تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النَّحْلِ: ٨١] وَالثَّانِي أَنَّ الشَّرْقَ أَقْوَى حَالًا مِنَ الْغُرُوبِ وَأَكْثَرُ نَفْعًا مِنَ الْغُرُوبِ فَذُكِرَ الشَّرْقُ تَنْبِيهًا عَلَى كَثْرَةِ إِحْسَانِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، وَلِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ اسْتَدَلَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَشْرِقِ فَقَالَ:
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٨].
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقًا لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ، قالوا لأن أعمال العباد موجود فيما بين السموات وَالْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا حصل بين السموات وَالْأَرْضِ فَاللَّهُ رَبُّهُ وَمَالِكُهُ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ، وَإِنْ قَالُوا الْأَعْرَاضُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا حَصَلَتْ بين السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمَا يَكُونُ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ وَجِهَةٍ وَالْأَعْرَاضُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، قُلْنَا إِنَّهَا لَمَّا/ كَانَتْ حَاصِلَةً فِي الأجسام الحاصلة بين السموات وَالْأَرْضِ فَهِيَ أَيْضًا حَاصِلَةٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. ثم قال تعالى:
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٦ الى ١٠]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)
[فِي قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ زِينَةٍ مُنَوَّنَةً الْكَوَاكِبِ بِالْجَرِّ وَهُوَ قِرَاءَةُ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ رَدُّ مَعْرِفَةٍ عَلَى نَكِرَةٍ كَمَا قَالَ: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ [الْعَلَقِ: ١٥، ١٦] فَرَدَّ نَكِرَةً عَلَى مَعْرِفَةٍ وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْكَوَاكِبُ بَدَلٌ مِنَ الزِّينَةِ، لِأَنَّهَا هِيَ كَمَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ زَيْدٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِالتَّنْوِينِ فِي الزِّينَةِ وَنَصْبِ الْكَوَاكِبِ قَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ زَيَّنَّا الْكَوَاكِبَ، وَقَالَ الزجاج: يجوز أن تكون الكواكب في النصب بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ بِزِينَةٍ، لِأَنَّ بِزِينَةٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ زَيَّنَ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا زَيَّنَهَا لِمَنْفَعَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: تَحْصِيلُ الزِّينَةِ وَالثَّانِيَةُ: الْحِفْظُ مِنَ الشَّيْطَانِ الْمَارِدِ، فَوَجَبَ أَنْ نُحَقِّقَ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ تَزْيِينُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ هَذِهِ الثَّوَابِتَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْكُرَةِ الثَّامِنَةِ، وَأَنَّ السَّيَّارَاتِ السِّتَّةَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْكُرَاتِ السِّتِّ الْمُحِيطَةِ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ السَّاكِنِينَ عَلَى سَطْحِ كُرَةِ الْأَرْضِ إِذَا نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَإِنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهَا مُزَيَّنَةً بِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ، وَعَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ لَمْ يَتِمَّ لَهُمْ دَلِيلٌ فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَرْكُوزَةٌ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، وَلَعَلَّنَا شَرَحْنَا هَذَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: ١] فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الْمُلْكِ: ٥]، وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ زِينَةَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الزِّينَةَ مَصْدَرٌ كَالنِّسْبَةِ وَاسْمٌ لِمَا يُزَّنُ بِهِ، كَاللِّيقَةِ اسْمٌ لِمَا تُلَاقُ بِهِ الدَّوَاةُ قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَقَوْلُهُ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ يَحْتَمِلُهُمَا فَإِنْ أَرَدْتَ الْمَصْدَرَ فَعَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْفَاعِلِ أَيْ بِأَنَّ زِينَتَهَا الْكَوَاكِبُ أَوْ عَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ أَيْ بِأَنَّ زَانَ اللَّهُ الْكَوَاكِبَ وَحَسَّنَهَا، لِأَنَّهَا/ إِنَّمَا زُيِّنَتِ السَّمَاءُ بِحُسْنِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنْ أَرَدْتَ الِاسْمَ فَلِلْإِضَافَةِ وَجْهَانِ أَنْ تَقَعَ الْكَوَاكِبُ بَيَانًا لِلزِّينَةِ، لِأَنَّ الزِّينَةَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْكَوَاكِبِ وَبِغَيْرِهَا، وَأَنْ يُرَادَ مَا زُيِّنَتْ بِهِ الْكَوَاكِبُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ كَوْنِ الْكَوَاكِبِ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ النُّورَ وَالضَّوْءَ أَحْسَنُ الصِّفَاتِ وَأَكْمَلُهَا، فَإِنَّ تَحَصُلَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ الْمُشْرِقَةِ الْمُضِيئَةِ فِي سَطْحِ الْفَلَكِ لَا جَرَمَ بَقِيَ الضَّوْءُ وَالنُّورُ فِي جِرْمِ الْفَلَكِ بِسَبَبِ حُصُولِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ فِيهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ أَيْ بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ الْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَشْكَالُهَا الْمُتَنَاسِبَةُ الْمُخْتَلِفَةُ كَشَكْلِ الْجَوْزَاءِ وَبَنَاتِ نَعْشٍ وَالثُّرَيَّا وَغَيْرِهَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الزِّينَةِ كَيْفِيَّةَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا نَظَرَ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ إِلَى سَطْحِ الْفَلَكِ وَرَأَى هَذِهِ الْجَوَاهِرَ الزَّوَاهِرَ مُشْرِقَةً لَامِعَةً مُتَلَأْلِئَةً عَلَى ذَلِكَ السَّطْحِ الْأَزْرَقِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَكْمَلُهَا فِي التَّرْكِيبِ وَالْجَوْهَرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُفِيدُ كَوْنَ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ زِينَةً وَأَمَّا الْمَطْلُوبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ فَقَوْلُهُ: وَحِفْظاً أي وَحَفِظْنَاهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا ذَكَرْتَ فِعْلًا ثُمَّ عَطَفْتَ عَلَيْهِ مَصْدَرَ فِعْلٍ آخَرَ نَصَبْتَ الْمَصْدَرَ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ، مِثْلَ قَوْلِكِ أَفْعَلُ وَكَرَامَةً لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَفْعَلُ عُلِمَ أَنَّ الْأَسْمَاءَ لَا تُعْطَفُ عَلَى الْأَفْعَالِ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَفْعَلُ ذَلِكَ وَأُكْرِمُكَ كَرَامَةً، قَالَ ابْنُ عباس يريد حفظ السماء بالكواكب ومِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ يُرِيدُ الَّذِي تَمَرَّدَ عَلَى اللَّهِ قِيلَ إِنَّهُ الَّذِي لَا يُتَمَكَّنُ مِنْهُ، وأصله من الملاسة ومنه قوله: رْحٌ مُمَرَّدٌ
[النَّمْلِ: ٤٤] وَمِنْهُ الْأَمْرَدُ وَذَكَرْنَا تَفْسِيرَ الْمَارِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التَّوْبَةِ: ١٠١].
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَنَقُولُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الْمُلْكِ: ٥] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الشَّيَاطِينُ كَانُوا يَصْعَدُونَ إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ فَرُبَّمَا سَمِعُوا كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ وَعَرَفُوا بِهِ مَا سَيَكُونُ مِنَ الْغُيُوبِ، وَكَانُوا يُخْبِرُونَهُمْ بِهِ وَيُوهِمُونَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الصُّعُودِ إِلَى قُرْبِ السَّمَاءِ بِهَذِهِ الشُّهُبِ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَرْمِيهِمْ بِهَا فيحرقهم بها، وبقي هاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذِهِ الشُّهُبُ هَلْ هِيَ مِنَ الْكَوَاكِبِ الَّتِي زَيَّنَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِهَا أَمْ لَا؟ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ تَبْطُلُ وَتَضْمَحِلُّ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّهُبُ تِلْكَ الْكَوَاكِبَ الْحَقِيقِيَّةَ لَوَجَبَ أَنْ يَظْهَرَ نُقْصَانُ كَثِيرٍ مِنْ أَعْدَادِ كَوَاكِبِ السَّمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يُوجَدِ الْبَتَّةَ فَإِنَّ أَعْدَادَ كَوَاكِبِ السماء باقية على حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ الْبَتَّةَ، وَأَيْضًا فَجَعْلُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ مِمَّا يُوجِبُ وُقُوعَ النُّقْصَانِ فِي زِينَةِ السَّمَاءِ فَكَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ كَالْمُتَنَاقِضِ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الْكَوَاكِبِ الْمَرْكُوزَةِ فِي الْفَلَكِ فَهَذَا أَيْضًا مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سُورَةِ: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الْمُلْكِ: ١]، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا/ بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ
[الْمُلْكِ: ٥] فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها عَائِدٌ إِلَى
الْمَصَابِيحِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَصَابِيحُ هِيَ الرجوم بِأَعْيَانِهَا مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ غَيْرُ تِلْكَ الثَّوَاقِبِ الْبَاقِيَةِ، وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: ٥] فَنَقُولُ كُلُّ نَيِّرٍ يَحْصُلُ فِي الْجَوِّ الْعَالِي فَهُوَ مَصَابِيحُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَصَابِيحَ مِنْهَا بَاقِيَةٌ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ آمِنَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَهِيَ هَذِهِ الشُّهُبُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجْعَلُهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَذْهَبَ الشَّيَاطِينُ إِلَى حَيْثُ يَعْلَمُونَ بِالتَّجْوِيزِ، أَنَّ الشُّهُبَ تُحْرِقُهُمْ وَلَا يَصِلُونَ إِلَى مَقْصُودِهِمُ الْبَتَّةَ، وَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُرَ مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ عَنْ عَاقِلٍ، فَكَيْفَ مِنَ الشَّيَاطِينِ الذين لهم مزبة فِي مَعْرِفَةِ الْحِيَلِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَوَابُ: أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ وَإِلَّا لَمْ يَذْهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ وَمَوَاضِعُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَرُبَّمَا صَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ تُصِيبُهُمْ فِيهِ الشُّهُبُ، وَرُبَّمَا صَارُوا إِلَى غَيْرِهِ وَلَا يُصَادِفُونَ الْمَلَائِكَةَ فَلَا تُصِيبُهُمُ الشُّهُبُ، فَلَمَّا هَلَكُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَسَلَّمُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، جَازَ أَنْ يَصِيرُوا إِلَى مَوَاضِعَ يَغْلِبُ عَلَى ظُنُونِهِمْ أَنَّهُ لَا تُصِيبُهُمُ الشُّهُبُ فِيهَا، كَمَا يَجُوزُ فِيمَنْ يَسْلُكُ الْبَحْرَ أَنْ يَسْلُكَهُ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ النَّجَاةِ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُمْ إِذَا صَعِدُوا فَإِمَّا أَنْ يَصِلُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ، أَوْ إِلَى غَيْرِ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ، فَإِنْ وَصَلُوا إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ احْتَرَقُوا، وَإِنْ وَصَلُوا إِلَى غَيْرِ مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَفُوزُوا بِمَقْصُودِهِمْ أَصْلًا، فَعَلَى كلا التقديرين المقصود غير حاصل، وإذا حَصَلَتْ هَذِهِ التَّجْرِبَةُ وَثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْفَوْزَ بِالْمَقْصُودِ مُحَالٌ وَجَبَ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ هَذَا الْعَمَلِ وَأَنْ لَا يُقْدِمُوا عَلَيْهِ أَصْلًا بِخِلَافِ حَالِ الْمُسَافِرِينَ فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمُ السلامة والفوز بالمقصود، أما هاهنا فَالشَّيْطَانُ الَّذِي يَسْلَمُ مِنَ الِاحْتِرَاقِ إِنَّمَا يَسْلَمُ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى مَوَاضِعِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لَمْ يَفُزْ بِالْمَقْصُودِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ الْبَتَّةَ، وَالْأَقْرَبُ فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ هذه الواقعة إِنَّمَا تَتَّفِقُ فِي النُّدْرَةِ، فَلَعَلَّهَا لَا تَشْتَهِرُ بِسَبَبِ كَوْنِهَا نَادِرَةً بَيْنَ الشَّيَاطِينِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالُوا دَلَّتِ التَّوَارِيخُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى أَنَّ حُدُوثَ الشُّهُبِ كَانَ حَاصِلًا قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْحُكَمَاءَ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ ذَكَرُوا ذَلِكَ وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْتَنَعَ حَمْلُهُ عَلَى مَجِيءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّ الْأَقْرَبَ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهَا كَثُرَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْكَثْرَةِ مُعْجِزَةً.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: الشَّيْطَانُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ [الْأَعْرَافِ:
١٢] وَقَالَ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الْحِجْرِ: ٢٧] وَلِهَذَا السَّبَبِ يَقْدِرُ عَلَى الصُّعُودِ إلى السموات، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُعْقَلُ إِحْرَاقُ النَّارِ بِالنَّارِ؟ وَالْجَوَابُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة، فإذا وَصَلَتْ نِيرَانُ الشُّهُبِ إِلَيْهِمْ، وَتِلْكَ النِّيرَانُ أَقْوَى حَالًا مِنْهُمْ لَا جَرَمَ صَارَ الْأَقْوَى مُبْطِلًا لِلْأَضْعَفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السِّرَاجَ الضَّعِيفَ إِذَا رَجَعَ فِي النَّارِ الْقَوِيَّةِ فَإِنَّهُ يَنْطَفِئُ فَكَذَلِكَ هاهنا.
السُّؤَالُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَقَرَّ الْمَلَائِكَةِ هُوَ السَّطْحُ الْأَعْلَى مِنَ الْفَلَكِ، وَالشَّيَاطِينُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْوُصُولُ إلا إلى
الْأَقْرَبِ مِنَ السَّطْحِ الْأَسْفَلِ مِنَ الْفَلَكِ، فَيَبْقَى جِرْمُ الْفَلَكِ مَانِعًا مِنْ وُصُولِ الشَّيَاطِينِ إِلَى الْقُرْبِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَلَعَلَّ الْفَلَكَ عَظِيمُ الْمِقْدَارِ دفع حصول هذا الْمَانِعِ الْعَظِيمِ، كَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ تَسْمَعَ الشَّيَاطِينُ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَوِّي سَمْعَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، فَنَقُولُ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُقَوِّي سَمْعَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ الْمَلَائِكَةِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَنْفِيَ سَمْعَ الشَّيْطَانِ، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فَمَا الْفَائِدَةُ فِي رَمْيِهِ بِالرُّجُومِ؟ فَالْجَوَابُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ أَفْعَالَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ، فَيَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَبَاحِثِ هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا أضيف ما كتبناه هاهنا إِلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، وَفِي سَائِرِ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَلَغَ تَمَامَ الْكِفَايَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لَا يَسَّمَّعُونَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَالْمِيمِ وَأَصْلُهُ يَتَسَمَّعُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَالتَّسَمُّعُ تَطَلُّبُ السَّمَاعِ يُقَالُ تَسَمَّعَ سَمِعَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ التَّشْدِيدَ فِي يَسَّمَّعُونَ، قَالَ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَسَمَّعْتُ إِلَى فُلَانٍ وَيَقُولُونَ سَمِعْتُ فُلَانًا، وَلَا يَكَادُونَ يَقُولُونَ سَمِعْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَقِيلَ فِي تَقْوِيَةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ إِذَا نُفِيَ التَّسَمُّعُ، فَقَدْ نُفِيَ سَمْعُهُ، وَحُجَّةُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٢] وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، ثُمَّ يُمْنَعُونَ فَلَا يَسْمَعُونَ، وَلِلْأَوَّلِينَ أَنْ يُجِيبُوا فَيَقُولُونَ التَّنْصِيصُ عَلَى كَوْنِهِمْ مَعْزُولِينَ عَنِ السَّمْعِ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِمْ مَعْزُولِينَ أَيْضًا عَنِ التَّسَمُّعِ بِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هُوَ أَقْوَى فِي رَدْعِ الشَّيَاطِينِ وَمَنْعِهِمْ مِنِ اسْتِمَاعِ أَخْبَارِ السَّمَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي مُنِعَ مِنَ الِاسْتِمَاعِ فَبِأَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنَ السَّمْعِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِكَ سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلَانٍ، وَبَيْنَ قَوْلِكَ سَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِهِ، بِأَنَّ قَوْلَكَ سَمِعْتُ حَدِيثَهُ يُفِيدُ الْإِدْرَاكَ، وَسَمِعْتُ إِلَى حَدِيثِهِ يُفِيدُ الْإِصْغَاءَ مَعَ الْإِدْرَاكِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ لِئَلَّا يَسْمَعُوا، فَلَمَّا حُذِفَ النَّاصِبُ عَادَ الْفِعْلُ إِلَى الرَّفْعِ كَمَا قَالَ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا
[النِّسَاءِ:
١٧٦] وكما قال: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [لقمان: ١٠] قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حَذْفُ أَنْ وَاللَّامِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَائِزٌ بِانْفِرَادِهِ. أَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا فَمِنَ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَجِبُ صَوْنُ الْقُرْآنِ عَنْهَا وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ، وَهُوَ حِكَايَةُ حَالِ الْمُسْتَرِقَةِ لِلسَّمْعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْمَعُوا إِلَى كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ وَيَتَسَمَّعُوا وَهُمْ مَقْذُوفُونَ بِالشُّهُبِ، مَدْحُورُونَ عَنْ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الملأ الأعلى الملائكة لأنهم يسكنون السموات. وَأَمَّا الْإِنْسُ وَالْجِنُّ فَهُمُ الْمَلَأُ الْأَسْفَلُ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُ الْأَرْضِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ أُولَئِكَ الشياطين بصفات ثلاثة الْأُولَى: أَنَّهُمْ لَا يَسَّمَّعُونَ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: