عَلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشَكِّهِمْ فِي صِدْقِهِ، وَقَالُوا:
اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الْأَنْفَالِ: ٣٢] فَقَالَ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّكَّ إِنَّمَا حَصَلَ بِسَبَبِ عَدَمِ نُزُولِ الْعَذَابِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَوَابِ عَنْ تِلْكَ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ مَنْصِبٌ عَظِيمٌ وَدَرَجَةٌ عَالِيَةٌ وَالْقَادِرُ عَلَى هِبَتِهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزًا أَيْ كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَوَهَّابًا أَيْ عَظِيمَ الْجُودِ وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِذَا كَانَ هُوَ تَعَالَى كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَكَامِلَ الْجُودِ، لَمْ يَتَوَقَّفْ كَوْنُهُ وَاهِبًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ عَلَى كَوْنِ الْمَوْهُوبِ مِنْهُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، وَلَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ أَيْضًا بِسَبَبِ أَنَّ أَعْدَاءَهُ يُحِبُّونَهُ أَوْ يَكْرَهُونَهُ وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مُغَايِرًا لِلْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ وَالْفَرْقُ أَنَّ خَزَائِنَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ومن جملة تلك الخزائن هو هذه السموات وَالْأَرْضُ، فَلَمَّا ذَكَّرَنَا الْخَزَائِنَ أَوَّلًا عَلَى عُمُومِهَا أَرْدَفَهَا بِذِكْرِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ أَحَدُ أَنْوَاعِ خَزَائِنِ اللَّهِ، فَإِذَا كُنْتُمْ عَاجِزِينَ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، فَبِأَنْ تَكُونُوا عَاجِزِينَ عَنْ كُلِّ خَزَائِنِ اللَّهِ كَانَ أَوْلَى، فَهَذَا مَا أَمْكَنَنِي ذِكْرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنِ ادَّعَوْا أَنَّ لهم ملك السموات وَالْأَرْضِ فَعِنْدَ هَذَا يُقَالُ لَهُمُ ارْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ وَاصْعَدُوا فِي الْمَعَارِجِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْعَرْشِ حَتَّى يَرْتَقُوا عَلَيْهِ وَيُدَبِّرُوا أَمْرَ الْعَالَمِ وَمَلَكُوتَ اللَّهِ وَيُنْزِلُوا الْوَحْيَ عَلَى مَنْ يَخْتَارُونَ، وَاعْلَمْ أَنَّ حُكَمَاءَ الْإِسْلَامِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَامَ الْفَلَكِيَّةَ وَمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الْقُوَى وَالْخَوَاصِّ أَسْبَابٌ لِحَوَادِثِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْفَلَكِيَّاتِ أَسْبَابًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ فَفِيهِ مَقَامَانِ مِنَ الْبَحْثِ أَحَدُهُمَا: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالثَّانِي:
فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِمَا قَبْلَهَا أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ: جُنْدٌ مُبْتَدَأٌ وَمَا لِلْإِيهَامِ كَقَوْلِهِ جِئْتُ لِأَمْرٍ مَا، وَعِنْدِي طَعَامٌ مَا، ومِنَ الْأَحْزابِ صفة لجند ومَهْزُومٌ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: هُنالِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِجُنْدٍ أَيْ جُنْدٌ ثَابِتٌ هُنَالِكَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَهْزُومٍ مَعْنَاهُ أَنَّ الْجُنْدَ مِنَ الْأَحْزَابِ مَهْزُومٌ هُنَالِكَ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانُوا يَذْكُرُونَ/ فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الطَّاعِنَةَ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّهُ تعالى لما قال إن كانوا يملكون السموات وَالْأَرْضَ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ، ذَكَرَ عَقِيبَهُ أَنَّهُمْ جند من الأحزاب منهزمون ضعيفون، فكيف يكونون مالكي السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، قَالَ قَتَادَةُ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيُهْزَمُ جُنْدُ الْمُشْرِكِينَ فَجَاءَ تَأْوِيلُهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَالْأَصْوَبُ عِنْدِي حَمْلُهُ عَلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جُنْدٌ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ هُوَ مَكَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ سَيَصِيرُونَ مُنْهَزِمِينَ فِي مَكَّةَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا يَوْمَ الفتح. والله أعلم.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ٢٠]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ، إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ، وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ.
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ شُبْهَةِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا تَوَانَوْا وَتَكَاسَلُوا فِي النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، لِأَجْلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْزِلْ بِهِمُ الْعَذَابُ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَقْوَامَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا كَانُوا ثُمَّ بِالْآخِرَةِ نَزَلَ ذَلِكَ الْعِقَابُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَخْوِيفُ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يُكَذِّبُونَ الرَّسُولَ فِي إِخْبَارِهِ عَنْ نُزُولِ الْعِقَابِ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرَ اللَّهُ سِتَّةَ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ أَوَّلُهُمْ قَوْمُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمَّا كَذَّبُوا نُوحًا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالْغَرَقِ وَالطُّوفَانُ والثاني:
عاد قَوْمُ هُودٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالرِّيحِ وَالثَّالِثُ: فِرْعَوْنُ لَمَّا كَذَّبَ مُوسَى أَهْلَكَهُ اللَّهُ مَعَ قَوْمِهِ بِالْغَرَقِ وَالرَّابِعُ:
ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ فَأُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ وَالْخَامِسُ: قَوْمُ لُوطٍ كذبوه فأهلكوا بِالْخَسْفِ وَالسَّادِسُ: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ كَذَّبُوهُ فَأُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، قَالُوا وَإِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِ ذَا الْأَوْتَادِ لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ ثَبَاتِ الْبَيْتِ الْمُطْنَبِ بِأَوْتَادِهِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِإِثْبَاتِ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ غَنُوا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ | فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ |
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الْأَحْزابُ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ مِنَ الْأُمَمِ هم الذين تحزبوا على أنيائهم فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَكَذَلِكَ نَفْعَلُ بِقَوْمِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: جُنْدٌ مَا هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ [ص: ١١] أَنَّ قَوْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُنْدٌ مِنَ الْأَحْزَابِ، أَيْ مِنْ جِنْسِ الْأَحْزَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ عَامَلَ الْأَحْزَابَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالْإِهْلَاكِ كَانَ ذَلِكَ تَخْوِيفًا شَدِيدًا لِقَوْمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ الْأَحْزابُ مُبَالَغَةٌ لِوَصْفِهِمْ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الرَّجُلُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ حَالَ أُولَئِكَ الْأَحْزَابِ مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِمْ لَمَّا كَانَ هُوَ الْهَلَاكَ وَالْبَوَارَ، فَكَيْفَ حَالُ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءِ الْمَسَاكِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامَ إِنْ صَدَّقُوا بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فَهُوَ تَحْذِيرٌ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِهَا فَهُوَ تَحْذِيرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ آثَارَ هَذِهِ الْوَقَائِعِ بَاقِيَةٌ وَهُوَ يُفِيدُ الظَّنَّ الْقَوِيَّ فيحذرون، ولأن ذكر ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيرِ يُوجِبُ الْحَذَرَ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ أَيْ كُلُّ هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَمَّا كَذَّبُوا أَنْبِيَاءَهُمْ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، لَا جَرَمَ نَزَلَ الْعِقَابُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ زَجْرُ السَّامِعِينَ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ وَإِنْ تَأَخَّرَ هَلَاكُهُمْ فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ فَقَالَ: وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً مَا لَها مِنْ فَواقٍ وَفِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصَّيْحَةِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنْ يكون المراد عذابا يفجؤهم وَيَجِيئُهُمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَمَا يُقَالُ صَاحَ الزَّمَانُ بِهِمْ إِذَا هَلَكُوا قَالَ الشَّاعِرُ:
صَاحَ الزَّمَانُ بِآلِ بَرْمَكٍ صَيْحَةً | خَرُّوا لِشِدَّتِهَا عَلَى الْأَذْقَانِ |
وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآية: «يأمر الله إِسْرَافِيلُ فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الْفَزَعِ، قَالَ فَيُمِدُّهَا وَيُطَوِّلُهَا»
وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ: مَا لَها مِنْ فَواقٍ ثُمَّ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا: مَا لَهَا سُكُونٌ وَالثَّانِي: مَا لَهَا رُجُوعٌ، وَالْمَعْنَى مَا تَسْكُنُ تِلْكَ الصَّيْحَةُ وَلَا تَرْجِعُ إِلَى السُّكُونِ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ بَقِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، إِنَّهُ لَا يُفِيقُ مِنْهُ وَلَا يستفيق، والله أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. صفحة رقم 372
اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص:
٤] أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أَوَّلُهَا: تَتَعَلَّقُ بِالْإِلَهِيَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً وَالثَّانِيَةُ:
تَتَعَلَّقُ بِالنُّبُوَّاتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨] وَالثَّالِثَةُ: تَتَعَلَّقُ بِالْمَعَادَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْإِنْكَارِ لِلْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، فَكَانُوا يَسْتَدِلُّونَ بِفَسَادِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ عَلَى فَسَادِ نُبُوَّتِهِ، وَالْقِطُّ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ لِأَنَّهُ قُطِعَ مِنْهُ مِنْ قِطِّهِ إِذَا قَطَعَهُ وَيُقَالُ لِصَحِيفَةِ الْجَائِزَةِ قِطُّ، وَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ، قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ:
عَجِّلْ لَنَا نَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، أَوْ عَجِّلْ لَنَا صَحِيفَةَ أَعْمَالِنَا حَتَّى نَنْظُرَ فِيهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا بَالَغُوا فِي السَّفَاهَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قالوا: إنه سَاحِرٌ كَذَّابٌ وَقَالُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أَمَرَهُ اللَّهُ بِالصَّبْرِ عَلَى سَفَاهَتِهِمْ، فَقَالَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ فَإِنْ قِيلَ. أَيُّ تَعَلُّقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ؟ قُلْنَا بَيَانُ هَذَا التَّعَلُّقِ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: كَأَنَّهُ قِيلَ إِنْ كُنْتَ قَدْ شَاهَدْتَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ جَرَاءَتَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنْكَارَهُمُ الْحَشْرَ وَالنَّشْرَ، فَاذْكُرْ قِصَّةَ دَاوُدَ حَتَّى تَعْرِفَ شِدَّةَ خَوْفِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْ/ يَوْمِ الْحَشْرِ، فَإِنَّ بِقَدْرِ مَا يَزْدَادُ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ شَرَفًا يَزْدَادُ الضِّدُّ الْآخَرُ نُقْصَانًا وَالثَّانِي: كَأَنَّهُ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَضِيقُ صَدْرُكَ بِسَبَبِ إِنْكَارِهِمْ لِقَوْلِكَ وَدِينِكَ، فَإِنَّهُمْ إِذَا خَالَفُوكَ فَالْأَكَابِرُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَافَقُوكَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلنَّاسِ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَنْبِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ كَانَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ كَأَنَّهُ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ حُزْنَكَ لَيْسَ إِلَّا، لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُكَذِّبُونَكَ، وَأَمَّا حُزْنُ دَاوُدَ فَكَانَ بِسَبَبِ وُقُوعِهِ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّ حُزْنَهُ أَشَدُّ، فَتَأَمَّلْ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ وَمَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَخِفَّ عَلَيْكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي قَالَ الْخَصْمَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ كَانَا مِنَ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا دَخَلَا عَلَيْهِ لِقَصْدِ قَتْلِهِ فَخَافَ مِنْهُمَا دَاوُدُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِيذَائِهِمَا وَلَا دَعَا عَلَيْهِمَا بِسُوءٍ بَلِ اسْتَغْفَرَ لَهُمَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَقْرِيرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَلَا جَرَمَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَالْخَامِسُ: أَنَّ قُرَيْشًا إِنَّمَا كَذَّبُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَخَفُّوا بِهِ لِقَوْلِهِمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِنَّهُ يَتِيمٌ فَقِيرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَصَّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَالَ مَمْلَكَةِ دَاوُدَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مَا سَلِمَ مِنَ الْأَحْزَانِ وَالْغُمُومِ، لِيَعْلَمَ أَنَّ الْخَلَاصَ عَنِ الْحُزْنِ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّادِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ غَيْرُ مُقْتَصِرٍ عَلَى دَاوُدَ فَقَطْ بَلْ ذَكَرَ عَقِيبَ قِصَّةِ دَاوُدَ قِصَصَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاعْتَبِرْ بِحَالِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ مَشْغُولًا بِهَمٍّ خَاصٍّ وَحُزْنٍ خَاصٍّ، فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ، وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ عِنْدَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ فِي الدُّنْيَا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وهاهنا وَجْهٌ آخَرُ أَقْوَى وَأَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَسَيَجِيءُ ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص: ٢٩] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ تِسْعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ حَالَ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ عَلَى التَّفْصِيلِ وَحَالَ سِتَّةٍ آخَرِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ.
فَالْقِصَّةُ الْأُولَى: قِصَّةُ دَاوُدَ،
وَاعْلَمْ أَنَّ مَجَامِعَ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْكَلَامِ فَالْأَوَّلُ: تَفْصِيلُ مَا آتَى اللَّهُ دَاوُدَ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي تُوجِبُ سَعَادَةَ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا وَالثَّانِي: شَرْحُ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ الَّتِي
وَقَعَتْ لَهُ مِنْ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ وَالثَّالِثُ: اسْتِخْلَافُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بَعْدَ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ شَرْحُ الصِّفَاتِ الَّتِي آتَاهَا اللَّهُ دَاوُدَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِكَمَالِ السعادة فهي عشرة الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ فَأَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ بِأَنْ يَقْتَدِيَ فِي الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ بِدَاوُدَ وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ عَظِيمٌ وَإِكْرَامٌ لِدَاوُدَ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ أَفْضَلَ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِي حَقِّهِ: عَبْدَنا داوُدَ فَوَصَفَهُ بِكَوْنِهِ عَبْدًا لَهُ وَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الدَّالَّةِ عَلَى نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَذَلِكَ غَايَةُ التَّشْرِيفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُشَرِّفَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ قَالَ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١] / فَهَهُنَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّشْرِيفِ لِدَاوُدَ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى عُلُوِّ دَرَجَتِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى الْأَنْبِيَاءَ بِعُبُودِيَّتِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ حَقَّقُوا مَعْنَى الْعُبُودِيَّةِ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي الطَّاعَةِ وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ: ذَا الْأَيْدِ أَيْ ذَا الْقُوَّةِ عَلَى أَدَاءِ الطَّاعَةِ وَالِاحْتِرَازِ عَنِ الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَدَحَهُ بِالْقُوَّةِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقُوَّةُ مُوجِبَةً لِلْمَدْحِ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي تُوجِبُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ لَيْسَتْ إِلَّا الْقُوَّةَ عَلَى فِعْلِ مَا أمر به وترك ما نهى عنه والْأَيْدِ المذكور هاهنا كالقوة المذكورة في قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مَرْيَمَ: ١٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ [الْأَعْرَافِ: ١٤٥] أَيْ بِاجْتِهَادٍ فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَتَشَدُّدٍ فِي الْقِيَامِ بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد وَالْقُوَّةُ سَوَاءٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ [الْأَنْفَالِ: ٦٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [الْبَقَرَةِ: ٨٧] وَقَالَ: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذَّارِيَاتِ: ٤٧] وَعَنْ قَتَادَةَ أُعْطِيَ قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الدِّينِ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: إِنَّهُ أَوَّابٌ أَيْ أَنَّ دَاوُدَ كَانَ رَجَّاعًا فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا إِلَى طَاعَتِي وَالْأَوَّابُ فَعَّالٌ مِنْ آبَ إِذَا رَجَعَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ [الْغَاشِيَةِ: ٢٥] وَفَعَّالٌ بِنَاءُ الْمُبَالَغَةِ كَمَا يُقَالُ قَتَّالٌ وَضَرَّابٌ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ قَاتِلٍ وَضَارِبٍ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ «١» ونظير هذه الآية قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سَبَأٍ: ١٠] وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي جِسْمِ الْجَبَلِ حَيَاةً وَعَقْلًا وَقُدْرَةً وَمَنْطِقًا وَحِينَئِذٍ صَارَ الْجَبَلُ مُسَبِّحًا لِلَّهِ تَعَالَى وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي الْجَبَلِ عَقْلًا وَفَهْمًا، ثُمَّ خَلَقَ فِيهِ رُؤْيَةَ الله تعالى فكذا هاهنا الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ مَا رَوَاهُ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أُوتِيَ مِنْ شِدَّةِ الصَّوْتِ وَحُسْنِهِ مَا كَانَ لَهُ فِي الْجِبَالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، وَمَا يُصْغِي الطَّيْرُ إِلَيْهِ لِحُسْنِهِ فَيَكُونُ دَوِيُّ الْجِبَالِ وَتَصْوِيتُ الطَّيْرِ مَعَهُ وَإِصْغَاؤُهُ إِلَيْهِ تَسْبِيحًا، وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ مِثْلَ صَوْتِ دَاوُدَ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ دَنَتْ مِنْهُ الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَخَّرَ الْجِبَالَ حَتَّى إِنَّهَا كَانَتْ تَسِيرُ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُهُ دَاوُدُ وَجُعِلَ ذَلِكَ السَّيْرُ تَسْبِيحًا لِأَنَّهُ كَانَ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» يُسَبِّحْنَ فِي مَعْنَى مُسَبِّحَاتٍ، فَإِنْ قَالُوا هَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ يُسَبِّحْنَ وَمُسَبِّحَاتٍ قُلْنَا نَعَمْ، فَإِنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ، وَصِيغَةُ الِاسْمِ عَلَى الدوام على ما بينه
عَبْدُ الْقَاهِرِ النَّحْوِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ قَوْلُهُ: يُسَبِّحْنَ يَدُلُّ عَلَى/ حُدُوثِ التَّسْبِيحِ مِنَ الْجِبَالِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ وَكَانَ السَّامِعُ حَاضِرُ تِلْكَ الْجِبَالِ يَسْمَعُهَا تُسَبِّحُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قَالَ الزَّجَّاجُ يُقَالُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ وَقِيلَ هُمَا بِمَعْنًى، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ تَقُولُ الْعَرَبُ شَرَقَتِ الشَّمْسُ وَالْمَاءُ يُشْرِقُ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: احْتَجُّوا عَلَى شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الضُّحَى بِهَذِهِ الْآيَةِ،
عَنْ أُمِّ هَانِئٍ قَالَتْ: «دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى صَلَاةَ الضُّحَى، وَقَالَ: يَا أُمَّ هَانِئٍ هَذِهِ صَلَاةُ الْإِشْرَاقِ»
وَعَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «هَلْ تَجِدُونَ ذِكْرَ صَلَاةِ الضُّحَى فِي الْقُرْآنِ؟ قَالُوا لَا، فَقَرَأَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ» وَقَالَ كَانَ يُصَلِّيهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ لَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ صَلَاةِ الضُّحَى حَتَّى وَجَدْتُهَا فِي قَوْلِهِ: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ.
الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: مِنْ صِفَاتِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ «١» وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَالطَّيْرَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجِبَالِ وَالتَّقْدِيرُ وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَحْشُورَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ دَاوُدُ إِذَا سَبَّحَ جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْرُ فَسَبَّحَتْ مَعَهُ، وَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ هُوَ حَشْرُهَا فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَاشِرُهَا هُوَ اللَّهُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصْدُرُ تَسْبِيحُ اللَّهِ عَنِ الطَّيْرِ مَعَ أَنَّهُ لَا عَقْلَ لَهَا، قُلْنَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَخْلُقُ لَهَا عَقْلًا حَتَّى تَعْرِفَ اللَّهَ فَتُسَبِّحَهُ حِينَئِذٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ مُعْجِزَةً لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: مَحْشُورَةً فِي مُقَابَلَةِ يُسَبِّحْنَ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَشْرِ مِثْلُ مَا كَانَ فِي التَّسْبِيحِ مِنْ إِرَادَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُدُوثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلَا جَرَمَ جِيءَ بِهِ اسما لا فعلا، وذلك أنه لَوْ قِيلَ وَسَخَّرْنَا الطَّيْرَ مَحْشُورَةً يُسَبِّحْنَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْحَشْرَ وُجِدَ مِنْ حَاشِرِهَا جُمْلَةً وَاحِدَةً دَلَّ عَلَى الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: قُرِئَ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً بِالرَّفْعِ.
الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: مِنْ صِفَاتِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَمَعْنَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ أَوَّابٌ أَيْ رَجَّاعٌ، أَيْ كُلَّمَا رَجَعَ دَاوُدُ إِلَى التَّسْبِيحِ جَاوَبَتْهُ، فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَيْضًا كَانَتْ تَرْجِعُ إِلَى تَسْبِيحَاتِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ فِيمَا سَبَقَ عَلِمْنَا أَنَّ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ سَبَّحَتْ مَعَ تَسْبِيحِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ فَهِمْنَا دَوَامَ تِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْ كُلٌّ مِنْ دَاوُدَ وَالْجِبَالِ وَالطَّيْرِ لِلَّهِ أَوَّابٌ أَيْ مُسَبِّحٌ مُرَجِّعٌ لِلتَّسْبِيحِ.
الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أَيْ قَوَّيْنَاهُ وَقَالَ تَعَالَى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ/ بِأَخِيكَ [الْقَصَصِ: ٣٥] وَقِيلَ شَدَدْنَا عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِحُصُولِ هَذَا الشَّدِّ فكثيرة، وهي إما الأسباب
الدُّنْيَوِيَّةُ أَوِ الدِّينِيَّةُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: رَوَى الْوَاحِدِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَحْرُسُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، فَإِذَا أَصْبَحَ قِيلَ ارْجِعُوا فَقَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ نَبِيُّ اللَّهِ، وَزَادَ آخَرُونَ فَذَكَرُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا. قَالُوا وَكَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عِنْدَ دَاوُدَ عَلَى رَجُلٍ أَخَذَ مِنْهُ بَقَرَةً فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ دَاوُدُ لِلْمُدَّعِي أَقِمِ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يُقِمْهَا، فَرَأَى دَاوُدُ فِي مَنَامِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَثَبَتَ دَاوُدُ وَقَالَ هُوَ مَنَامٌ فَأَتَاهُ الْوَحْيُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ تَقْتُلَهُ فَأَحْضَرَهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَدَقَ اللَّهُ إِنِّي كُنْتُ قَتَلْتُ أَبَا هَذَا الرَّجُلِ غِيلَةً فَقَتَلَهُ دَاوُدُ.
فَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ شَدَّدَتْ مُلْكَهُ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الدِّينِيَّةُ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الشَّدِّ فَهِيَ الصَّبْرُ وَالتَّأَمُّلُ التَّامُّ وَالِاحْتِيَاطُ الْكَامِلُ.
الصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [الْبَقَرَةِ: ٢٦٩] وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَضَائِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ النَّفْسَانِيَّةُ وَالْبَدَنِيَّةُ وَالْخَارِجِيَّةُ، وَالْفَضَائِلُ النَّفْسَانِيَّةُ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، أَمَّا الْعِلْمُ فَهُوَ أَنْ تَصِيرَ النَّفْسُ بِالتَّصَوُّرَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالتَّصْدِيقَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ بِمُقْتَضَى الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ آتَيًا بِالْعَمَلِ الْأَصْلَحِ الْأَصْوَبِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْحِكْمَةُ وَإِنَّمَا سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصَّحِيحَةِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالنَّقْضَ فَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الْمُطَابِقَةُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهَا وَاجِبَةُ الرِّعَايَةِ وَلَا تَقْبَلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ، فَلِهَذَا السَّبَبِ سَمَّيْنَا تِلْكَ الْمَعَارِفَ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ بِالْحِكْمَةِ.
الصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ: وَفَصْلَ الْخِطابِ وَاعْلَمْ أَنَّ أَجْسَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنِ الْإِدْرَاكِ وَالشُّعُورِ وَهِيَ الْجَمَادَاتُ وَالنَّبَاتَاتُ وَثَانِيهَا: الَّتِي يَحْصُلُ لَهَا إِدْرَاكٌ وَشُعُورٌ وَلَكِنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى تَعْرِيفِ غَيْرِهَا الْأَحْوَالَ الَّتِي عَرَفُوهَا فِي الْأَكْثَرِ وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ جُمْلَةُ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْإِنْسَانِ وَثَالِثُهَا: الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ إِدْرَاكٌ وَشُعُورٌ وَيَحْصُلُ عِنْدَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَعْرِيفِ غَيْرِهِ الْأَحْوَالَ الْمَعْلُومَةَ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِنْسَانُ وَقُدْرَتُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الغير الْأَحْوَالَ الْمَعْلُومَةَ عِنْدَهُ بِالنُّطْقِ وَالْخِطَابِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي مَرَاتِبِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِيرَادُ الْكَلَامِ الْمُرَتَّبِ الْمُنْتَظِمِ بَلْ يَكُونُ مُخْتَلِطَ الْكَلَامِ مُضْطَرِبَ الْقَوْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّرْتِيبُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى ضَبْطِ الْمَعْنَى وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ إِلَى/ أَقْصَى الْغَايَاتِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ كَانَتِ الْآثَارُ الصَّادِرَةُ عَنِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ فِي حَقِّهِ أَكْمَلَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ تِلْكَ الْقُدْرَةُ فِي حَقِّهِ أَقَلَّ كَانَتْ تِلْكَ الْآثَارُ أَضْعَفَ، وَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَ حَالِ جَوْهَرِ النَّفْسِ النُّطْقِيَّةِ الَّتِي لِدَاوُدَ بِقَوْلِهِ: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أَرْدَفَهُ بِبَيَانِ كَمَالِ حَالِهِ فِي النُّطْقِ وَاللَّفْظِ وَالْعِبَارَةِ فَقَالَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ دَاوُدَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ أَمَّا بَعْدُ، وَأَقُولُ حَقًّا إِنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَقَدْ حُرِمُوا الْوُقُوفَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى حِرْمَانًا عَظِيمًا «١» وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ وَهُوَ طَلَبُ الْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ ويحضر في الخيال،