
«بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ٦٩» لأني لم اقرأ الكتب القديمة ولا أحسن الكتابة لأنقلها إليكم وأن جميع ما قرأته لكم من الآيات وما سأتلوه عليكم بعد ليس من نفسي «إِنْ يُوحى إِلَيَّ» أي ما علمته إلا بوحي إليّ من الله «إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ» لكم من عذاب الله وبشير لكم بما عنده للمؤمنين «مُبِينٌ» ما يأمرني به ربي وشارح لكم عاقبة أمره معكم وكلما أذكره لكم عن الملأ الأعلى وعن أحوال الدنيا والآخرة ما هو من تلقاء نفسي، إنما هو بوحي منه، وأراد بالملأ الأعلى الملائكة وبالخصومة هو ما وقع بينهم وبين آدم عليه السلام مما قصه قبل وما يقصه بعد من اعتراضهم على خلافته كما سيأتي في الآية ٣٠ من البقرة في ج ٣. قال تعالى.
واذكر يا محمد لقومك «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ٧١» لا من نور كالملائكة ولا من نار كالجن «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» أتممت خلقه كما هو في علمي «وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» أضاف الروح لنفسه المنزهة على سبيل التشريف اضافة ملك كبيت الله وناقة الله، والروح جوهر لطيف يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء، والنار في الفحم، والماء في العود، والشمس في الظل، والرائحه في الماء، أي إذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة المقدسة الشريفة التي هي أمري وجعلته حيا حساسا متنفسا «فَقَعُوا لَهُ» حالا بلا توان «ساجِدِينَ» تعظيما له واحتراما لقدرتي حيث خلقته من تراب على غير مثال سابق وجعلته على أحسن صورة، فلما سمعوا ما أمرهم به ربهم أجابوه فورا كما يدل عليه قوله: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ٧٣» لم يتخلف منهم أحد امتثالا لأمره «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ» على ذلك المخلوق آدم عليه السلام الذي اصطفاه الله واجتباه أن يكون أبا لأكمل الخلائق وأحسنها «وَكانَ» هذا الخبيث بسبب امتناعه عن السجود «مِنَ الْكافِرِينَ ٧٤» الملعونين المطرودين «قالَ» تعالى «يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ» على آدم الذي توليت خلقه بنفسي «أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ٧٥» المتفوقين عليه، والعالون صنف من الملائكة المقربين كحملة العرش والروح، قيل إن هؤلاء لم يؤمروا بالسجود

وإنما الأمر صدر من الله تعالى لعوام الملائكة، فظن هذا الخبيث نفسه منهم فلم يسجد مع علمه أنه داخل فيمن أمر بالسجود ولهذا احتج وقال «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ» فلا أسجد لمن هو دوني لانك «خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ٧٦» والنار على زعمه أشرف من الطين فيكون على ظنه أنه أفضل منه والفاضل لا يتواضع المفضول عادة ولم يعلم الخبيث خطأ قياسه الذي سنبينه في الآية ١١ من الأعراف الآتية لأن النار مصيرها الرماد ولا ينتفع به والطين أصل كل نام من الحيوان والأشجار، ولا شك أن من الأشجار ما هو مثمر ومن الحيوان الإنسان، وكل منها خير من الرماد وإذا كان للنار خاصة الإحراق والضياء فللطين خواص كثيرة فلو فرض أن رجلا نسيبا مجردا من كل فضيلة وآخر غير نسيب جامع للفضائل كلها فهل يفضل ذلك عليه لمجرد نسبه كلا، وكان على الخبيث أن يمتثل لمجرد الأمر من غير أن ينطرق للسبب وللمسجود له لما هو عليه من معرفة ربه على أن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع قال ابن الوردي:
إنما الورد من الشوك وما | ينبت النرجس إلا من بصل |
قد يسود المرء من غير أب | وبحسن السبك قد ينفى الدغل |