا بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ بِالْمَصْدَرِ كَأَنَّ عَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ الطُّغْيَانُ وَثَانِيهَا: أَنَّ الْبِنَاءَ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ فَإِنَّ الرَّحَمُوتَ الرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ وَالْمَلَكُوتَ الْمُلْكُ الْمَبْسُوطُ وَثَالِثُهَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْعَيْنِ وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أن المراد من الطاغوت هاهنا الشَّيْطَانُ أَمِ الْأَوْثَانُ، فَقِيلَ إِنَّهُ الشَّيْطَانُ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ مَا عَبَدُوا الشَّيْطَانَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا الصَّنَمَ، قُلْنَا الدَّاعِي إِلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ لَمَّا كَانَ هُوَ الشَّيْطَانَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى عِبَادَةِ الصَّنَمِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ الصَّنَمُ وَسُمِّيَتْ طَوَاغِيتَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهَا، وَالطُّغَاةُ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ الطُّغْيَانُ عِنْدَ مُشَاهَدَتِهَا وَالْقُرْبِ مِنْهَا، وُصِفَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَقِيلَ كُلُّ مَا يُعْبَدُ وَيُطَاعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ طَاغُوتٌ، وَيُقَالُ فِي التَّوَارِيخِ إِنَّ الْأَصْلَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُشَبِّهَةً اعْتَقَدُوا فِي الْإِلَهِ أَنَّهُ نُورٌ عَظِيمٌ، وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَنَّهَا أَنْوَارٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَوَضَعُوا تَمَاثِيلَ وَصُوَرًا عَلَى وَفْقِ تِلْكَ الْخَيَالَاتِ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْمَلَائِكَةَ، وَأَقُولُ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَيْ أَعْرَضُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ أَيْ رَجَعُوا بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى اللَّهِ. وَرَأَيْتُ فِي السِّفْرِ الْخَامِسِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: يَا مُوسَى أَجِبْ إِلَهَكَ بِكُلِّ قَلْبِكِ. وَأَقُولُ مَا دَامَ يَبْقَى فِي الْقَلْبِ الْتِفَاتٌ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَا أَجَابَ إِلَهَهُ بِكُلِّ قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْإِجَابَةُ بِكُلِّ الْقَلْبِ إِذَا أَعْرَضَ الْقَلْبُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ بَابِ الطَّاعَاتِ فَكَيْفَ يُعْرِضُ عَنْهَا مَعَ/ أَنَّهُ بِالْحِسِّ يُشَاهِدُ الْأَسْبَابَ الْمُفْضِيَةَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، قُلْنَا لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إِعْرَاضِ الْقَلْبِ عَنْهَا أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا بِالْعَدَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ، بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَكُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ إِلَّا بِتَكْوِينِ الْوَاجِبِ وَإِيجَادِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ تَكْوِينَهُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا ما يكون بغير واسطة وهي عالم السموات وَالرُّوحَانِيَّاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ عَالَمُ الْعَنَاصِرِ وَالْعَالَمُ الْأَسْفَلُ، فَإِذَا عَرَفْتَ الْأَشْيَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَرَفْتَ أَنَّ الْكُلَّ لِلَّهِ وَمِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا مُدَبِّرَ إِلَّا هُوَ وَلَا مُؤَثِّرَ غَيْرُهُ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُ عَنْ هَذِهِ الْمُمْكِنَاتِ وَيَبْقَى مَشْغُولَ الْقَلْبِ بِالْمُؤَثِّرِ الْأَوَّلِ وَالْمُوجِدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ وَضَعَ الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إِلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَهَذَا الشَّيْءُ يَحْصُلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُضِعَ بِحَيْثُ لَا يُفْضِي إِلَى حُصُولِ هَذَا الشَّيْءِ لَمْ يَحْصُلْ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْقَطِعُ نَظَرُهُ عَنِ الْكُلِّ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا إِلَى الْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنِّي كُنْتُ أَنْصَحُ بَعْضَ الصِّبْيَانِ فِي حِفْظِ الْعِرْضِ وَالْمَالِ فَعَارَضَنِي وَقَالَ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الْجِدِّ وَالْجُهْدِ بَلْ يَجِبُ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَقُلْتُ هَذِهِ كَلِمَةُ حَقٍّ سَمِعْتَهَا وَلَكِنَّكَ مَا عَرَفْتَ مَعْنَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَ الْأَشْيَاءَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهَا مَا جَعَلَ حُدُوثَهُ وَحُصُولَهُ مُعَلَّقًا بِأَسْبَابٍ مَعْلُومَةٍ وَمِنْهَا مَا يُحْدِثُهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ حَوَادِثُ هَذَا الْعَالَمِ الْأَعْلَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَنْ طَلَبَ حَوَادِثَ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ لَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي عَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَ هَذَا الشَّخْصُ مُنَازِعًا لِلَّهِ فِي حِكْمَتِهِ مُخَالِفًا فِي تَدْبِيرِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَعْلُومَةِ وَأَنْتَ تُرِيدُ تَحْصِيلَهَا لَا مِنْ تِلْكَ

صفحة رقم 435

الْأَسْبَابِ، فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ الْإِعْرَاضِ عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تَعَالَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِقْبَالِ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ هَؤُلَاءِ بِأَشْيَاءَ أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمُ الْبُشْرى وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَتَعَلَّقُ بِجِهَاتٍ أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ مَتَى تَحْصُلُ؟ فَنَقُولُ إِنَّهَا تَحْصُلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ وَعِنْدَ الْوُقُوفِ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ وعند ما يَصِيرُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ وعند ما يَدْخُلُ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ، فَفِي كُلِّ مَوْقِفٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ تَحْصُلُ الْبِشَارَةُ بِنَوْعٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالرُّوحِ وَالرَّاحَةِ وَالرَّيْحَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةُ فَبِمَاذَا تَحْصُلُ؟ فَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ تَحْصُلُ بِزَوَالِ الْمَكْرُوهَاتِ وَبِحُصُولِ الْمُرَادَاتِ، أَمَّا زَوَالُ الْمَكْرُوهَاتِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْحُزْنُ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ فَقَوْلُهُ: أَلَّا تَخافُوا يَعْنِي لَا تَخَافُوا فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَلَا تَحْزَنُوا بِسَبَبِ مَا فَاتَكُمْ مِنْ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا، وَلَمَّا أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ هَذِهِ الْمَكْرُوهَاتِ بَشَّرَهُمْ بِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسَّعَادَاتِ فَقَالَ: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فُصِّلَتْ: ٣٠] وَقَالَ أَيْضًا فِي آيَةٍ أُخْرَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الْحَدِيدِ: ١٢] وَقَالَ أَيْضًا: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزُّخْرُفِ: ٧١] وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبَشِّرَ مَنْ هُوَ؟ فَنَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُمُ الْمَلَائِكَةَ، إِمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النَّحْلِ: ٣٢] وَإِمَّا بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَقَوْلُهُ: الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الْأَحْزَابِ: ٤٤].
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمُ الْبُشْرى فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ التَّأْكِيدَاتِ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُفِيدُ الْحَصْرَ فَقَوْلُهُ: لَهُمُ الْبُشْرى أَيْ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا بِشَارَةَ لِأَحَدٍ إِلَّا إِذَا اجْتَنَبَ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْبَلَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي لَفْظِ الْبُشْرَى مُفِيدٌ لِلْمَاهِيَّةِ فَيُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ بِتَمَامِهَا لِهَؤُلَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا نَصِيبٌ لِغَيْرِهِمْ وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَبَيْنَ الْبِشَارَةِ فَالْبِشَارَةُ هُوَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ بِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ كُلُّ مَا سَمِعُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاعِ الثَّوَابِ وَالْخَيْرِ إِذَا سَمِعُوهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ فِي الْقَبْرِ فَذَاكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِخْبَارًا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا إِذَا حَصَلَ الْإِخْبَارُ بِحُصُولِ أَنْوَاعٍ أُخَرَ مِنَ السَّعَادَاتِ فَوْقَ مَا عَرَفُوهَا وَسَمِعُوهَا فِي الدُّنْيَا نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْفَوْزَ بِهَا، قَالَ تَعَالَى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: ١٧] وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْمُخْبِرَ بِقَوْلِهِ: لَهُمُ الْبُشْرى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَعْظَمُ الْعُظَمَاءِ وَأَكْمَلُ الْمَوْجُودَاتِ وَالشَّرْطُ الْمُعْتَبَرُ فِي حُصُولِ هَذِهِ الْبِشَارَةِ شَرْطٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الِاجْتِنَابُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالُ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى اللَّهِ وَالسُّلْطَانُ الْعَظِيمُ إِذَا ذَكَرَ شَرْطًا عَظِيمًا. ثُمَّ قَالَ لِمَنْ أَتَى بِذَلِكَ الشَّرْطِ الْعَظِيمِ أَبْشِرْ فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ الصَّادِرَةُ مِنَ السُّلْطَانِ الْعَظِيمِ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الشَّرْطِ الْعَظِيمِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِهِ قَدْ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالرِّفْعَةِ إِلَى حَيْثُ لَا يَصِلُ إِلَى شَرْحِهَا الْعُقُولُ وَالْأَفْكَارُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: لَهُمُ الْبُشْرى يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الْكَمَالِ وَالسَّعَادَةِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى: لَمَّا قَالَ: لَهُمُ الْبُشْرى وكان هذا كالمجمل أَرْدَفَهُ بِكَلَامٍ يَجْرِي مَجْرَى التَّفْسِيرِ

صفحة رقم 436

وَالشَّرْحِ لَهُ فَقَالَ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَأَرَادَ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَأَنَابُوا لَا غَيْرَهُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَأْسَ السَّعَادَاتِ وَمَرْكَزَ الْخَيْرَاتِ وَمَعْدِنَ الْكَرَامَاتِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِقْبَالَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ وَأَنَابُوا، هُمُ الْمَوْصُوفُونَ بِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، فَوُضِعَ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ تَنْبِيهًا/ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا وَأَنَابُوا لَهُمُ الْبُشْرَى وَكَانَ ذَلِكَ دَرَجَةً عَالِيَةً لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْأَوَّلُونَ، وَقَصْرُ السَّعَادَةِ عَلَيْهِمْ يَقْتَضِي الْحِرْمَانَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحْمَةِ التَّامَّةِ، لَا جَرَمَ جَعَلَ الْحُكْمَ أَعَمَّ فَقَالَ كُلُّ مَنِ اخْتَارَ الْأَحْسَنَ فِي كُلِّ بَابٍ كَانَ فِي زُمْرَةِ السُّعَدَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى فَوَائِدَ:
الْفَائِدَةُ الْأُولَى: وُجُوبُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْفَلَاحَ مُرْتَبِطَانِ بِمَا إِذَا سَمِعَ الْإِنْسَانُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ مِنْهَا مَا هُوَ الْأَحْسَنُ الْأَصْوَبُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَمْيِيزَ الْأَحْسَنِ الْأَصْوَبِ عَمَّا سِوَاهُ لَا يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ، لِأَنَّ السَّمَاعَ صَارَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكُلِّ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّمَاعَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ، فَثَبَتَ أَنَّ تَمْيِيزَ الْأَحْسَنِ عَمَّا سِوَاهُ لَا يَتَأَتَّى بِالسَّمَاعِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى بِحُجَّةِ الْعَقْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ مُتَابَعَةُ حُجَّةِ الْعَقْلِ وَبِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى تَصْحِيحِ الْمَذَاهِبِ وَالْأَدْيَانِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: إِقَامَةُ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّحْصِيلِ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالْخَوْضِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَالثَّانِي: أَنَّا قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الدَّلَائِلِ وَتَقْرِيرِهَا وَالشُّبُهَاتِ وَتَزْيِيفِهَا نَعْرِضُ تِلْكَ الْمَذَاهِبَ وَأَضْدَادَهَا عَلَى عُقُولِنَا، فَكُلُّ مَا حَكَمَ أَوَّلُ الْعَقْلِ بأنه أفضل وأكمل كائن أَوْلَى بِالْقَبُولِ. مِثَالُهُ أَنَّ صَرِيحَ الْعَقْلِ شَاهِدٌ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ حَيٌّ عَالِمٌ قَادِرٌ حَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ، أَوْلَى مِنْ إِنْكَارِ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمَذْهَبُ أَوْلَى، وَالْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُجْرِي فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ إِلَّا مَا كَانَ عَلَى وَفْقِ مَشِيئَتِهِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَجْرِي فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ إِرَادَتِهِ، وَأَيْضًا الْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّرْكِيبِ وَالْأَعْضَاءِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مُتَبَعِّضًا مُؤَلَّفًا، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِمَا، وَأَيْضًا الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ كَرِيمٌ قَدْ يَعْفُو عَنِ الْعِقَابِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَعْفُو عَنْهُ أَلْبَتَّةَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ تَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ الْأَحْسَنِ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادَاتِ.
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِأَبْوَابِ التَّكَالِيفِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَامَلَاتِ، فَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَمِثْلُ قَوْلِنَا الصَّلَاةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِي تَحْرِيمِهَا اللَّهُ أَكْبَرُ وَتَكُونُ النِّيَّةُ فِيهَا مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ، وَيُقْرَأُ فِيهَا سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، وَيُؤْتَى فِيهَا بِالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْمَوَاقِفِ الْخَمْسَةِ، وَيُقْرَأُ فِيهَا التَّشَهُّدُ، وَيُخْرَجُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَحْسَنُ مِنَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يُرَاعَى فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَتُوجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْتَارَ هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَنْ يَتْرُكَ مَا سِوَاهَا، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَكَذَلِكَ مِثْلَ أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ وَالْعَفْوَ، وَلَكِنَّهُ نَدَبَ إِلَى العفو فقال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ/ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرَّجُلُ يَجْلِسُ مَعَ الْقَوْمِ وَيَسْمَعُ الْحَدِيثَ فِيهِ مَحَاسِنُ وَمَسَاوِئُ، فَيُحَدِّثُ بِأَحْسَنِ مَا سَمِعَ وَيَتْرُكُ مَا سواه.

صفحة رقم 437

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ بِأَنْ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وَفِي ذَلِكَ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ فِي الْعَقْلِ وَالرُّوحِ أَمْرٌ حَادِثٌ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَقَابَلٍ. أَمَّا الْفَاعِلُ فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأَمَّا الْقَابِلُ فإليه الإشارة بقوله: وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا كَامِلَ الْفَهْمِ امْتَنَعَ حُصُولُ هَذِهِ الْمَعَارِفِ الْحَقِّيَّةِ فِي قَلْبِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْفَاعِلَ لِهَذِهِ الْهِدَايَةِ هُوَ اللَّهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ نُورِ الْعَقْلِ قَابِلٌ لِلِاعْتِقَادِ الْحَقِّ وَالِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ، وَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ قَابِلًا لِلضِّدَّيْنِ كَانَتْ نِسْبَةُ ذَلِكَ الْقَابِلِ إِلَيْهِمَا عَلَى السَّوِيَّةِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ كَوْنُ ذَلِكَ الْقَابِلِ سَبَبًا لِرُجْحَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِسْمَ لَمَّا كَانَ قَابِلًا لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَى السَّوِيَّةِ، امْتَنَعَ أَنْ تَصِيرَ ذَاتُ الْجِسْمِ سَبَبًا لِرُجْحَانِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنْ قَالُوا لَا نَقُولُ إِنَّ ذَاتَ النفس والعقل يوجب هَذَا الرُّجْحَانَ، بَلْ نَقُولُ إِنَّهُ يُرِيدُ تَحْصِيلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، فَتَصِيرُ تِلْكَ الْإِرَادَةُ سَبَبًا لِذَلِكَ الرُّجْحَانِ، فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ ذَاتَ النَّفْسِ كَمَا أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِهَذِهِ الْإِرَادَةِ، فَكَذَلِكَ ذَاتُ الْعَقْلِ قَابِلَةٌ لِإِرَادَةٍ مُضَادَّةٍ لِتِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ جَوْهَرِ النَّفْسِ سَبَبًا لِتِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَاعِلٍ وَمِنْ قَابِلٍ أَمَّا الْفَاعِلُ: فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّفْسَ، بَلِ الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا الْقَابِلُ: فَهُوَ جَوْهَرُ النَّفْسِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ثُمَّ قَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ/ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ الْآيَةِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ إِنَّهُ قَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَدْخُلَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الِاسْمِ وَعَلَى الْخَبَرِ مَعًا، فَلَا يُقَالُ أَزَيْدٌ أَتَقْتُلُهُ، بل هاهنا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا دَخَلَ حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى الشَّرْطِ وَعَلَى الْجَزَاءِ، فَكَذَلِكَ دَخَلَ حَرْفُ الْفَاءِ عَلَيْهِمَا مَعًا وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ حَقَّ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ وَلِأَجْلِ هَذَا السُّؤَالِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: الآية جملتنا وَالتَّقْدِيرُ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، أَفَأَنْتَ تَحْمِيهِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَصْلُ الْكَلَامِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ دَخَلَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ وَالْفَاءُ فَاءُ الْجَزَاءِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ وَالتَّقْدِيرُ أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى كُرِّرَتْ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَوُضِعَ مَنْ فِي النَّارِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ الثَّالِثُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إن حرف الاستفهام إنما ورد هاهنا لِإِفَادَةِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِنْكَارُهُ هَذَا/ الْمَعْنَى كَامِلًا تَامًّا. لَا جَرَمَ ذَكَرَ هَذَا الْحَرْفَ فِي الشَّرْطِ وَأَعَادَهُ فِي الْجَزَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي ذَلِكَ الْإِنْكَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ فَإِذَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ انْقِلَابُ خَبَرِ اللَّهِ الصِّدْقِ كَذِبًا، وَانْقِلَابُ عِلْمِهِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ حَقِّيَّةَ كَلِمَةِ الْعَذَابِ تُوجِبُ الِاسْتِنْكَارَ التَّامَّ مِنْ صُدُورِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَلَمْ تَكُنْ حَقِيقَةُ كَلِمَةِ الْعَذَابِ مَانِعَةً مِنْهُ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا الِاسْتِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ مَعْنًى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، قَالَ لِأَنَّهُ حَقَّ عَلَيْهِمُ

صفحة رقم 438
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية