
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَبَحَهَا ذَبْحًا وَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا، وَكَانَ الذَّبْحُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَتِهِ (١).
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَبَسَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَوَى سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِكَيِّ الصَّدَقَةِ (٢).
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ، يَكْشِفُ الْغُبَارَ عَنْهَا حُبًّا لَهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ (٣) وَالْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ.
وَحُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: "رُدُّوهَا عَلَيَّ" يَقُولُ سُلَيْمَانُ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ: "رُدُّوهَا عَلَيَّ" يَعْنِي: الشَّمْسَ، فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ الْخَيْلُ لِجِهَادِ عَدُوٍّ، حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ.
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) ﴾
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ﴾ اخْتَبَرْنَاهُ وَابْتَلَيْنَاهُ بِسَلْبِ مُلْكِهِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَدِينَةٍ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا صَيْدُونَ، بِهَا مَلِكٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، لَمْ يَكُنْ للناس إليه سبيلا لِمَكَانِهِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ آتَى سُلَيْمَانَ فِي مُلْكِهِ سُلْطَانًا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ، إِنَّمَا يَرْكَبُ إِلَيْهِ الرِّيحَ، فَخَرَجَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، حَتَّى نَزَلَ بِهَا بِجُنُودِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَقَتَلَ مَلِكَهَا وَاسْتَوْلَى وَاسْتَفَاءَ وَسَبَى مَا فِيهَا، وَأَصَابَ فِيمَا أَصَابَ بِنْتًا لِذَلِكَ الْمَلِكِ، يُقَالُ لَهَا: جَرَادَةُ، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا حُسْنًا وَجَمَالًا فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَدَعَاهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَتْ عَلَى جَفَاءٍ مِنْهَا وَقِلَّةِ فِقْهٍ، وَأَحَبَّهَا حُبًّا لَمْ يُحِبَّهُ شَيْئًا مِنْ نِسَائِهِ، وَكَانَتْ عَلَى مَنْزِلَتِهَا عِنْدَهُ لَا يَذْهَبُ حُزْنُهَا وَلَا يَرْقَأُ دَمْعُهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: وَيْحَكِ مَا هَذَا الْحُزْنُ الَّذِي لَا يَذْهَبُ، وَالدَّمْعُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ؟ قَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَذْكُرُهُ وَأَذْكُرُ مُلْكَهُ وَمَا كَانَ فِيهِ وَمَا أَصَابَهُ فَيُحْزِنُنِي ذَلِكَ، قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقَدْ أَبْدَلَكِ اللَّهُ بِهِ مُلْكًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ مُلْكِهِ، وَسُلْطَانًا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَهَدَاكِ لِلْإِسْلَامِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ
(٢) رجحه أبو حيان في البحر المحيط: ٧ / ٣٩٦ وقال: هذا القول هو الذي يناسب مناصب الأنبياء، لا القول المنسوب للجمهور، فإن في قصته ما لا يليق ذكره بالنسبة للأنبياء.
(٣) رواه الطبري ٢٣ / ١٥٦ عن ابن عباس ورجحه قائلا: وهذا القول أشبه بتأويل الآية، لأن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن- إن شاء الله - ليعذب حيوانًا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها.

ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَتْ: إِنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَلَكِنِّي إِذَا ذَكَرْتُهُ أَصَابَنِي مَا تَرَى مِنَ الْحُزْنِ، فَلَوْ أَنَّكَ أَمَرْتَ الشَّيَاطِينَ فَصَوَّرُوا صُورَتَهُ فِي دَارِي الَّتِي أَنَا فِيهَا أَرَاهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَرَجَوْتُ أَنْ يُذْهِبَ ذَلِكَ حُزْنِي، وَأَنْ يُسَلِّيَ عَنِّي بَعْضَ مَا أَجِدُ فِي نَفْسِي، فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ الشَّيَاطِينَ، فَقَالَ: مَثِّلُوا لَهَا صُورَةَ أَبِيهَا فِي دَارِهَا حَتَّى لَا تُنْكِرَ مِنْهُ شَيْئًا، فَمَثَّلُوهُ لَهَا حَتَّى نَظَرَتْ إِلَى أَبِيهَا بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا رُوحَ فِيهِ، فَعَمَدَتْ إِلَيْهِ حِينَ صَنَعُوهُ فَأَزَّرَتْهُ وَقَمَّصَتْهُ وَعَمَّمَتْهُ وَرَدَّتْهُ بِمِثْلِ ثِيَابِهِ الَّتِي كَانَ يَلْبَسُ، ثُمَّ كَانَ إِذَا خَرَجَ سُلَيْمَانُ [مِنْ دَارِهَا] (١) تَغْدُو عَلَيْهِ فِي وَلَائِدِهَا حَتَّى تَسْجُدَ لَهُ، وَيَسْجُدْنَ لَهُ كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بِهِ فِي مُلْكِهِ، وَتَرُوحُ كُلَّ عَشِيَّةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَسُلَيْمَانُ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَبَلَغَ ذَلِكَ آصَفَ بْنَ بَرَخْيَا، وَكَانَ صِدِّيقًا، وَكَانَ لَا يُرَدُّ عَنْ أَبْوَابِ سُلَيْمَانَ، أَيَّ سَاعَةٍ أَرَادَ دُخُولَ شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ دَخَلَ، حَاضِرًا كَانَ سُلَيْمَانُ أَوْ غَائِبًا، فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَبُرَ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي، وَنَفِدَ عُمْرِي، وَقَدْ حَانَ مِنِّي الذَّهَابُ، فَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ أَقُومَ مَقَامًا قَبْلَ الْمَوْتِ أَذْكُرُ فِيهِ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأُثْنِي عَلَيْهِمْ بِعِلْمِي فِيهِمْ، وَأُعَلِّمُ النَّاسَ بَعْضَ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ، فَقَالَ: افْعَلْ، فَجَمْعَ لَهُ سُلَيْمَانُ النَّاسَ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَذَكَرَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَثْنَى عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ بِمَا فِيهِ، فَذَكَرَ مَا فَضَّلَهُ اللَّهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: مَا أَحْلَمَكَ في صغرك، ١٠٣/أوَأَوْرَعَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَفْضَلَكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَحْكَمَ أَمْرِكَ فِي صِغَرِكَ، وَأَبْعَدَكَ مِنْ كُلِّ مَا تَكْرَهُ فِي صِغَرِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَوَجَدَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَلَأَهُ غَضَبًا، فَلَمَّا دَخَلَ سُلَيْمَانُ دَارَهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا آصَفُ ذَكَرْتَ مَنْ مَضَى مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَأَثْنَيْتَ عَلَيْهِمْ خَيْرًا فِي كُلِّ زَمَانِهِمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَلَمَّا ذَكَرْتَنِي جَعَلْتَ تُثْنِي عَلَيَّ بِخَيْرٍ فِي صِغَرِي، وَسَكَتَّ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي فِي كِبَرِي؟ فَمَا الَّذِي أَحْدَثْتُ فِي آخِرِ أَمْرِي؟ فَقَالَ: إِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَيُعْبَدُ فِي دَارِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فِي هَوَى امْرَأَةٍ، فَقَالَ: فِي دَارِي؟ فَقَالَ: فِي دَارِكَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ مَا قُلْتَ الَّذِي قَلْتَ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ بَلَغَكَ، ثُمَّ رَجَعَ سُلَيْمَانُ إِلَى دَارِهِ وَكَسَرَ ذَلِكَ الصَّنَمَ، وَعَاقَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَوَلَائِدَهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِثِيَابِ الطُّهْرَةِ فَأُتِيَ بِهَا وَهِيَ ثِيَابٌ لَا يَغْزِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، وَلَا يَنْسِجُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، وَلَا يَغْسِلُهَا إِلَّا الْأَبْكَارُ، لَمْ تَمْسَسْهَا امْرَأَةٌ قَدْ رَأَتِ الدَّمَ، فَلَبِسَهَا ثُمَّ خَرَجَ إِلَى فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَحْدَهُ، فَأَمَرَ بِرَمَادٍ فَفُرِشَ لَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ تَائِبًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى ذَلِكَ الرَّمَادِ وَتَمَعَّكَ فِيهِ بِثِيَابِهِ تَذَلُّلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَضَرُّعًا إِلَيْهِ يَبْكِي وَيَدْعُو، وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا كَانَ فِي دَارِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ يَوْمَهُ حَتَّى أَمْسَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَكَانَتْ لَهُ أَمْ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا الْأَمِينَةُ، كَانَ إِذَا دَخَلَ مَذْهَبَهُ أَوْ أَرَادَ إِصَابَةَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ وَضَعَ خَاتَمَهُ عِنْدَهَا حَتَّى يَتَطَهَّرَ، وَكَانَ لَا يَمَسُّ خَاتَمَهُ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ فَوَضَعَهُ يَوْمًا عِنْدَهَا، ثُمَّ دَخَلَ مَذْهَبَهُ فَأَتَاهَا الشَّيْطَانُ صَاحِبُ الْبَحْرِ، وَاسْمُهُ صَخْرٌ، عَلَى صُورَةِ سُلَيْمَانَ لَا تُنْكِرُ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: خَاتَمِي أَمِينَةُ! فَنَاوَلَتْهُ إِيَّاهُ، فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى سَرِيرِ سُلَيْمَانَ، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَأَتَى الْأَمِينَةَ وَقَدْ غُيِّرَتْ حَالُهُ، وَهَيْئَتُهُ عِنْدَ كُلِّ مَنْ رَآهُ، فَقَالَ: يَا أَمِينَةُ خَاتَمِي، قَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَتْ: كَذَبْتَ فَقَدْ جَاءَ سُلَيْمَانُ فَأَخَذَ خَاتَمَهُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ، فَعَرَفَ سُلَيْمَانُ أَنَّ خَطِيئَتَهُ قَدْ أَدْرَكَتْهُ، فَخَرَجَ فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى الدَّارِ مِنْ دُوْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ: أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، فَيَحْثُونَ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَيَسُبُّونَهُ، وَيَقُولُونَ انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ أَيَّ شَيْءٍ يَقُولُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى سُلَيْمَانُ ذَلِكَ عَمَدَ إِلَى الْبَحْرِ، فَكَانَ يَنْقُلُ الْحِيتَانَ لِأَصْحَابِ الْبَحْرِ إِلَى السُّوقِ فَيُعْطُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَمَكَتَيْنِ، فَإِذَا أَمْسَى بَاعَ إِحْدَى سَمَكَتَيْهِ بِأَرْغِفَةٍ وَشَوَى الْأُخْرَى فَأَكَلَهَا، فَمَكَثَ بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عِدَّةَ مَا كَانَ عُبِدَ الْوَثَنُ فِي دَارِهِ، فَأَنْكَرَ آصَفُ وَعُظَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ حُكْمَ عَدُوِّ اللَّهِ الشَّيْطَانِ فِي تِلْكَ الْأَرْبَعِينَ، فَقَالَ آصَفُ: يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلْ رَأَيْتُمُ اخْتِلَافَ حُكْمِ ابْنِ دَاوُدَ مَا رَأَيْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَمْهِلُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى نِسَائِهِ فَأَسْأَلُهُنَّ فَهَلْ أَنْكَرْتُنَّ مِنْهُ فِي خَاصَّةِ أَمْرِهِ مَا أَنْكَرْنَاهُ فِي عَامَّةِ أَمْرِ النَّاسِ وَعَلَانِيَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالَ: وَيَحَكُنَّ هَلْ أَنْكَرْتُنَّ مِنْ أَمْرِ ابْنِ دَاوُدَ مَا أَنْكَرْنَا؟ فَقُلْنَ: أَشَدُّهُ مَا يَدَعُ مِنَّا امْرَأَةً فِي دَمِهَا وَلَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَا فِي الْخَاصَّةِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْعَامَّةِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُونَ صَبَاحًا طَارَ الشَّيْطَانُ عَنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَقَذَفَ الْخَاتَمَ فِيهِ، فَبَلَعَتْهُ سَمَكَةٌ فَأَخَذَهَا بَعْضُ الصَّيَّادِينَ، وَقَدْ عَمِلَ لَهُ سُلَيْمَانُ صَدْرَ يَوْمِهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ أَعْطَاهُ سَمَكَتَيْهِ وَأَعْطَاهُ السَّمَكَةَ الَّتِي أَخَذَتِ الْخَاتَمَ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بِسَمَكَتَيْهِ، فَبَاعَ الَّتِي لَيْسَ فِي بَطْنِهَا الْخَاتَمُ بِالْأَرْغِفَةِ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى السَّمَكَةِ الْأُخْرَى فَبَقَرَهَا لِيَشْوِيَهَا فَاسْتَقْبَلَهُ خَاتَمُهُ فِي جَوْفِهَا، فَأَخَذَهُ فَجَعَلَهُ فِي يَدِهِ، وَوَقَعَ سَاجِدًا، وَعَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَالْجِنُّ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَعَرَفَ الَّذِي كَانَ قَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ قَدْ حَدَثَ فِي دَارِهِ، فَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَأَمَرَ الشَّيَاطِينَ فَقَالَ: ائْتُونِي بِصَخْرٍ فَطَلَبَتْهُ الشَّيَاطِينُ حَتَّى أَخَذَتْهُ، فأتي به وجاؤوا لَهُ بِصَخْرَةٍ فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَهُ فِيهَا ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى، ثُمَّ أَوْثَقَهَا بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُذِفَ فِي الْبَحْرِ. هَذَا حَدِيثُ وَهْبٍ (٢).
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى نِسَائِهِ.
وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ سَبَبُ فِتْنَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يُقَالُ لَهَا جَرَادَةُ هِيَ آثَرُ نِسَائِهِ وَآمَنُهُنَّ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَأْتَمِنُهَا عَلَى خَاتَمِهِ إِذَا أَتَى حَاجَتَهُ، فَقَالَتْ لَهُ يَوْمًا: إِنَّ أَخِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ خُصُومَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَ لَهُ إِذَا جَاءَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ يَفْعَلْ فَابْتُلِيَ بِقَوْلِهِ، فَأَعْطَاهَا خَاتَمَهُ وَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ (٣) فَأَخَذَهُ وَجَلَسَ عَلَى مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَأَلَهَا خَاتَمَهُ فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ؟ قَالَ: لَا وَخَرَجَ مَكَانَهُ وَمَكَثَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ حُكْمَهُ، فَاجْتَمَعَ قُرَّاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعُلَمَاؤُهُمْ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا، فَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، فَبَكَى النِّسَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَقْبَلُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِهِ، ونشروا التوراة فقرؤوها فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى شُرْفَةٍ، وَالْخَاتَمُ مَعَهُ، ثُمَّ طَارَ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى الْبَحْرِ، فَوَقَعَ الْخَاتَمُ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، وَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَيَّادٍ مِنْ صَيَّادِي الْبَحْرِ وَهُوَ جَائِعٌ قَدِ اشْتَدَّ جُوعُهُ، فَاسْتَطْعَمَهُ مِنْ صَيْدِهِ، وَقَالَ: إِنِّي أَنَا سُلَيْمَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ يَغْسِلُ دَمَهُ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَلَامَ الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمُ الَّذِي ضَرَبَهُ، وَأَعْطَوْهُ سَمَكَتَيْنِ مِمَّا قَدْ مَذِرَ (٤) عِنْدَهُمْ، فَشَقَّ بُطُونَه