آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼ

كَمَا أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَاجَ إِلَى الْغَزْوِ فَجَلَسَ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ الْخَيْلِ وَأَمَرَ بِإِجْرَائِهَا وَذَكَرَ أَنِّي لَا أُحِبُّهَا لِأَجْلِ الدُّنْيَا وَنَصِيبِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا أُحِبُّهَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَطَلَبِ تَقْوِيَةِ دِينِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِإِعْدَائِهَا وَتَسْيِيرِهَا حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ أَيْ غَابَتْ عَنْ بَصَرِهِ، ثُمَّ أَمَرَ الرَّائِضِينَ بِأَنْ يَرُدُّوا تِلْكَ الْخَيْلَ إِلَيْهِ فَلَمَّا عَادَتْ إِلَيْهِ طَفِقَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا، وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْحِ أُمُورٌ الْأَوَّلُ: تَشْرِيفًا لَهَا وَإِبَانَةً لِعِزَّتِهَا لِكَوْنِهَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْوَانِ فِي دَفْعِ الْعَدُوِّ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ أَنَّهُ فِي ضَبْطِ السِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ يَتَّضِعُ إِلَى حَيْثُ يُبَاشِرُ أَكْثَرَ الْأُمُورِ بِنَفْسِهِ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ بِأَحْوَالِ الْخَيْلِ وَأَمْرَاضِهَا وَعُيُوبِهَا، فَكَانَ يَمْتَحِنُهَا وَيَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا حَتَّى يَعْلَمَ هَلْ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَرَضِ، فَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ انْطِبَاقًا مُطَابِقًا مُوَافِقًا، وَلَا يَلْزَمُنَا نِسْبَةُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَالَمَحْذُورَاتِ، وَأَقُولُ أَنَا شَدِيدُ التَّعَجُّبِ مِنَ النَّاسِ كَيْفَ قَبِلُوا هَذِهِ الْوُجُوهَ السَّخِيفَةَ مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ يَرُدُّهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ فِي إِثْبَاتِهَا شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَالْجُمْهُورُ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ، فَمَا قَوْلُكَ فيه؟ فنقول لنا هاهنا مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: أَنْ نَدَّعِيَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ الَّتِي يُذْكُرُونَهَا، وَقَدْ ظَهَرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَظُهُورُهُ لَا يَرْتَابُ الْعَاقِلُ فِيهِ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ هَبْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَا أَنَّهُ كَلَامٌ ذَكَرَهُ النَّاسُ، فَمَا قَوْلُكَ/ فِيهِ وَجَوَابُنَا أَنَّ الدَّلَالَةَ الْكَثِيرَةَ قَامَتْ عَلَى عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ وَرِوَايَةُ الْآحَادِ لَا تَصْلُحُ مُعَارِضَةً لِلدَّلَائِلِ الْقَوِيَّةِ، فَكَيْفَ الْحِكَايَاتُ عَنْ أَقْوَامٍ لَا يُبَالَى بِهِمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى أَقْوَالِهِمْ، والله أعلم.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨)
هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ شَرْحُ وَاقِعَةٍ ثَانِيَةٍ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَلِأَهْلِ الْحَشْوِ وَالرِّوَايَةِ فِيهِ قَوْلٌ، وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقِ قَوْلٌ آخَرُ، أَمَّا قَوْلُ أَهْلِ الحشو فذكروا فيه حكايات:
الْأُولَى: قَالُوا إِنْ سُلَيْمَانَ بَلَغَهُ خَبَرُ مَدِينَةٍ فِي الْبَحْرِ فَخَرَجَ إِلَيْهَا بِجُنُودِهِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ فَأَخَذَهَا وَقَتَلَ مَلِكَهَا، وَأَخَذَ بِنْتًا لَهُ اسْمُهَا جَرَادَةُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفَسِهِ وَأَسْلَمَتْ فَأَحَبَّهَا وَكَانَتْ تَبْكِي أَبَدًا عَلَى أَبِيهَا فَأَمَرَ سُلَيْمَانَ الشَّيْطَانَ فَمَثَّلَ لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فَكَسَتْهَا مِثْلَ كُسْوَتِهِ وَكَانَتْ تَذْهَبُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا مَعَ

صفحة رقم 392

جَوَارِيهَا يَسْجُدْنَ لَهَا، فَأَخْبَرَ آصَفُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ فَكَسَرَ الصُّورَةَ وَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ خَرَجَ وَحْدَهُ إِلَى فَلَاةٍ وَفَرَشَ الرَّمَادَ فَجَلَسَ عَلَيْهِ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا أَمِينَةُ إِذَا دَخَلَ لِلطَّهَارَةِ أَوْ لِإِصَابَةِ امْرَأَةٍ وَضَعَ خَاتَمَهُ عِنْدَهَا وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ فَوَضَعَهُ عِنْدَهَا يَوْمًا، فَأَتَاهَا الشَّيْطَانُ صَاحِبُ الْبَحْرِ عَلَى صُورَةِ سُلَيْمَانَ. وَقَالَ يَا أَمِينَةُ خَاتَمِي فَتَخَتَّمَ بِهِ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ فَأَتَى عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَةُ سُلَيْمَانَ فَأَتَى أَمِينَةَ لِطَلَبِ الْخَاتَمِ فَأَنْكَرَتْهُ وَطَرَدَتْهُ. فَعَرَفَ أَنَّ الْخَطِيئَةَ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْبُيُوتِ يَتَكَفَّفُ وَإِذَا قَالَ/ أَنَا سُلَيْمَانُ حَثُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ وَسَبُّوهُ، ثُمَّ أَخَذَ يَخْدِمُ السَّمَّاكِينَ يَنْقُلُ لَهُمُ السَّمَكَ فَيُعْطُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَمَكَتَيْنِ فَمَكَثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَدَدَ مَا عُبِدَ الْوَثَنُ فِي بَيْتِهِ، فَأَنْكَرَ آصِفُ وَعُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُكْمَ الشَّيْطَانِ وَسَأَلَ آصِفُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ، فَقُلْنَ مَا يَدَعُ امْرَأَةً مِنَّا فِي دَمِهَا وَلَا يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ، وَقِيلَ بَلْ نَفَذَ حُكْمُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا فِيهِنَّ، ثُمَّ طَارَ الشَّيْطَانُ وَقَذَفَ الْخَاتَمَ فِي الْبَحْرِ فَابْتَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ وَوَقَعَتِ السَّمَكَةُ فِي يَدِ سُلَيْمَانَ فَبَقَرَ بَطْنَهَا فَإِذَا هُوَ بِالْخَاتَمِ فَتَخَتَّمَ بِهِ وَوَقَعَ سَاجِدًا لِلَّهِ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ وَأَخَذَ ذَلِكَ الشَّيْطَانَ وَأَدْخَلَهُ فِي صَخْرَةٍ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: لِلْحَشَوِيَّةِ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ لَمَّا أَقْدَمَتْ عَلَى عِبَادَةِ تِلْكَ الصُّورَةِ افْتَتَنَ سُلَيْمَانُ وَكَانَ يَسْقُطُ الْخَاتَمُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَتَمَاسَكُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ آسف إِنَّكَ لَمَفْتُونٌ بِذَنْبِكَ فَتُبْ إِلَى اللَّهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ قَالُوا إِنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ لِبَعْضِ الشَّيَاطِينِ كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ فَقَالَ أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ فِي الْبَحْرِ فَذَهَبَ مُلْكُهُ وَقَعَدَ هَذَا الشَّيْطَانُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكَايَةَ إِلَى آخِرِهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَهَؤُلَاءِ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ وَقَوْلِهِ:
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً هُوَ جُلُوسُ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ عَلَى كُرْسِيِّهِ.
وَالرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ كَانَ سَبَبُ فِتْنَتِهِ احْتِجَابَهُ عَنِ النَّاسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَسُلِبَ مُلْكُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى سَرِيرِهِ شَيْطَانٌ عُقُوبَةً لَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ اسْتَبْعَدُوا هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَتَشَبَّهَ بِالصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ بِالْأَنْبِيَاءِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى اعْتِمَادٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الشَّرَائِعِ. فَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَآهُمُ النَّاسُ فِي صُورَةِ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى وَمُوسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَا كَانُوا أُولَئِكَ بَلْ كَانُوا شَيَاطِينَ تَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي الصُّورَةِ لِأَجْلِ الْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الدِّينَ بِالْكُلِّيَّةِ الثَّانِي: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُعَامِلَ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ لَوَجَبَ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى مَثَلِهَا مَعَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ، وَحِينَئِذٍ وَجَبَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَأَنْ يُمَزِّقَ تَصَانِيفَهُمْ وَأَنْ يُخَرِّبَ دِيَارَهُمْ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ آحَادِ الْعُلَمَاءِ فَلِأَنْ يَبْطُلَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَى وَالثَّالِثُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ يُسَلِّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى أَزْوَاجِ سُلَيْمَانَ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَبِيحٌ الرَّابِعُ: لَوْ قُلْنَا إِنْ سُلَيْمَانَ أَذِنَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي عِبَادَةِ تِلْكَ الصُّورَةِ فَهَذَا كُفْرٌ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْبَتَّةَ فَالذَّنْبُ عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ يُؤَاخِذُ اللَّهُ سُلَيْمَانَ بِفِعْلٍ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ؟ فَأَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرَهَا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي هَذَا الْبَابِ فَأَشْيَاءُ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِتْنَةَ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ فَقَالَتِ الشَّيَاطِينُ إِنْ عَاشَ صَارَ مُسَلَّطًا عَلَيْنَا مِثْلَ أَبِيهِ فَسَبِيلُنَا أَنْ نَقْتُلَهُ فَعَلِمَ سُلَيْمَانُ ذَلِكَ فَكَانَ يُرَبِّيهِ فِي السَّحَابِ فَبَيْنَمَا هُوَ مُشْتَغِلٌ بِمُهِمَّاتِهِ إِذْ أُلْقِيَ ذَلِكَ الْوَلَدُ مَيِّتًا عَلَى كُرْسِيِّهِ فَتَنَبَّهَ عَلَى خَطِيئَتِهِ فِي أَنَّهُ لَمْ يَتَوَكَّلْ فِيهِ عَلَى اللَّهِ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَأَنَابَ الثَّانِي:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ سُلَيْمَانُ لِأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي/ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمَلْ

صفحة رقم 393

إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ فَجِيءَ بِهِ عَلَى كُرْسِيِّهِ فَوُضِعَ فِي حِجْرِهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا كُلُّهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ»
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ بِسَبَبِ مَرَضٍ شَدِيدٍ أَلْقَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ مِنْهُ جَسَداً وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْمَرَضِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ فِي الضَّعِيفِ إِنَّهُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ وَجِسْمٌ بِلَا رُوحٍ ثُمَّ أَنابَ أَيْ رَجَعَ إِلَى حَالِ الصِّحَّةِ، فَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الرَّكِيكَةِ الرَّابِعُ: أَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَسْلِيطِ خَوْفٍ أَوْ تَوَقُّعِ بَلَاءٍ مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ عَلَيْهِ، وَصَارَ بِسَبَبِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْخَوْفِ كَالْجَسَدِ الضَّعِيفِ الْمُلْقَى عَلَى ذَلِكَ الْكُرْسِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ ذلك الخوف، وأعاده إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَطِيبِ الْقَلْبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ حَمَلُوا الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ عَلَى صُدُورِ الزَّلَّةِ مِنْهُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَقَدُّمِ الذَّنْبِ لَمَا طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفِكُ الْبَتَّةَ عَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِأَنَّهُمْ أَبَدًا فِي مَقَامِ هَضْمِ النَّفْسِ، وَإِظْهَارِ الذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ، كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً»
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ مُهِمِّ الدِّينِ عَلَى مُهِمِّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ بَعْدَهُ طَلَبَ الْمَمْلَكَةَ. وَأَيْضًا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِانْفِتَاحِ أَبْوَابِ الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ سُلَيْمَانَ طَلَبَ الْمَغْفِرَةَ أَوَّلًا ثُمَّ تَوَسَّلَ بِهِ إِلَى طَلَبِ الْمَمْلَكَةِ، وَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَكَذَا فَعَلَ أَيْضًا لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نُوحٍ: ١٠- ١٢] وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي مُشْعِرٌ بِالْحَسَدِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ اسْتَوْلَى عَلَى مَمْلَكَتِهِ قَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، هُوَ أَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ مُلْكًا لَا تَقْدِرُ الشَّيَاطِينُ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ الْبَتَّةَ، فَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُلْكَ هُوَ الْقُدْرَةُ فَكَانَ الْمُرَادُ أَقْدِرْنِي عَلَى أَشْيَاءَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي الْبَتَّةَ، لِيَصِيرَ اقْتِدَارِي عَلَيْهَا مُعْجِزَةً تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِي وَرِسَالَتِي. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَقِيبَهُ فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ فَكَوْنُ الرِّيحِ جَارِيًا بِأَمْرِهِ قُدْرَةٌ عَجِيبَةٌ وَمُلْكٌ عَجِيبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ: هَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هُوَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ شَرْطَ الْمُعْجِزَةِ أَنْ لَا يَقْدِرَ غَيْرُهُ عَلَى مُعَارَضَتِهَا، فَقَوْلُهُ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي يَعْنِي لَا يَقْدِرُ/ أَحَدٌ عَلَى مُعَارَضَتِهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا مَرِضَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الصِّحَّةِ عَرَفَ أَنَّ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا صَائِرَةٌ إِلَى الْغَيْرِ بِإِرْثٍ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي سَأَلَهُ بِقَوْلِهِ: مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَيْ مُلْكًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنِّي إِلَى غَيْرِي الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا أَشَقُّ مِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا حَالَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَا إِلَهِي أَعْطِنِي مَمْلَكَةً فَائِقَةً عَلَى مَمَالِكِ الْبَشَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، حَتَّى أَحْتَرِزَ عَنْهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِيَصِيرَ ثَوَابِي أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَسِرٌ صَعْبٌ، لِأَنَّ هَذِهِ اللَّذَّاتِ حَاضِرَةٌ وَسِعَادَاتِ الآخرة نسيئة،

صفحة رقم 394

وَالنَّقْدُ يَصْعُبُ بَيْعُهُ بِالنَّسِيئَةِ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَعْطِنِي يَا رَبِّ مَمْلَكَةً تَكُونُ أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ الْمُمْكِنَةِ لِلْبَشَرِ، حَتَّى أَنِّي أَبْقَى مَعَ تِلْكَ الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ فِي غَايَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهَا لِيَظْهَرَ لِلْخَلْقِ أَنَّ حُصُولَ الدُّنْيَا لَا يَمْنَعُ مِنْ خِدْمَةِ الْمَوْلَى الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الدُّنْيَا يَبْقَى مُلْتَفِتَ الْقَلْبِ إِلَيْهَا فَيَظُنُّ أَنَّ فِيهَا سِعَادَاتٍ عَظِيمَةً وَخَيْرَاتٍ نَافِعَةً، فَقَالَ سُلَيْمَانُ يَا رَبِّ الْعِزَّةِ أَعْطِنِي أَعْظَمَ الْمَمَالِكِ حَتَّى يَقِفَ النَّاسُ عَلَى كَمَالِ حَالِهَا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لِلْعَقْلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا فَائِدَةٌ وَحِينَئِذٍ يُعْرِضُ الْقَلْبُ عَنْهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَشْتَغِلُ بِالْعُبُودِيَّةِ سَاكِنَ النَّفْسِ غَيْرَ مَشْغُولِ الْقَلْبِ بِعَلَائِقِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ رُخَاءً أَيْ رَخْوَةً لَيِّنَةً وَهِيَ مِنَ الرَّخَاوَةِ وَالرِّيحُ إِذَا كَانَتْ لَيِّنَةً لَا تُزَعْزِعُ وَلَا تَمْتَنِعُ عَلَيْهِ كَانَتْ طَيِّبَةً، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ قُلْنَا الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ فِي قُوَّةِ الرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا جَرَتْ بِأَمْرِهِ كَانَتْ لَذِيذَةً طَيِّبَةً فَكَانَتْ رخاء والوجه الثاني: من الْجَوَابِ أَنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ لَيِّنَةً مَرَّةً وَعَاصِفَةً أُخْرَى وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَيْثُ أَصابَ أَيْ قَصَدَ وَأَرَادَ، وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فَقَالَا هَذَا مَطْلُوبُنَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرِّيحَ مُسَخَّرَةً لَهُ حَتَّى صَارَتْ تَجْرِي بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الشَّيَاطِينُ عَطْفٌ عَلَى الرِّيحِ وَكُلُّ بَنَّاءٍ بَدَلٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَآخِرِينَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كُلَّ بَنَّاءٍ وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ كَانُوا يَبْنُونَ لَهُ مَا شَاءَ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَيَغُوصُونَ لَهُ فَيَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ، وَقَوْلُهُ: مُقَرَّنِينَ يُقَالُ قَرْنَهُمْ فِي الْحِبَالِ وَالتَّشْدِيدُ لِلْكَثْرَةِ والْأَصْفادِ الْأَغْلَالُ وَاحِدُهَا صَفَدٌ وَالصَّفَدُ الْعَطِيَّةُ أَيْضًا، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَمْ أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ
فَعَلَى هَذَا الصَّفَدِ الْقَيْدُ فَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًّا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ، وَكُلُّ مَنْ أعطيته عطاء جزيلا فقد أصفدته، وهاهنا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَهَا قُوَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَبِسَبَبِ تِلْكَ الْقُوَّةِ قَدَرُوا عَلَى بِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، وَقَدَرُوا/ عَلَى الْغَوْصِ فِي الْبِحَارِ، وَاحْتَاجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى قَيْدِهِمْ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنْ هَذِهِ الشَّيَاطِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ كَثِيفَةً أَوْ لَطِيفَةً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَرَاهُمْ مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْحَاسَّةِ، إِذْ لَوْ جَازَ أَنْ لَا نَرَاهُمْ مَعَ كَثَافَةِ أَجْسَادِهِمْ، فَلْيَجُزْ أَنْ تَكُونَ بِحَضْرَتِنَا جِبَالٌ عَالِيَةٌ وَأَصْوَاتٌ هَائِلَةٌ وَلَا نَرَاهَا وَلَا نَسْمَعُهَا، وَذَلِكَ دُخُولٌ فِي السَّفْسَطَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَيْسَتْ كَثِيفَةً، بَلْ لَطِيفَةً رَقِيقَةً، فَمِثْلُ هَذَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْقُوَّةِ الشَّدِيدَةِ، وَأَيْضًا لَزِمَ أَنْ تَتَفَرَّقَ أَجْسَادُهُمْ وَأَنْ تَتَمَزَّقَ بِسَبَبِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ وَأَنْ يَمُوتُوا فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِبِنَاءِ الْأَبْنِيَةِ الْقَوِيَّةِ، وَأَيْضًا الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ إِنْ كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ، فَلِمَ لَا يَقْتُلُونَ الْعُلَمَاءَ وَالزُّهَّادَ فِي زَمَانِنَا؟ وَلِمَ لَا يُخَرِّبُونَ دِيَارَ النَّاسِ؟ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مُبَالِغُونَ فِي إِظْهَارِ لَعْنِهِمْ وَعَدَاوَتِهِمْ. وَحَيْثُ لَمْ يُحَسَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ ضَعِيفٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا يُجَوِّزُونَ أَنْ تَكُونَ أَجْسَامُهُمْ كَثِيفَةً مَعَ أَنَّا لَا نَرَاهَا، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ أَجْسَامُهُمْ لَطِيفَةٌ بِمَعْنَى عَدَمِ اللَّوْنِ، وَلَكِنَّهَا صُلْبَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّمَزُّقَ. وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَقَدْ سَلَّمَ أَنَّهَا كَانَتْ

صفحة رقم 395
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية