
وقرأ ابن أبي عبلة: «والطير محشورة» بالرفع فيهما. والضمير في: لَهُ قالت فرقة: هو عائد على داود، ف كُلٌّ للجبال والطير.
وقوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ عبارة عامة لجميع ما وهبه الله تعالى من قوة وخير ونعمة، وقد خصص بعض المفسرين في ذلك أشياء دون أشياء، فقال السدي: بالجنود. وقال آخرون: بهيبة جعلها الله تعالى له.
وقرأ الجمهور: «وشددنا» بتخفيف الدال الأولى. وروي عن الحسن: «شدّدنا» بشدها على المبالغة.
والْحِكْمَةَ: الفهم في الدين وجودة النظر، هذا قول فرقة. وقالت فرقة: أراد ب الْحِكْمَةَ النبوءة. وقال أبو العالية: الْحِكْمَةَ العلم الذي لا ترده العقول.
قال القاضي أبو محمد: هي عقائد البرهان واختلف الناس في فَصْلَ الْخِطابِ، فقال ابن عباس ومجاهد والسدي: فصل القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه. وقال علي بن أبي طالب وشريح والشعبي: فَصْلَ الْخِطابِ إيجاب اليمين على المدعى عليه، والبينة على المدعي. وقال الشعبي أيضا وزياد: أراد قول أما بعد، فإنه أول من قالها، والذي يعطيه لفظ الآية أن الله تعالى آتاه أنه كان إذا خاطب في نازلة فصل المعنى وأوضحه وبينه، لا يأخذه في ذلك حصر ولا ضعف، وهذه صفة قليل من يدركها، فكان كلامه عليه السلام فصلا، وقد قال الله تعالى في صفة القرآن: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: ١٣] ويزيد محمد ﷺ على هذه الدرجة بالإيجاز في العبارة وجمع المعاني الكثيرة في اللفظ اليسير، وهذا هو الذي تخصص عليه السلام في قوله: «وأعطيت جوامع الكلم» فإنها في الخلال التي لم يؤتها أحد قبله، ذكر جوامع الكلم معدودة في ذلك مسلم.
قوله عز وجل:
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤)
هذه مخاطبة للنبي ﷺ واستفتحت بالاستفهام تعجيبا من القصة وتفخيما لها، لأن المعنى: هل أتاك هذا الأمر العجيب الذي هو عبرة، فكأن هذا الاستفهام إنما هو تهيئة نفس المخاطب وإعدادها للتلقي. والْخَصْمِ جار مجرى عدل وزور، يوصف به الواحد والاثنان والجميع، ومنه قول لبيد: [الطويل]

وخصم يعدو الذحول كأنهم | قروم غيارى كل أزهر مصعب |
تسنمت الحائط أو البعير، إذا علوت على سنامه. والْمِحْرابَ: الموضع الأرفع من القصر أو المسجد، وهو موضع التعبد، والعامل في: إِذْ الأولى نَبَأُ وقيل: أَتاكَ. والعامل في: إِذْ الثانية تَسَوَّرُوا، وقيل هي بدل من إِذْ الأولى وقوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ يحتمل أن يكون فزعه من الداخلين أنفسهم لئلا يؤذوه، وإنما فزع من حيث دخلوا من غير الباب ودون استئذان، وقيل إن ذلك كان ليلا، ذكره الثعلبي، ويحتمل أن يكون فزعه من أن يكون أهل ملكه قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان، فيكون فزعه على فساد السيرة لا من الداخلين. ويحتمل قولهم: لا تَخَفْ أنهم فهموا منه عليه السلام خوفه.
وهنا قصص طول الناس فيها، واختلفت الروايات به، ولا بد أن نذكر منه ما لا يقوم تفسير الآية إلا به، ولا خلاف بين أهل التأويل أنهم إنما كانوا ملائكة بعثهم الله ضرب مثل لداود عليه السلام، فاختصموا إليه في نازلة قد وقع هو في نحوها، فأفتى بفتيا هي واقفة عليه في نازلته، ولما شعر وفهم المراد، خر وأناب واستغفر، وأما نازلته التي وقع فيها، فروي أنه عليه السلام جلس في ملإ من بني إسرائيل فأعجب بعمله، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف على نفسه الفتنة، ويقال بل وقعت له في مثل هذا مجاورة مع الملكين الحافظين عليه فقال لهما: جرباني يوما، فإني وإن غبتما عني لا أواقع مكروها. وقال السدي:
كان داود قد قسم دهره: يوما يقضي فيه بين الناس، ويوما لعبادته، ويوما لشأن نفسه، ففتن يوم خلوه للعبادة لما تمنى أن يعطى مثل فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يمتحن كما امتحنوا، وقيل في السبب غير هذا مما لا يصح تطويله. قال ابن عباس ما معناه: أنه أخذ داود يوما في عبادته وانفرد في محرابه يصلي ويسبح إذ دخل عليه طائر من كوة، فوقع بين يديه، فروي أنه كان طائرا حسن الهيئة: حمامة، فمد داود يده ليأخذه فزال مطمعا له فما زال يتبعه حتى صعد الكوة التي دخل منها فصعد داود ليأخذه، فتنحى له الطائر، فتطلع داود عليه السلام، فإذا هو بامرأة تغتسل عريانة، فرأى منظرا جميلا فتنه، ثم إنها شعرت به، فأسبلت شعرها على بدنها فتجللت به، فزاده ولوعا بها، ثم إنه انصرف وسأل عنها، فأخبر أنها امرأة رجل من جنده يقال له: أوريا وإنه في بعث كذا وكذا، فيروى أنه كتب إلى أمير تلك الحرب أن قدم فلانا يقاتل عند التابوت، وهو موضع بركاء الحرب قلما يخلص منه أحد، فقدم ذلك الرجل حتى استشهد هنالك.
ويروى أن داود كتب أن يؤمر ذلك الرجل على جملة من الرجال، وترمى به الغارة والوجوه الصعبة من الحرب، حتى قتل في الثالثة من نهضاته، وكان لداود فيما روي تسع وتسعون امرأة، فلما جاءه الكتاب بقتل من قتل في حربه، جعل كلما سمي رجل يسترجع ويتفجع، فلما سمي الرجل قال: كتب الموت على كل نفس، ثم إنه خطب المرأة وتزوجها، فكانت أم سليمان فيما روي عن قتادة فبعث الله تعالى إليه صفحة رقم 498

الخصم ليفتي بأن هذا ظلم. وقالت فرقة: إن هذا كله هم به داود ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك. وقال آخرون: إنما الخطأ في أن لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده، إذ كان عنده أمر المرأة.
قال القاضي أبو محمد: والرواة على الأول أكثر، وفي كتب بني إسرائيل في هذه القصة صور لا تليق، وقد حدث بها قصاص في صدر هذه الأمة، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من حدث بما قال هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حدين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله.
وقوله: خَصْمانِ تقديره: نحن خصمان، وهذا كقول الشاعر: [الطويل]
وقولا إذا جاوزتما أرض عامر | وجاوزتما الحيين نهدا وخثعما |
نزيعان من جرم ابن زبان إنهم | أبوا أن يميروا في الهزاهز محجما |
«آئبون تائبون». و: بَغى معناه: اعتدى واستطال، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
ولكن الفتى حمل بن بدر | بغى والبغي مرتعه وخيم |
وقرأ جمهور الناس: «ولا تشطط» بضم التاء وكسر الطاء الأولى، معناه: ولا تتعد في حكمك. وقرأ أبو رجاء وقتادة: «تشطط» بفتح التاء وضم الطاء، وهي قراءة الحسن والجحدري، ومعناه: ولا تبعد، يقال: شط إذا بعد، وأشط إذا أبعد غيره. وقرأ زر بن حبيش: «تشاطط» بضم التاء وبالألف. و: سَواءِ الصِّراطِ معناه: وسط الطريق ولا حبه.
وقوله: إِنَّ هذا أَخِي إعراب أخي عطف بيان، وذلك أن ما جرى من هذه الأشياء صفة كالخلق والخلق وسائر الأوصاف، فإنه نعت محض، والعامل فيه هو العامل في الموصوف، وما كان منها مما ليس ليوصف به بتة فهو بدل، والعامل فيه مكرر، وتقول: جاءني أخوك زيد، فالتقدير: جاءني أخوك جاءني زيد، فاقتصر على حذف العامل في البدل والمبدل منه في قوله: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس: ٣١] وما كان منها مما لا يوصف به واحتيج إلى أن يبين به ويجري مجرى الصفة فهو عطف بيان، وهو بين في قول الشاعر: [الرجز] يا نصر نصرا نصرا فإن الرواية في الثاني بالتنوين، فدل ذلك على أن النداء ليس بمكرر عليه، فليس ببدل، وصح فيه عطف البيان، وهذه الأخوة مستعارة، إذ هما ملكان، لكن من حيث تصورا آدميين تكلما بالأخوة التي بينهما في الدين والإيمان، والله أعلم. و «النعجة» في هذه الآية، عبر بها عن المرأة. والنعجة في كلام العرب تقع صفحة رقم 499

على أنثى بقر الوحش، وعلى أنثى الضأن، وتعبر العرب بها عن المرأة، وكذلك بالشاة، قال الأعشى:
[الكامل]
فرميت غفلة عينه عن شاته | فأصبت حبة قلبها وطحالها |
وقوله: أَكْفِلْنِيها أي ردها في كفالتي، وقال ابن كيسان، المعنى: اجعلها كفلي، أي نصيبي.
وَعَزَّنِي: معناه غلبني، ومنه قول العرب: من عزبز، أي من غلب سلب وقرأ أبو حيوة: «وعزني» بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: أراد عززني، فحذف الزاي الواحدة تخفيفا كما قال أبو زيد:
أحسن به فهن إليه شوس قال أبو حاتم: ورويت «عزني» بتخفيف الزاي عن عاصم. وقرأ ابن مسعود وأبو الضحى وعبيد بن عمير: «وعازني»، أي غالبني.
ومعنى قوله: فِي الْخِطابِ كان أوجه مني وأقوى، فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي، وقوته أعظم من قوتي، فيروى أن داود عليه السلام لما سمع هذه الحجة قال للآخر: ما تقول؟ فأقر وألد، فقال له داود: لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك. وقال للثاني: لقد ظلمك، فتبسما عند ذلك، وذهبا ولم يرهما لحينه، فشعر حينئذ للأمر. وروي أنهما ذهبا نحو السماء بمرأى منه. وقيل بل بينا فعله في تلك المرأة وزوجها، وقالا له: إنما نحن مثال لك. وقال بعض الناس: إن داود قال: لقد ظلمك، قبل أن يسمع حجة الآخر، وهذه كانت خطيئة ولم تنزل به هذه النازلة المروية قط.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق ابن عطية رضي الله عنه: وهذا ضعيف من جهات، لأنه خالف متظاهر الروايات، وأيضا فقوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ إنما معناه إن ظهر صدقك ببينة أو باعتراف، وهذا من بلاغة الحاكم التي ترد المعوج إلى الحق، وتفهمه ما عند القاضي من الفطنة. وقال الثعلبي: كان في النازلة اعتراف من المدعى عليه حذف اختصارا، ومن أجله قال داود: لَقَدْ ظَلَمَكَ.
وقوله عليه السلام: «لقد ظلمت بسؤال نعجتك» أضاف الضمير إلى المفعول، والْخُلَطاءِ الأشراك والمتعاقبون في الأملاك والأمور، وهذا القول من داود وعظ وبسط لقاعدة حق ليحذر من الوقوع في خلاف الحق. وما في قوله: وَقَلِيلٌ ما هُمْ زائدة مؤكدة.
وقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ معناه: شعر للأمر وعلمه. وقالت فرقة: ظَنَّ هنا بمعنى أيقن.
قال القاضي أبو محمد: والظن أبدا في كلام العرب إنما حقيقته توقف بين معتقدين يغلب أحدهما على الآخر، وتوقعه العرب على العلم الذي ليس على الحواس ولا له اليقين التام، ولكن يخلط الناس في صفحة رقم 500