
وقوله تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا أي: فلا يُمْكِنُهُمْ أن يقولوا إلا أنَّ خَلْقَ مَنْ سواهُم من الأمَمِ والملائِكَة، والجنِّ والسَّمواتِ والأرضِ والمشارِق والمغارِبِ وغير ذلك- هو أشَدُّ مِنْ هؤلاءِ المخاطَبِينَ، وبأن الضمير/ في خَلَقْنا يرادُ به ما تقدم ذكره، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: ويُؤَيِّدُه ما في مصحف ابن مسعود «أُمْ مَنْ عَدَدْنَا» «١» وكذلك قرأَ الأَعْمَشُ «٢».
وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ أي: خلقُ أصلِهم وهو آدم ع، واللاّزِبُ: اللازمُ: يَلْزَمُ ما جاورَهُ ويَلْصَقُ به، وهُوَ الصَّلْصَالُ، بَلْ عَجِبْتَ يا محمدُ مِنْ إعْرَاضِهِم عن الحق، وقرأ حمزةُ والكسائي «بل عَجِبْتُ» - بضمِ التاء- «٣» وذلك على أن يكونَ تَعَالَى هو المُتَعَجِّبُ ومعنَى ذَلِكَ مِن اللَّه تعالى: أنه صفة فعل، ونحوه قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«يَعْجَبُ اللَّهُ مِنَ الشّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ» فإنَّما هِي عِبَارَةٌ عَمَّا يُظْهِرُهُ اللَّه- تعالى- في جِانِبِ المُتَعَجَّبِ مِنْهُ من التعظيمِ أو التحقير حَتَّى يصيرَ الناسُ مُتَعَجِّبِينَ مِنه، قال الثعلبي: قال الحسينُ بن الفضل: التعجبُ من اللَّهِ إنكارُ الشيء، وتعظيمهُ وهو لغة العرب، انتهى.
وقوله: وَيَسْخَرُونَ أي: وهمْ يَسْخَرُونَ من نبوّتك.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٤ الى ٢٦]
وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨)
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وقوله: وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ يريدُ بالآية: العلامةَ والدلالة، ورُوِيَ أنَّها نزلتْ في رُكَانة وَهُوَ رَجُلٌ من المشركينَ من أهل مكة لقيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جَبَلٍ خَالٍ وهُوَ يرعى غَنَماً له وكانَ أقوى أهْلِ زَمانِه، فقال له النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا رُكَانَةُ أَرَأَيْتَ إنْ صَرَعْتُكَ أَتُؤْمِنُ بِي؟ قال: نعم، فصرعه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثَلاَثاً، ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ دُعَاءِ شجرة وإقبالها،
(٢) يعني: مخففة الميم.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٣٣٩)، و «الدر المصون» (٥/ ٤٩٧).
(٣) ينظر: «السبعة» (٥٤٧)، و «الحجة» (٦/ ٥٣)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٢٤٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٣١٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٨١)، و «العنوان» (١٦١)، و «حجة القراءات» (٦٠٦)، و «شرح شعلة» (٥٦٢)، و «إتحاف» (٢/ ٤٠٨).

ونَحْوَ ذَلك مما اخْتَلَفَتْ فيه ألفاظُ الحديثِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذلكَ لَم يُؤْمِنْ، وجاءَ إلى مَكَّةَ، فَقَالَ: يَا بني هَاشِمٍ، سَاخِرُوا بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الأرضِ، فنزلَتْ هذه الآية فيه وفي نظرائه، ويَسْتَسْخِرُونَ قال مجاهد وقتادة: معناه: يَسْخَرُونَ «١»، ثم أمر تعالى نبيَّه أن يُجِيبَ تَقْرِيرَهُمْ واستفهامهم عَنِ البَعْثِ ب نَعَمْ، وأن يزيدَهُمْ في الجواب، أنَّهُمْ معَ البعث في صَغَارٍ وذلَّةٍ واستكانةٍ، والدَّاخِرُ: الصَّاغِرُ الذليلُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بيانهُ غيرَ ما مَرَّةٍ، والزَّجْرَةُ الواحدةُ: هِيَ نَفْخَةُ البَعْثِ، قال العراقيّ: الزّجرة: الصّيحة بانتهار، انتهى. والدِّينِ:
الجزاءُ، وأجمَع المفسِّرُونَ على أن قولَه تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لَيْسَ هو من قولِ الكَفَرَةِ وإنما المعنى: يُقَالُ لهُم.
وقوله: وَأَزْواجَهُمْ معناه: أنوَاعُهُم وضُرَباؤهم قاله عمر وابن عبّاس وقتادة «٢»، ومعهم ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ آدَمِيٍّ رَضِيَ بذلكَ، ومن صَنَمٍ وَوَثَنٍ توبيخاً لهم وإظهاراً لِسُوءِ حالهم، وقال الحسنُ: أَزْواجَهُمْ نساؤهم المشركاتُ: وقاله ابن عباس أيضاً «٣».
وقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ معناه: قَدِّمُوهم واحملوهم على طريق الجحيم، ثم يأمر اللَّهُ تعالى بوقوفهم- على جِهَةِ التَّوْبِيخِ لهم- والسؤال، قال جمهور المفسرين: يُسْأَلُونَ عن أعمالهم ويُوقَفُونَ على قُبْحِها، وقد تقدَّم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ... » الحديثَ، قال ع «٤» : ويَحْتَمِلُ عندي أنْ يكونَ المعنى على نحوِ ما فسّره تعالى بقوله: ما لَكُمْ لا
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠/ ٤٧٩) برقم: (٢٩٣١٢) عن عمر بن الخطاب وبرقم: (٢٩٣١٣) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤) عن عمر، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٥١٣)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وابن أبي شيبة، وابن منيع في مسنده، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» من طرق النعمان بن بشير عن عمر، وللفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤/ ٤٦٩) عن الحسن وابن عبّاس، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤/ ٤) عن ابن عبّاس.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤٦٩). [.....]