
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ فَقَدْ قِيلَ هُمْ عَيْنُ أَهْلِهِ وَزِيَادَةُ مَثَلِهِمْ، وَقِيلَ غَيْرُهُمْ مِثْلُهُمْ، وَالْأَوَّلُ:
أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ أَزَلْنَا عَنْهُمُ السَّقَمَ فَعَادُوا أَصِحَّاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ حَضَرُوا عِنْدَهُ بَعْدَ أَنْ غَابُوا عَنْهُ وَاجْتَمَعُوا بَعْدَ أَنْ تَفَرَّقُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنْهُ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْعِشْرَةِ وَبِالْخِدْمَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ تَعَالَى مَتَّعَهُ بِصِحَّتِهِ وَبِمَالِهِ وَقَوَّاهُ حَتَّى كَثُرَ نَسْلُهُ وَصَارَ أَهْلُهُ ضِعْفَ مَا كَانَ وَأَضْعَافَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْمُرَادُ بِهِبَةِ الْأَهْلِ أَنَّهُ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ بَعْدَ أَنْ هَلَكُوا.
ثُمَّ قَالَ: رَحْمَةً مِنَّا أَيْ إِنَّمَا فَعَلْنَا كُلَّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، لَا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ.
ثُمَّ قَالَ: وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يَعْنِي سَلَّطْنَا الْبَلَاءَ عَلَيْهِ أَوَّلًا فَصَبَرَ ثُمَّ أَزَلْنَا عَنْهُ الْبَلَاءَ وَأَوْصَلْنَاهُ إِلَى الْآلَاءِ وَالنَّعْمَاءِ، تَنْبِيهًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا وَقَعَ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِمُحَمَّدٍ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يَعْنِي إِنَّمَا فَعَلْنَاهَا لِهَذِهِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْمَصَالِحِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ قَدْ مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ارْكُضْ وَالضِّغْثُ الْحُزْمَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ يَمِينٍ مِنْهُ، وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ حَلَفَ عَلَيْهَا، وَيَبْعُدُ مَا قِيلَ إِنَّهَا رَغَّبَتْهُ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَيَبْعُدُ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهَا قَطَعَتِ الذَّوَائِبَ عَنْ رَأْسِهَا لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى الطَّعَامِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهَا خَالَفَتْهُ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا ذَهَبَتْ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ فَأَبْطَأَتْ فَحَلَفَ فِي مَرَضِهِ لِيَضْرِبَنَّهَا مِائَةً إِذَا برىء، وَلَمَّا كَانَتِ حَسَنَةَ الْخِدْمَةِ لَهُ لَا جَرَمَ حَلَّلَ اللَّهُ يَمِينَهُ بِأَهْوَنِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا، وَهَذِهِ الرُّخْصَةُ بَاقِيَةٌ،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَتَى بِمُجَذَّمٍ خَبَثَ بِأَمَةٍ فَقَالَ:
«خُذُوا عِثْكَالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهِ ضَرْبَةً».
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ وَجَدَهُ صَابِرًا وَقَدْ شكا إليه، والجواب من وجوه الأول: أنه شكا من الشيطان إليه وما شكا مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلَمَ حِينَ كَانَ عَلَى الْجَسَدِ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فَلَمَّا عَظُمَتِ الْوَسَاوِسُ خَافَ عَلَى الْقَلْبِ وَالدِّينِ فَتَضَرَّعَ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ، وَالشِّكَايَةُ مِنَ الْعَدُوِّ إِلَى الْحَبِيبِ لَا تَقْدَحُ فِي الصَّبْرِ، ثُمَّ قَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَشْرِيفَ نِعْمَ الْعَبْدُ، إِنَّمَا حَصَلَ لِكَوْنِهِ أَوَّابًا، وَسَمِعْتُ بَعْضَهُمْ قَالَ: لَمَا نَزَلَ قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان عَلَيْهِ السَّلَامُ تَارَةً، وَفِي حَقِّ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُخْرَى عَظُمَ الْغَمُّ فِي قُلُوبِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا إِنَّ قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَإِنِ احْتَجْنَا إِلَى اتِّفَاقِ مَمْلَكَةٍ مثل مملكة سليمان حتى بحد هَذَا التَّشْرِيفَ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَإِنِ احْتَجْنَا إِلَى تَحَمُّلِ بَلَاءٍ مِثْلِ أَيُّوبَ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَحْصِيلِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الْأَنْفَالِ: ٤٠] وَالْمُرَادُ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ نِعْمَ الْعَبْدُ فأنا نعم المولى وَإِنْ كَانَ مِنْكَ الْفُضُولُ، فَمِنِّي الْفَضْلُ، وَإِنْ كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: عَبْدَنَا عَلَى الْوَاحِدِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ: عَبْدَنَا تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّشْرِيفُ مَخْصُوصًا بِأَعْظَمِ النَّاسِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: عِبادَنا قَالُوا لِأَنَّ غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فَجَاءَ فِي عِيسَى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزُّخْرُفِ: ٥٩] وَفِي أَيُّوبَ: نِعْمَ الْعَبْدُ [ص: ٤٤] وَفِي نُوحٍ: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [الْإِسْرَاءِ: ٣] فَمَنْ قَرَأَ (عَبْدَنَا) جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ عَطْفَ بَيَانٍ لَهُ، ثُمَّ عَطَفَ ذُرِّيَّتَهُ عَلَى عَبْدِنَا وَهِيَ إِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ، وَمَنْ قَرَأَ (عِبَادَنَا) جَعَلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ عَطْفَ بَيَانٍ لِعِبَادِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَاصْبِرْ على ما يقولون واذكر عبادنا دَاوُدَ إِلَى أَنْ قَالَ:
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ أَيْ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ صَبْرَ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَصَبْرَ إِسْحَاقَ لِلذَّبْحِ، وَصَبْرَ يَعْقُوبَ حِينَ فَقَدَ وَلَدَهُ وَذَهَبَ بَصَرُهُ. ثُمَّ قَالَ: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَدَ آلَةٌ لِأَكْثَرِ الْأَعْمَالِ وَالْبَصَرُ آلَةٌ لِأَقْوَى الْإِدْرَاكَاتِ، فَحَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْعَمَلِ بِالْيَدِ وَعَنِ الْإِدْرَاكِ بِالْبَصَرِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ لَهَا قُوَّتَانِ عَامِلَةٌ وَعَالِمَةٌ، أَمَّا الْقُوَّةُ الْعَامِلَةُ فَأَشْرَفُ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا طَاعَةُ اللَّهِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْعَالِمَةُ فَأَشْرَفُ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا مَعْرِفَةُ/ اللَّهِ، وَمَا سِوَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْمَعَارِفِ فَكَالْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، فَقَوْلُهُ:
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِشَارَةٌ إِلَى هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: بِخالِصَةٍ قُرِئَ بِالتَّنْوِينِ وَالْإِضَافَةِ فَمَنْ نُوَّنَ كَانَ التَّقْدِيرُ أَخْلَصْنَاهُمْ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ خَالِصِينِ لَنَا بِسَبَبِ خَصْلَةٍ خَالِصَةٍ لَا شَوْبَ فِيهَا وَهِيَ ذِكْرَى الدَّارِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْإِضَافَةِ فَالْمَعْنَى بِمَا خَلَصَ مِنْ ذِكْرَى الدَّارِ، يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَى الدَّارِ قَدْ تَكُونُ لِلَّهِ وَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَالْمَعْنَى إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِسَبَبِ مَا خَلَصَ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثانية: في ذكرى الدار وجوه الأولى: الْمُرَادُ أَنَّهُمُ اسْتَغْرَقُوا فِي ذِكْرَى الدَّارِ الْآخِرَةِ وَبَلَغُوا فِي هَذَا الذِّكْرِ إِلَى حَيْثُ نَسُوا الدُّنْيَا الثَّانِي: الْمُرَادُ حُصُولُ الذِّكْرِ الْجَلِيلِ الرَّفِيعِ لَهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الثَّالِثُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى أَبْقَى لَهُمُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا وَقَبِلَ دُعَاءَهُمْ فِي قَوْلِهِ: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٤].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ أَيِ الْمُخْتَارِينَ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِمْ وَالْأَخْيَارُ جَمْعُ خَيِّرٍ أَوْ خَيْرٌ عَلَى التَّخْفِيفِ كَأَمْوَاتٍ فِي جَمْعِ مَيِّتٍ أَوْ مَيْتٍ، وَاحْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِكَوْنِهِمْ أَخْيَارًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا يَعُمُّ حُصُولُ الْخَيْرِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَبِدَلِيلِ دَفْعِ الْإِجْمَالِ.