المسألة الثانية: قوله: أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وقطعها من أَصْطَفَى ثُمَّ بِحَذْفِ أَلِفِ الْوَصْلِ وَهُوَ اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ [الزُّخْرُفِ: ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطُّورِ: ٣٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النَّجْمِ: ٢١] وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ كُلَّهَا اسْتِفْهَامٌ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى مَوْصُولَةً بِغَيْرِ اسْتِفْهَامٍ، وَإِذَا ابْتَدَأَ كَسَرَ الْهَمْزَةَ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ اصْطَفَى الْبَنَاتِ فِي زَعْمِهِمْ كَقَوْلِهِ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدُّخَانِ: ٤٩] فِي زَعْمِهِ وَاعْتِقَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْجَنَّةِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ:
أَثْبَتُوا نَسَبًا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فالجنة هم الملائكة سموا جنا لاجتنانهم عَنِ الْأَبْصَارِ أَوْ لِأَنَّهُمْ خُزَّانُ الْجَنَّةِ، وَأَقُولُ هَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي مُشْكِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَعْطُوفِ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَمَنْ أُمَّهَاتُهُمْ؟ قَالُوا: سَرَوَاتُ الْجِنِّ، وَهَذَا أَيْضًا عِنْدِي بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمُصَاهَرَةَ لَا تُسَمَّى نَسَبًا وَالثَّالِثُ: رَوَيْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الْأَنْعَامِ: ١٠٠] أَنَّ قَوْمًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ يَقُولُونَ: اللَّهُ وَإِبْلِيسُ أَخَوَانِ فَاللَّهُ الْخَيِّرُ الْكَرِيمُ وَإِبْلِيسُ هُوَ الْأَخُ الشِّرِّيرُ الْخَسِيسُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الْمُرَادُ مِنْهُ هَذَا الْمَذْهَبُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ. وَهُوَ مَذْهَبُ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ بِيَزْدَانَ وَإِهْرَمَنَ «١» ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ قَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ مُحْضَرُونَ النَّارَ وَيُعَذَّبُونَ وَقِيلَ الْمُرَادُ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ أَنَّهُمْ سَيَحْضُرُونَ فِي الْعَذَابِ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي عَائِدٌ إِلَى الْجِنَّةِ أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى/ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا مِنَ الْكَذِبِ فَقَالَ: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وُجُوهٌ، قِيلَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ نَاجُونَ، وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَقِيلَ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، وَمَعْنَاهُ وَلَكِنَّ الْمُخْلِصِينَ بُرَآءُ مِنْ أَنْ يَصِفُوهُ بِذَلِكَ، وَالْمُخْلِصُ بِكَسْرِ اللَّامِ مَنْ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالِاعْتِقَادَ لِلَّهِ وَبِفَتْحِهَا مَنْ أخلصه الله بلطفه والله أعلم.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ١٦١ الى ١٧٠]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
فِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْكُفَّارِ أَتْبَعَهُ بِمَا نَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ أَحَدٍ عَلَى الضَّلَالِ إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بِالْعَذَابِ وَالْوُقُوعِ فِي النَّارِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ قَوْلَيْنِ الْأَوَّلُ: الضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعْنَاهُ فإنكم ومعبوديكم ما أنتم وهو جَمِيعًا بِفَاتِنِينَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا أَصْحَابَ النَّارِ الَّذِينَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ كَوْنُهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَفْتِنُونَهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ قُلْنَا يَفْتِنُونَهُمْ عَلَيْهِ بِإِغْوَائِهِمْ مِنْ قَوْلِكَ فَتَنَ فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ امْرَأَتَهُ كَمَا تَقُولُ أَفْسَدَهَا عَلَيْهِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَما تَعْبُدُونَ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتَهُ، فَكَمَا جَازَ السُّكُوتُ عَلَى كُلُّ رَجُلٍ وَضَيْعَتُهُ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسْكَتَ عَلَى قَوْلِهِ:
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما تَعْبُدُونَ سَادٌّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنَّكُمْ مَعَ مَا تَعْبُدُونَ، وَالْمَعْنَى فَإِنَّكُمْ مَعَ آلِهَتِكُمْ أَيْ فَإِنَّكُمْ قُرَنَاؤُهُمْ وَأَصْحَابُهُمْ لَا تَتْرُكُونَ عِبَادَتَهَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى مَا تَعْبُدُونَ بِفاتِنِينَ بِبَاعِثِينَ أَوْ حَامِلِينَ عَلَى طَرِيقِ الْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ مِثْلُكُمْ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ صالِ الْجَحِيمِ بِضَمِّ اللَّامِ وَوَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَسُقُوطُ وَاوِهِ لِالْتِقَاءِ/ السَّاكِنَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْجَمْعُ مَعَ قَوْلِهِ: مَنْ هُوَ قُلْنَا (مَنْ) مُوَحَّدُ اللَّفْظِ مَجْمُوعُ الْمَعْنَى فَحُمِلَ هُوَ عَلَى لَفْظِهِ وَالصَّالُونَ عَلَى مَعْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِإِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْدِيرُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقَوْلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرَ لِأَحْوَالِ مَعْبُودِيهِمْ فِي وُقُوعِ الْفِتْنَةِ وَالضَّلَالِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ يَعْنِي إِلَّا مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِوُقُوعِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا إِلَّا مَنْ ثَبَتَ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَنَّهُ سَيَكَفُرُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ ضَلَّ بِدُعَاءِ الشَّيْطَانِ لَمْ يَكُنْ لِيُؤْمِنَ بِاللَّهِ لَوْ مَنَعَ اللَّهُ الشَّيْطَانَ مِنْ دُعَائِهِ وَإِلَّا كَانَ يَمْنَعُ الشَّيْطَانَ، فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْصِي لَمْ يَكُنْ لِيَصْلُحَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْجَوَابُ: حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِإِغْوَاءِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ. وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ إِلَّا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِكَلَامِهِمْ فِي وُقُوعِ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ هُوَ كَوْنُهُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ صَالِ الْجَحِيمِ، وَذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَرَّرُوا هَذِهِ الْحُجَّةَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ أَنَّهُ حَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ الْقَاضِي هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَقْبَلْهُ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يُلَامَ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الذُّنُوبِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ آدَمُ لَا يُجَوِّزُ
لِمُوسَى أَنْ يَلُومَهُ عَلَى عَمَلٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، فَكَذَلِكَ كَلُّ مُذْنِبٍ. فَإِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِمَاذَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْوَكْزَةِ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ؟ وَلِمَاذَا قَالَ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ؟ وَلِمَاذَا لَامَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهَ عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ؟ وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ الْقَدَرِيَّةَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُوجِبُ أَنَّ آدَمَ كَانَ قَدَرِيًّا، فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُكَفِّرُوهُ، وَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ قَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الْأَعْرَافِ: ٢٣] أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى مُوسَى بِأَنَّهُ لَا لَوْمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كُتِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَاضِي فَيُقَالُ لَهُ هَبْ أَنَّكَ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ الْخَبَرَ، فَهَلْ تَرُدُّ هَذِهِ الْآيَةَ أَمْ لَا، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْوَسَاوِسِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْكُلَّ يَحْصُلُ بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْكَافِرَ إِنْ ضَلَّ بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ فَضَلَالُ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ بِسَبَبِ شَيْطَانٍ آخَرَ لَزِمَ تَسَلْسُلُ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى ضَلَالٍ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِ وَسْوَسَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُرِيدُ أَنْ يَحْصُلَ لِنَفْسِهِ الِاعْتِقَادُ الْحَقُّ وَالدِّينُ الصِّدْقُ، فَحُصُولُ ضِدِّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَفْعَالَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الدَّوَاعِي وَحُصُولُ الدَّوَاعِي بِخَلْقِ اللَّهِ، فَيَكُونُ الْكُلُّ/ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ شَيْئًا، وَعُلِمَ وُقُوعُهُ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَزِمَ انْقِلَابُ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَذِبًا وَانْقِلَابُ ذَلِكَ الْعِلْمِ جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْقَاضِي فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّهِ وَالْقُرْآنُ كَالْبَحْرِ الْمَمْلُوءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَبْقَى الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا سَلِيمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَصْطَفُّونَ لِلصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ أَوْلَادُ اللَّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُبَالَغَتَهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ فَأَوَّلُهَا: قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَرْتَبَةً لَا يَتَجَاوَزُهَا وَدَرَجَةً لَا يَتَعَدَّى عَنْهَا، وَتِلْكَ الدَّرَجَاتُ إِشَارَةٌ إِلَى دَرَجَاتِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَإِلَى دَرَجَاتِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَمَّا دَرَجَاتُهُمْ فِي التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَالْمُرَادُ كَوْنُهُمْ صَافِّينَ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ وَمَنَازِلِ الْخِدْمَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَأَمَّا دَرَجَاتُهُمْ فِي الْمَعَارِفِ فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ هُمُ الصَّافُّونَ فِي مَوَاقِفِ الْعُبُودِيَّةِ لَا غَيْرُهُمْ وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُسَبِّحُونَ لَا غَيْرُهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَاعَاتِ الْبَشَرِ وَمَعَارِفَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَى مَعَارِفِهِمْ كَالْعَدَمِ، حَتَّى يَصِحَّ هَذَا الْحَصْرُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ تَدُلُّ عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ فَكَيْفَ يَجُوزُ مَعَ هَذَا الْحَصْرِ أَنْ يُقَالَ الْبَشَرُ تَقْرُبُ دَرَجَتُهُ مِنَ الْمَلَكِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ هَلْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَمْ لَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَغَيْرَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أَيْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ نَزَلَ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لَأَخْلَصْنَا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، وَلَمَا كَذَّبْنَا كَمَا كَذَّبُوا. ثُمَّ جَاءَهُمُ الذِّكْرُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الْأَذْكَارِ وَالْكِتَابُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ فَكَفَرُوا بِهِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَيْ فَسَوْفَ يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب.