العظيمة واذكر ذلته التي عاتبته عليها مع كرامته عليّ ومعزته عندي وتأسّ به «إِنَّهُ أَوَّابٌ ١٧» أي كثير الرجوع إلى ربه بالتوبة والندم، ثم شرع يقص نعمه على داود فقال «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ» بتسبيحه إذا سبح «بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ ١٨» صباح مساء، فالعشي من العصر إلى الليل، والإشراق من طلوع الشمس إلى الضحى، قال ابن عباس ما عرفت صلاة الضحى إلا في هذه الآية «وَالطَّيْرَ» تسبح بتسبيحه أيضا «مَحْشُورَةً» حالة كونها مجموعة لديه، قال ابن عباس كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير «كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ١٩» رجّاع يردد تسبيحه كل منهم «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» قوّيناه بالحرس والجنود، كما قويناه بأمر الدين ولهذا وصفه بكلمة ذي الأيد بما يشمل القوتين، ويدل على الأخير قوله أواب، وعلى الأول وشددنا ملكه «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ» هي المعرفة بحقائق الأشياء وكنهها وماهيتها وكل كلام وافق الحق فهو حكمة «وَفَصْلَ الْخِطابِ» التمييز بين الحق والباطل والحكم بما يوافق مراد الله، فاجتمعت له القوى الأربع: قوة الدين وقوة الملك وقوة الحكمة وقوة الحكم وقيل فصل الخطاب جملة (أما بعد) لأنه أول من تكلم بها، لأن الأمر الذي له شأن يستفتح فإذا أراد الشروع في الغرض المسوق إليه فصل بين الخطبة وبينه بها والأول أولى، ومن جملة نعم الله على داود إذ أعطاه النبوة والسلطان، راجع نسبه وكيفية إعطائه الملك بتفسير قوله تعالى (وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) الآية ٢٥٠ من البقرة في ج ٣ وكان قبله الملك في سبط والنبوة في سبط آخر من أسباط يعقوب الاثني عشر أي أولاده
ثم طفق يقص على رسوله زلة داوود فقال «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ» يطلق على الجماعة المتخاصمين «إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ٢١» بيت عبادة داوود وخلوته مع ربه، إذ كانوا يسمونه محرابا ومنه محراب زكريا ومريم الواردين في الآية ١٥ من مريم الآتية و ٣٧ من آل عمران في ج ٣ ويطلق على صدر المسجد ومحل وقوف الإمام عندنا أي هل بلغك ذلك «إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ» لعدم دخولهم من الباب وقفزهم من أعلى الجدار وعدم استئذانهم إذ لم يحس بهم إلا وهم بين يديه،
فقال لهما: لماذا دخلتما متسورين الجدار ولم تستأذنوا وتدخلوا من الباب وكان عليه علامة الفزع لما رأى من جراءتهما هذه «قالُوا لا تَخَفْ» ولا تظن بنا سوءا انما نحن «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» وهذا من معاريض الكلام لا من تحقيق البغي لأنهما جبريل واسرافيل عليهما السلام أوفدهما الله إلى نبيه داود ليعرفاه زلته وذلك انه عليه السلام رأى آباءه إبراهيم ويعقوب وإسحق أفضل منه فسأل ربه عن ذلك، فقال: إنهم ابتلوا فصبروا ففضلوا، فقال يا رب لو ابتليتني لصبرت ولم يسأله العافية مما ابتلاهم طلبا لعلو الدرجات عنده لا اختبارا، فامتحنه الله بما ذكرهنا قال تعالى «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ» تجر وتحف وتملّ عنه «وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ ٢٢» في هذه الخصومة بان تتبع الحق فيها وتعدل عن الباطل، قال تكلما، فقال أحدهما «إِنَّ هذا أَخِي» في الدين والخلقة لأن الملائكة لا تناسب بينهم ولا تقارب لأنهم خلقوا بلا شهوة ولا توالد بل بطريق التولد بلفظ كن بين الكاف والنون وإذا لم يكن توالد فلا تكون قرابة «لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً» امرأة والعرب تكني عن المرأة بالنعجة، قال ابن عون:
أنا أبوهن ثلاث هن... رابعة في البيت صغراهن
ونعجتي خمس توفيهن... آلا فتى سمح يغذيهن
«وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ» وهذا على سبيل التعريض وتصوير المسألة إذ ليس في الواقع هناك نعاج ولا يعني ولا يمنع فعل ذلك على فرض وجوده على الملائكة «فقال» صاحب للتسع والتسعين لصاحب الواحدة «أَكْفِلْنِيها» أعطينها وتنازل عنها واجعلها نصيبي لأن الكفيل النصيب «وَعَزَّنِي» غلبني وفي المثل من عزيز أي تفوّق عليّ وأخذني بفصاحته «فِي الْخِطابِ ٢٣» المخاطبة أو في الخطبة حين طلبها منه وقد صور الملكان الحادثة ومثلاها حرفيّا ولم يتركا منها الا إبدال المرأة بالنعجة قال داود عليه السلام بعد أن سأل الخصم الآخر واعترف له بالحادثة كما قررها الخصم الأول، لأنه لا يمكن أن يحكم قبل أخذ الجواب من الخصم ولهذا بين بحكمه سبب الظلم فقال والله انّ هذا «لَقَدْ ظَلَمَكَ» يا صاحب النعجة
الواحدة «بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ» وضمها «إِلى نِعاجِهِ» التسع والتسعين ولكن ليس هذا وحده الباغي «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ» الشركاء أمثاله الذين يخلطون أموالهم باموال غيرهم وتطلق كلمة الخلطاء على غير المحمودين من الناس ولذلك قال «لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ» بسائق الطمع والحرص وحب التكاثر بالأموال التي تميل بذويها إلى الباطل إن لم يتولّهم الله بلطفه وهم المتشبثون بقوله عز قوله «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» فإنهم لا يبغون ولا يطمعون «وَقَلِيلٌ ما هُمْ» الصالحون المؤمنون المبعدون عن الظلم جدا قليلون ولما فهمهما حكمه هذا نظرا إلى بعضهما وصعدا إلى السماء على مرأى من داود فعرفهما أنهما أنها ملكان بعثهما الله اليه ليذكراه ما وقع منه من الخطيئة، ويروى أن داود حينما سأل المدعى عليه عن سبب أخذه النعجة أجابه بانه يريد إكمال نعاجه مائة بها فقال داود ان رمت ذلك ضربنا منك هذا وأشار إلى أنفه وجبهته، فقال يا داود أنت أحق أن يضرب منك هذا، لأنك فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا. فإن صح قول الملك إلى داود هذا الكلام يحمل على ان ذنوب الأنبياء مهما صغرت فهي كبائر بالنظر لعلو شأنهم. والقصد من قوله فعلت كيت وكيت انك كلفت الرجل بالتنازل عن زوجته أو خطيبته لك مع استغناءك عنها تبعا لإرادة نفسك قال ابن عباس: ان داود لما دخل عليه الملكان وقضى على نفسه تحولا في صورتها وعرجا إلى السماء وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم أنهما عنياه وانهما ملكان وتنبه لعمله ولهذا قال تعالى «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ» ابتليناه واختبرناه حتى عرف زلته «فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ» مما وقع منه «وَخَرَّ» سقط على الأرض «راكِعاً» ساجدا لأن الركوع مجاز من السجود ولأن الخرّ السقوط وتقول العرب نخلة راكعة وساجدة إذا رأوها ساقطة على الأرض. قال قائلهم:
فخر على وجهه راكعا... وتاب إلى الله من كل ذنب
فمعناه السجود الا انه يعبر عنه أحيانا بالركوع مجازا «وَأَنابَ ٢٤» إلى ربه راجعا عن خطأه تائبا من زلته تعظيما لامتحان ربه واستعطافا لجلب رحمته فقبل
الله منه وسترها عليه وأظهر له قبول توبته بقوله «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ» الذي وقع منه «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى» قرية ومكانة حسنة «وَحُسْنَ مَآبٍ ٢٥» مرجع ومعاد فوق المغفرة بسبب اعترافه وندمه الآتي، وهذه السجدة عند أبي حنيفة من عظ ثم السجود لما روى البخاري. قال مجاهد قلت لابن عباس أأسجد في (ص) فقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) الآيات ٨٤ الى ٩١ من الأنعام في ج ٢. فقال نبيكم أمران نقتدي بهم فسجدها داود وسجدها محمد صلوات الله عليهم وسلامه.
وعند الشافعي، انها سجدة نبيّ لا توجب سجود التلاوة، وقدمنا ما يتعلق بهذا أواخر سورتي والنجم والعلق المارتين فراجعهما ففيهما كفاية. هذا ما قصه الله علينا من زلة داود عليه السلام،
مطلب قصة داود وسجود ابو بكر:
ولكن القصاص ذكروا وجوها كثيرة فيما وقع من السيد داود عليه السلام، أقوالا أعدلها وأقربها إلى المنطق وأصدقها عقلا هو ان داود عليه السلام كان رأى زوجة عامله أوريا فأعجبته، وكان في زمانه جواز سؤال الرجل أن يتنازل للغير عن زوجته، وكانت هذه عادة متفشية بينهم فسأله النزول عنها إليه، فلم يسعه أن يرده لما له من الهيبة والوقار في مقام النبوة والملك، فتنازل له عنها ثم تزوجها وأولدها سليمان عليه السلام، فعتب الله عليه لعظم منزلته عنده وكثرة نسائه ووجود أمثالها في أمته وعدم منع إرادته، وانه لا ينبغي لمثله وعنده النساء الكثيرات وقدرته على تزوج من شاء فيهن أن يسأل رجلا من رعيته ليس له غير امرأة واحدة التنازل عنها له، بل كان عليه أن يغلب هواه ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به من رؤيتها وإعجابها، وليس في هذا ما يدل على الذنب بمعناه الحقيقي، لأن أهل زمانه لا يرون به بأسا لكثرة وقوعه، إلا أن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها شرفا، فيطالبون بأكمل الأخلاق وأسمى الأوصاف فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشر الذين هم دونهم مرتبة ومقاما وعزة عاقبهم الله عقاب معاتبة ليتيقظوا ويتنزهوا عن أمثاله، ثم يغفره لهم. وإن مثل هذا لا يعدّ ذنبا في حق بقية البشر، ألا ترى أن المهاجرين لما نزلوا على الأنصار في المدينة ساووهم بمالهم وتشبهم وتخلوا لهم عن بعض نسائهم، فتزوجوهن ولم يروا بأسا بذلك، ولم ت (٢٠)
يتورعوا عن زواجهن، لأن هذا مما تعورف عند الأعراب، ولا تزال هذه العادة حتى الآن لدى عرب البادية، وإن الرجل منهم قد يأتي إلى الآخر ويقول له على ملأ من الناس (خلّ لي زوجتك) أي تنازل لي عنها طلقها وأعطنيها لأتزوجها فيفعل، وكثيرا ما تقول المرأة لزوجها خلني لفلان فيخليها أي يطلقها فتتزوج به، الا ان الأنبياء لما فضلوا على غيرهم ورفعهم الله بالنبوة لا يليق بمقامهم الشريف التنازل لبعض ما فيه بأس من عادات الناس لأنها تحط بقدرهم، وكذلك الأمثل فالأمثل ينبغي أن لا يقارب أمثال هذا وأن يتورع عنه كل ذي مروءة لأن الزمن هذا غير ذاك، ورحم الله امرأ جب المغيبة عن نفسه، هذا وقيل أن أوريا خطب تلك المرأة وغاب في غزاة فخطبها داود بعده وتزوجها، فاغتم أوريا لذلك، فعاتب الله داود عليه، واستدل صاحب هذا القيل بقوله تعالى (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي الخطبة، ووجه العتب عليه خطبة على خطبته وقد جاءت شريعتنا بها حيث نهى رسول الله الخطبة على الخطبة والبيع على البيع راجع كتب الفقه بذلك، فالحادث عبارة عن إحدى هاتين وهي موافقة في المعنى لما أخبر الله به عنه وقد اعتمد جهابذة المفسرين، أما ما ذكره بعض الأخباريين، في أنه عليه السلام حين رأى المرأة أحبها وبعث زوجها أوريا إلى الغزو أو أمر بإرساله، وأن يتقدم التابوت لا يرجع حتى يقتل بقصد أخذ زوجته، فهو باطل بعيد عن الصحة، تتحاشى غير الأنبياء ومروءتهم عنه، وإن إرشادهم للخلق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يحول دون ذلك، ويتباعد مقامهم الشريف عنه، بل غيرهم من الصالحين لا يقدر عليه، ولأنه لو نسب إلى آحاد المؤمنين لاستنكف عن قربه وأنف من إحداهما مثله، فكيف يجوز إذا نسبته إلى صفوة خلق الله وأمينه على الوحي، روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة جلدة مضاعفا. لأن الجلد غايته ثمانون وهذا حد الفرية على الأنبياء، قال القاضي عياض لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطر الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا في مثل حادثة داود وسليمان
صفحة رقم 306
ويوسف وأيوب عليهم السلام لانهم لم ينقلوها من كتاب صحيح، ولم يتلقوها من ثقة. وإن الله تعالى لم ينص على شيء من ذلك ولا رسوله أخبر به، وقال الإمام فخر الدين الرازي: حاصل ما ذكره القصاص يرجع الى أمرين: السعي إلى قتل رجل مؤمن بغير حق، والطمع في أخذ زوجة ذات زوج، وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل أن يظن أبدا بداود عليه السلام أنه أقدم على ذلك، كيف وإن الله أثنى عليه قبل ذكر القصة المسطورة في القرآن وبعدها، مما يدل على استحالة ما نقله القصاصون
، وكيف يتوهم من له مسكة من عقل، أن يقع ذم بين مدحين في كلام الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، إذ لو وقع مثله بين كلام الناس لاستهجن، ولقال العقلاء للقائل أنت في مدح فكيف تذم من تمدح أثناء مدحك له؟
ومن المعلوم أن الأنبياء أنموذج البشر فلا يقع منهم إلا ما يكون قدوة لهم في الأخلاق والآداب لأنهم كاملون ولا يصدر من الكامل إلا الكامل، وقيل كلام الله ملك الكلام، ورأي العاقل عقل من الآثام. قال تعالى «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً» عنا «فِي الْأَرْضِ» لتدبير أمر أهلها في معاشهم ومعادهم نيابة عنا وأعلم أن هذه الآية تشير إلى أن التوبة تمحو الذنب كما جاءت الآثار الصحيحة به وإلى أن حالة داود عليه السلام بعد التوبة كحالته قبلها فلم يتبدل أو يتغير عليه شيء من الله بدلالة قوله «فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الذي شرعته لك لتقوم به بينهم، وبما أوحيه إليك فيما تردد فيه «وَلا تَتَّبِعِ» منه في حكمك «الْهَوى» فنقض بما تراه نفسك لان اتباع هوى النفس لا يكاد يقع من معصوم مثلك، وهذا على سبيل الإرشاد لمقتضى الخلافة وتنبيه لغيره ممن يتولى القضاء بين الناس، ولان الحكم بغير ما شرعه الله غير مناسب لمقامه تعالى، ولهذا كان حضرة الرسول الأعظم عند ما يسأل عن شيء لم ينزل به الله قرآنا، يرجىء الجواب حتى يتلقى الوحي فيه خوفا من أن يفتي بغير مراد الله «فَيُضِلَّكَ» اتباع الهوى في القضاء وغيره «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» طريقه السوي الذي سنه لعباده. ومما يدل على أن في هذه الآية تنبيه ولاة الأمور على الإطلاق من الوقوع في الخطأ والحكم بالرأي أو العلم قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ»
في الأحكام وغيرها «لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» في الآخرة «بِما نَسُوا» غفلوا عما أمروا به في الدنيا، ومن أعظم ذلك عذابا ترك العدل في القضاء «يَوْمَ الْحِسابِ ٢٦» والجزاء لأنهم لو تذكروا عذاب الله في ذلك اليوم العظيم لما فرطوا في الأمر ولما حصلت لهم الغفلة والنسيان والخطأ. كان إسماعيل الساماني إذا قضى بشيء قال: إلهي هذا جهدي وطاقتي ولا أعلم أجنفت أم ظلمت فاغفر لي. وأنا ممن يقول هذا، وأستغفر الله. هذا، وإذا أردت استيفاء هذا البحث فعليك بمراجعة تفسير الآية ٥٨ من النساء في ج ٣ لأنا سنبين فيها إن شاء الله ما تقف عليه مما يتعلق في هذا البحث، قال بعض المفسرين إن ذنب داوود الذي أستغفر منه ليس بسبب أوريا وزوجته، بل بسبب قضائه للخصم قبل سماع كلام الآخر، ولحكمه بالظلم عليه بمجرد الدعوى، وهذا مخالف للعدل، فتاب وقبلت توبته ويستدل بهذا على نزاهة داود عليه السلام مما أسند اليه ولكن الأول أولى وأحرى.
مطلب الحكم الشرعي في الأحكام:
الحكم الشرعي: لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه ولا قبل سماع دفاع الخصم وإن فصل الخطاب في شريعتنا، هو البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ويجب عليه أن يتبصر بكلام الطرفين ويسوي بينهما بالمكان والكلام، والنظر ويتروى بالحكم بأن يتحقق من صحة الدعوى، ومطابقة الشهادة لها، ولبعضها، ومن عدالة الشهود وعدم المانع من قبولهم حتى تقطع الخصومة بوجه صحيح يكسر من عزم المنكر وجحوده، وأن يفهم حكمه إلى المحكوم عليه بلين ورفق ويبين له خطأه في إنكاره ويفصل أسباب الحكم وصحة الدعوى ليقع في قلبه عدم الحيف عليه ومنه، فهذا إذا لم يحمل المدعى عليه على الانحراف بالحق يحمله على الاعتراف بعدل الحاكم ويحمل ما يراه من الخطأ حسب زعمه على اجتهاد القاضي، والاجتهاد قد يحتمل الخطأ فيسلك طريق المراجعة إلى محكمة أخرى إذا كان يعتقد الخطأ فيه برضى واختيار وسكينة، راجع حديث البطاقة في الآية ٧ من الأعراف الآتية، وهذا كله يتوقف
على تحري العدل ومعرفه العلم وأصول القضاء، فيا ويل قضاة زماننا- وأنا منهم- إذا لم يسلكوا ما سنه الله لهم ورسوله، ويا ويل من ولاهم إذا كان في رعيته من هو خير منهم، ولا حول عن اجتناب المعصية، ولا قوة على فعل الطاعة إلا بإرادة الله وتوفيقه، قال بعض المفسرين: لما أنتبه داوود إلى خطأه الذي هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، سجد لله أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لصلاة مكتوبة عليه، ثم يعود ساجدا تمام الأربعين يوما لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه، وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله قبول توبته وكان من جملة دعائه في سجوده: سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور، سبحان الحائل بين القلوب، إلهي خليت بيني وبينك عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي، سبحان خالق النور، إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر، سبحان خالق النور، إلهي الويل لداوود يوم يكشف عنه الغطاء، فيقال هذا داوود الخاطئ، سبحان خالق النور، إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة، وإنما ينظر الصالحون من طرف خفي، سبحان خالق النور، إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل فيه أقدام الخائنين ولم يزل كذلك حتى قبل الله توبته، على أن ظاهر القرآن يشعر بقبول توبته آنيا لقوله تعالى: «فَغَفَرْنا لَهُ» والفاء تفيد التعقيب والترتيب وهناك أخبار أخرى من قبول توبته أعرضنا عنها لعدم الوقوف بها اكتفاء بما ذكره الله القائل «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا» عبثا لعبا ولهوا «ذلِكَ» أي خلقهما باطلا «ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» ليس إلا «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ٢٧» على ظنهم الباطل هذا لأنا لم نخلق شيئا إلا لحكمة بالغة «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» الذين يتفكرون في عجائبهما ويمعنون النظر فيما بينهما من الصنع البديع والمخلوقات المتنوعة والانتظام في سير الكواكب وما يحدث عنها من المنافع وكيفية نبات الأرض واختلاف أصنافه وألوانه وأشكاله وما فيها من المياه والأودية والجبال وما خد فيها من الطرق والمغاور والوديان، وما أودعه فيها من المعادن والدواب والحيات والطير
صفحة رقم 309وما أودع فيها من الداء والدواء في نباتها ومعادنها، أي لا نجعل الصالحين المصلحين «كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ» الذين لا يفقهون شيئا من ذلك ولا يتدبرون مراد الله فيهما وما فيهما، وفضلا عن هذا يزعمونها باطلا، كلا لا يجعلهم الله سواء في الدنيا ولا في الآخرة «أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ» ما نهوا عنه الملازمين ما أمروا به لأن الخير كل الخير في التقوى وما أحسن ما قيل فيها:
ولست أرى السعادة جمع مال | ولكن التقيّ هو السعيد |
وتقوى الله خير الزاد ذخرا | وعند الله للأتقى مزيد |
وما لا بدّ أن يأتي قريب | ولكنّ الذي يمضي بعيد |