المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعده للأبرار في دار النعيم، ذكر ما أعده للأشرار في دار الجحيم، ليظهر التمييز بين الفريقين، ثم ذكر قصة «نوح» وقصة «إبراهيم» وما فيهما من العظات والعبر للمعتبرين.
صفحة رقم 32اللغَة: ﴿نُّزُلاً﴾ النُّزُل: الضيافة والتكرمة، وأصله ما يُعد للأضياف من الطعام والشراب وغيرهما ﴿طَلْعُهَا﴾ ثمرها، سُمي طلعاً لطلوعه ﴿لَشَوْباً﴾ خلطاً ومزاجاً من شاب الطعام يشوبه إِذا خلطه بشيء آخر ﴿يُهْرَعُونَ﴾ يُسرعون قال الفراء: الإِهراع: الإِسراع مع رعدة، وقال المبرّد: المُهرع: المستحثُّ يقال: جاء فلان يُهرعن إلى النار، إِذا استحثَّه البرد إِليها ﴿شِيعَتِهِ﴾ شيعة الرجل أعوانه وأنصاره، ومن سار على طريقته ومنهاجه ﴿أَإِفْكاً﴾ كذباً وباطلاً ﴿سَقِيمٌ﴾ مريض وعليل ﴿فَرَاغَ﴾ راغ إِليه: أقبل عليه ومال نحوه خفيةً وأصله من الميل قال الشاعر:
ويُريك من طَرف اللسان حلاوةً | ويروغ فيك كما يروغ الثعلب |
التفسِير: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ أي أنعيم الجننة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شردة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ أي ثمرها وحملها كأنه رءوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة قال ابن كثير: وإنما شبهها برءوس الشياطين، وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون﴾ أي فإن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلىء منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث «لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه» ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ أي ثم إن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام أي يخلط ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم﴾ أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم ﴿فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾ أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخفونهم من عذاب الله ولكنه تمادوا في الغيّ والضلال ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنضيرهم عبرةً للعباد؟ ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ صفحة رقم 33
أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذين أخلصهم تعالى لطاعته فإنهم نجوا من العذاب.
. ثم شرع في بيان قصة نوح فقال ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيعة الجمع ﴿المجيبون﴾ للعظمة والكبرياء قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصية الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتحذيراً لمن كفر من أمته ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ أي ونجيناه ومن آمن معه من أهلُه وأتباعُه من الغرق قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح قال في التسهيل: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناس الناسُ من أولاده الثلاثة «سام، وحام، ويافث» ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين﴾ أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع ﴿نَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملؤءةً من ذريته تبقيه لذكره الجميل في ألسنة العالمين ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين﴾ أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر.. ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ﴾ أي وإِن من من أنصار نوح واعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما «هود» و «صالح» صلوات الله عليهم أجمعين ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً لهم: ما الذي تعبدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ ﴿أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ ؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله ﴿أَإِفْكاً﴾ على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين﴾ استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون بربِّ العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أيَّ
شيءٍ تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء على عادتهم حيث كانوا نجامين وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإنما هو من المعارض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد «إِنَّ المعاريض لمندوحةً عن الكذب» أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان ﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أي فتركوه إعراضاً عنه وخرجوا إلى عيدهم ﴿فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ﴾ أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء ﴿فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾ ؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديهما طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ﴾ ؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن ربتة عابديها إذ هم يأكلون وينطقون بخلافها ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين﴾ أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد ﴿فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ ؟ أي أتبعدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ ﴿والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخاق، أليس لكم عقل ايها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن ﴿ما﴾ مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةً في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن ﴿ما﴾ موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام.
﴿قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم﴾ أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصارً لأصنامهم وآلهتهم ﴿فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين﴾ أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد
الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين﴾ أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ !! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو «اسماعيل» لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي﴾ أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة ﴿قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ أي إِني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاضاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم ﴿فانظر مَاذَا ترى﴾ ؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه.
فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ أي امرض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إن شاء الله، وهو جواب من أوُتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أي فلما استسلما الأب والابن لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه قال ابن عباس: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أكبَّه على وجهه ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ هذه جواب «لمَّا» والواو مقحمة أي ناديناه يا إبراهيم قد نفَّذْتْ ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قبله بمحبة ولده، فأُمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر به وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقة قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإن رأيتَ أن
تردَّ قميصي عليها فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عيني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين﴾ أي إن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ أي وفديناه بكبسٍ عظيم من الجنة فداءً عنه قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين ﴿سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ﴾ أي سلام منا على إبراهيم عاطرٌ كريم ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحق الذي سيكون نبياً قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّىء، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو «إسماعيل» لا «إسحاق» ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ﴾ أي أفضنا على إبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيها دليل على أن البرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عبيب ولا منقصة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبيدع نوجزها فيما يلي:
١ - الأسلوب التهكمي ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ ؟ التعبير ب «خيرٌ» تهكم بهم.
٢ - الجناح الناقس ﴿المُنذِرين.. والمُنْذَرين﴾ لأن المراد بالأول الرسل، وباللثاني الأمم.
٣ - التشبيه ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ أي في الهول والشناعة ويسمى تشبيهاً مرسلاً مجملاً.
٤ - الاستعارة التبعية ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ شبَّه إقباله على ربه مخلصاً بقلبه بمن قدم علىلملك بتحفةٍ ثمينة جميلة ففاز بالرضى والقبول ففيه استعارة تبعية.
٥ - الطباق بين ﴿مُحْسِنٌ.. وَظَالِمٌ﴾.
٦ - جناس الاشتقاق بين ﴿ابنوا.. بُنْيَاناً﴾.
٧ - الكنابة اللطيفة ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ كنَّة به عن الثناء الحسن الجميل.
٨ - مراعاة الفواصل مثل ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية، وهو من خصائق القرآن وفيه من الروعة والجمال، وحسن الوقع على السمع ما يزيده روعةً وجمالاً.