
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}. فنزلت هذه الآية إلى قوله: ﴿لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ [ص: ٨].
وفرّق الخليل بين العَجيب والعُجاب، فالعجيب، العَجَب، والعُجاب: الذي قد تجاوز حد العَجضب، وكذلك عنده الطَّويل الذي فيه طول، والطُّوال الذي قد تجاوز حد الطول.
وقيل: هما بمعنى، يقول: طَويل وطُوال، وجَسيم وجُسام، وخَفيف وخُفاف، وسَريع وسُراع، ورَقيق ورُقاق، بمعنى.
قوله تعالى ذكره: ﴿وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا﴾ - إلى قوله - ﴿قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾.
أي: وانطلق الأشراف من مشركي قريش القائلين: ﴿أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً﴾ [ص: ٥]

يقولون للعوام: أمشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، أي: اصبروا على دين آبائكم.
وكان لهم يومئذ ثلاث مائة صنم وستون صنماً / يعبدونها من دون الله سبحانه وروي أن قائل ذلك كان عقبة بن أبي معيط.
وقوله: ﴿أَنِ امشوا﴾، معناه: تناسلوا، كأنه دعا لهم بالنمار وهو من قول العرب: مَشَى الرجل وأُمْشَى إذا كثرت ماشيته، وأمشت المرأة: كَثُرَ وَلَدُها.
قال الشاعر:
........................ | * والشَّاةُ لا تُمْشَى على الهمَلَّعِ |
ثم قال عنهم إنهم قالو: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾، أي: لشيء يريد بنا محمد - ﷺ - يطلب علينا الاستعلاء به، وأن يكون له فينا اتباع.
ثم قالو: ﴿مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة﴾.
قال ابن عباس: يعنون النصرانية دين عيسى. أي: لم نسمع في دين عيسى ﷺ صفحة رقم 6204

أن محمداً يبعث رسولاً إلينا ولا يأتينا بكتاب.
﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾، أي: ما هذا إلا كذب.
وعن ابن عباس أن المعنى: لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرنا به النصارى.
وقال مجاهد: معناه ملة قريش.
وقال قتادة: معناه في زماننا وديننا.
قال أبو إسحاق: ﴿فِى الملة الآخرة﴾: في النصرانية ولا في اليهودية ولا فيما أدركنا عليه لآباءنا.
ثم قال: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق﴾، أي: ما هذا الذي أتانا به محمد ﷺ إلاّ كذب اختلقه وتخرصه وابتدعه حسداً منهم لمحمد ﷺ. ودل على أنه حسد منهم قوله عنهم:
﴿عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾، أي: كيف خُصَّ محمد بنزول القرآن عليه من بيننا.

وهذا كقولهم: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] أي: من إحدى القريتين، مكة والطائف، يعنون: الوليد بن المغيرة المخزومي من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف.
والمعنى: على أحد رجلين من إحدى القريتين.
ثم قال تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي﴾، أي: في شك من القرآن.
﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾، أي: لم يذوقوا العذاب، ولو ذاقوه لأيقنوا حقيقة ما هم فيه وعملوا أن الذين كذَّبوا به حق.
ثم قال: ﴿أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب﴾، أي: أم عند هؤلاء المكذبين مفاتيح ربك وعطاياه، فَيَخُصُّوا من شاءوا بالرسالة. العزيز في سلطانه، الوهاب لمن يشاء من خلقه ما يشاء من رسالته وكرامته.
ثم قال جل ذكره: ﴿أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب﴾، أي: إن كان لهم مُلْكُ ذلك فليصعدوا في أبواب السماء أو طرفيها، لأن من كان له ملك ذلك لم يتعذر عليه الصعود فيه، هذا معنى قول مجاهد وقتادة وابن زيد

وقال الضحاك: فليرتقوا إلى السماء السابعة.
وقال الربيع بن أنس: الأسباب أَرَقُّ من الشعر وأشَدُّ من الحديد، وهو مكان ولكن لا يُرى.
والسبب هو: كل شيء يوصل به إلى المطلوب من حبل أو جبل أو ستر أو رحم أو قرابة أو طريق أو باب. يقال: رَقِيَ يَرْقَى رَقْياً إذا صعد، كرَضِيَ يرضى. ومثله: ارتقى يرتقي إذا صعد ويقال: رقي يرقِي رقياً من الرقية مثل: رمى يرمي رمياً.
ثم قال: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب﴾.
يعني بقوله: ﴿جُندٌ مَّا هُنَالِكَ﴾: الذين قال فيهم: ﴿بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ﴾ وهم أشراف قريش الذين هُزِموا وقُتلوا يوم بدر.
والتقدير: هم جند مهزوم هنالك.
ومعنى ﴿مِّن الأحزاب﴾: من القرون الماضية.

قال قتادة: وعد الله تعالى نبيه ﷺ وهو بمكة أنه سيهزم جنداً من المشركين، فجاء يوم بدر تأويلها.
وقال الفراء: معناه: هم جنود مغلوب أن يصعد السماء.
وقيل: هم الأحزاب الذين تحزبوا على رسول الله ﷺ فأتوا إلى المدينة فهزمهم الله تعالى بالريح والخوف. فأعلم الله تعالى نبيه ﷺ ومن معه من المؤمنين أنه سيتحزب عليهم المشركون، وأنهم سيهزمون. فكان في ذلك أبين دلالة لهم على نبوة محمد ﷺ وصِدْقِه في جميع ما يَعِدُهُم به، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: ٢٢] الآية لأنه أخبرهم بذلك وهم في مكة ثم جاءهم ما أخبرهم به وهم في المدينة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾، أي: قبل قريش، وكذلك عاد ﴿وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد﴾.
فرعون هو: الوليد بن مصعب.

وقيل هو: مصعب بن الديان.
وقيل: كان يسمى كل من مَلَكَ مصر فرعون، كما يسمى كلُّ من ملك اليمين تبّعاً، ومن مَلَكَ فارس كسرى، ومن مَلَكَ الروم قيصر وهرقل.
قال المبرد: كَسرى بالفتح. وقال غيره: بالكسر.
وإنما نُعِتَ فرعون بالأوتاد لأنه كانت له أوتاد يلعب له عليها؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن جبير.
وقال السدي: كان يُعِّبُ الناس بالأوتاد؛ يعذبهم بأربعة أوتاد، ثم يرفع (الصخرة تمد بالحبال) ثم تُلقى عليه فتشدخه.
وقال الضحاك: ﴿ذُو الأوتاد﴾: ذو البُنيان.
وقد تقدم ذكر الأيكة في الشعراء.

وقوله: ﴿أولئك الأحزاب﴾، أي: الجماعة المتحزبة على معاصي الله تعالى والكفر به سبحانه وتعالى.
ثم قال: ﴿إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل﴾، أي: ما كل هؤلاء الأمم إلا كذب الرسل فيما جاؤهم به.
﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾، أي: وجب عليهم عقاب الله تعالى ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾، أي: وما ينتظر هؤلاء المشركون بالله سبحانه إلا صيحة واحدة - وهي النفخة الأولى في الصور - ما لها من فتور ولا انقطاع.
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " لَمَّا فَرَغَ الله مِنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ خَلَقَ الصُّورَ وأَعْطَاهُ إسْرَافِيلَ. فَهْوَ واضِعُهُ عَلَى فيهِ، شَاخِصٌ إلى الْعَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ. قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ. قال: وكيف هو؟ قال: قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيه ثَلاَثَ نَفَخَاتٍ: نَفْخَة الفَزَعِ، فَيَفْزَعُ أهْلُ السَّماواتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهَ. وَيَأْمُرهُ الله فَيُدِيُمَها وَيُطَوِّلُهَا فَلاَ تَفْتُرُ. وَهِيَ الَّتي يَقُولُ اللهُ جَلّ وعزّ: ﴿وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ ".

وقال ابن عباس: ﴿فَوَاقٍ﴾: ترداد. وعنه: من رجعة وقال مجاهد: " من رجوع ".
وقال قتادة: من مثنوية ولا رجوع (ولا ارتداد).
وقال السدى: معناه: ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك من إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا.
وقال ابن زيد معناه: ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذاباً يهلكهم.
فالصيحة عنده: العذاب.
﴿مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾، أي لا يفيقون منها كما يفيق الذي يُغشى عليه.
وأصل هذا من فواق الناقة، وهو ما بين الحلبتين من الراحة. فالمعنى: ما لها من راحة، أي: لا يروحون حتى يتوبوا ويرجعوا عن كفرهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب﴾، أي: وقال هؤلاء المشركون من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة.
والقط من قريش: عجل لنا كتابنا قبل يوم القيامة.
والقط في كلام العرب: الصحيفة المكتوبة.