
تعظيما لهم، وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة كما قال سبحانه: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ».
والسلام أمان من كل مكروه، ونيل لكل محبوب، وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها، فكأن هذا إجمال.
لما تقدم من اللذات التي فصلت فيما سلف.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٩ الى ٦٨]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
تفسير المفردات
امتازوا: أي انفردوا وابتعدوا عن المؤمنين، والعهد: الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة، وعبادة الشيطان: يراد بها عبادة غير الله من الآلهة الباطلة، وأضيفت إلى

الشيطان لأنه الآمر بها والمزيّن لها، والجبلّ: الجماعة العظيمة، اصلوها: أي قاسوا حرها، والختم على الأفواه: يراد به المنع من الكلام، والطمس: إزالة الأثر بالمحو، فاستبقوا الصراط: أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم، فأنى يبصرون: أي فكيف يبصرون الحق، ويهتدون إليه؟ والمسخ تحويل الصورة إلى صورة أخرى قبيحة، على مكانتهم:
أي في أماكنهم حيث يجترحون القبائح، ونعمره: أي نطل عمره، ننكسه في الخلق:
أي نقلبه فيه فلا يزال ضعفه يتزايد، وانتقاص بنيته يكثر، بعكس ما كان عليه في بدء أمره حتى يردّ إلى أرذل العمر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما للمحسنين من نعيم واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات- أعقبه بذكر حال المجرمين وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق وابتعاد بعضهم من بعض، فيكون لهم عذابان: عذاب النار وعذاب الوحدة، ولا عذاب فوق هذا، ثم أردف هذا أنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا بما أرسل إليهم من الرسل الذين بلغوهم أوامر ربهم ونواهيه، ومنها نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان وعن اتباعه فيما يوسوس به، ثم ذكر أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا، لكنهم اتبعوا وساوسه، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا، وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى، ثم ذكر مآل أمرهم وأنهم سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بما اكتسبت أيديهم، وهم في هذا اليوم لا ينطقون ببنت شفة، ولا تقبل منهم معذرة، بل تتكلم أيديهم بما عملت، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت، ثم ذكر أنه رحمة منه بعباده لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا بشديد العقوبات، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه ما قدروا ولا أبصروا، ولم يشأ أن يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا، ثم دفع معذرة أخرى ربما

احتجوا بها وهى أن ما عمّروه قليل، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل، واهتدوا إلى الحق فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمّروا في السن ضعفوا عن العمل وقد عمّروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك كما قال: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» ولكن ذلك ما كفاهم، فهم مهما طالت أغمارهم لا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا.
الإيضاح
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار، فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدا، ونحو الآية قوله: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» وقوله: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» وقوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ».
ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال سبحانه موبخالهم:
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي ألم أوصكم بما نصبت من الأدلة، ومنحت من العقول، وبعثت من الرسل، وأنزلت من الكتب بيانا للطريق الموصل إلى النجاة- أن تتركوا طاعة الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتى ومخالفة أمرى.
ثم علل النهى عن عبادته بقوله:
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم من جراء عداوته لأبيكم آدم من قبل، ولأنه يوبقكم في مهاوى الردى، ويوقعكم في مزالق الهلاك.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادته سبحانه فقال:

(وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدي، وأطيعونى فيما أمرتكم به، وانتهوا عما نهيتكم عنه.
ثم بين أن ما أمر به ونهى عنه طريق معبّد واضح لا لبس فيه ولا خفاء فقال:
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي نهيتكم عنه من عبادة الشيطان، وأمرتكم به من عبادة الرّحمن، هو الصراط المستقيم، لكنكم سلكتم غيره فوقعتم في مزالق الضلال وتردّيتم في مهاوى الردى.
وبعد أن نبههم إلى أنهم نقصوا العهد وبخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم ممن أوقعهم الشيطان في المهالك، وكانت عاقبتهم ما يرون من سوء المنقلب في الدنيا والآخرة فقال:
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي ولقد صد الشيطان منكم خلقا كثيرا عن طاعتى وإفرادى بالألوهية فاتخذوا من دونى آلهة يعبدونها.
ثم زاد في توبيخهم والإنكار عليهم فقال:
(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟) أي فلم يكن لكم عقل فترتدعوا عن مثل ما كانوا عليه كى لا يحيق بكم من العذاب مثل ما حاق بهم.
وبعد أن أنّبوا ووبّخوا بما سلف خوطبوا بما يزيدهم حسرة وألما فقيل لهم:
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه هى جهنم التي كنتم توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلّغين عنهم إذا أنتم اتبعتم وساوس الشيطان، وعصيتم الرّحمن، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان، واجترحتم الفسوق والعصيان.
ثم أمرهم أمر إهانة وتحقير لهم بقوله:
(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي احترقوا بها اليوم، وقاسوا حرها الشديد بسبب جحودكم بها في الدنيا، وتكذيبكم إياها، بعد أن نبهتم فلم تنتبهوا، وأوقظتم فلم تستيقظوا.
وخلاصة ذلك- إنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة:

(١) إنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة نحو قوله لفرعون: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ».
(٢) إنه ذكر لفظ (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر وأن لذاتهم قد مضت وبقي العذاب اليوم.
(٣) إن قوله بما كنتم تكفرون يومئ إلى أن هناك نعمة قد كانت فكفروا بها، وحياء الكفور من المنعم أشد ألما وأعظم مضاضة كما قيل:
أليس بكاف لذى همة... حياء المسيء من المحسن
ثم بين أنهم في هذا اليوم لا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم فقال:
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ففى هذا اليوم ينكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام، ويحلفون أنهم ما فعلوا كما حكى الله عنهم من قولهم: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» فيختم على أفواههم فلا تنطق ببنت شفة، ويستنطق جوارحهم بما اجترمت من الفسوق والعصيان الذي لم يتوبوا عنه.
ونسب الكلام إلى الأيدى والشهادة إلى الأرجل، من قبل أن الأولى لها مزيد اختصاص بمباشرة الأعمال، ومن ثم كثر نسبة العمل إليها في نحو قوله: َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ»
وقوله: «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» وقوله: «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» ولا كذلك الثانية فكانت الشهادة بها أنسب، إذ هى كالأجنبية منها.
وجاء في الخبر: «يقول العبد يوم القيامة إنى لا أجد علىّ شاهدا إلا من نفسى، فيختم الله على فيه ويقول لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله. ثم يخلّى بينها وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا، فعنكنّ كنت أناضل».

وإذا كان المرء في دار الدنيا المملوءة أكاذيب ونفاقا يخجل فيحمرّ وجهه، ويوجل فيصفرّ وجهه ويتخذ القضاة من ذلك أدلة على إدانة المتهم. كما نقصّ آثار أقدام اللصوص والجناة ونتبعهم في السهل والجبل حتى إذا عثرنا عليهم قدمناهم للقضاء بشهادة هذه الآثار التي لا اشتباه فيها، كذلك نختم بأصابغ المجرمين على الورق (البصمة) فلا تشاكل يد يدا، مما يجعل لذلك أجلّ قيمة في خدمة العدالة.
وإذا كان هذا في عالمنا الجسماني فما بالك بعالم الأرواح التي يكون فيها لكل ذنب أو عمل حسن أثر في النفوس يولد فيها الخير أو الشر، حتى إذا انفصلت الأرواح من الأجساد ظهر ما انطبع فيها من خير أو شر؟ وإلى هذا يشير قوله تعالى ذاكرا حال الحساب يوم القيامة: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» فالنفس إذا هى الكتاب الذي لا غش فيه ولا كذب، فإذا صمت اللسان نطقت الجوارح كما ننطق آثارها اليوم، أي تدل على المراد أفصح دلالة، وترشد إلى المقصود أيما إرشاد، وهذا هو الذي ينبغى أن يفهم في الآية الكريمة.
ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهاب الأبصار، كما هو قادر على إذهاب البصائر فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم، فطمسنا على أعينهم، فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا، ولا يهتدون إلى شىء.
وإجمال المراد: لو شئنا لأذهبنا أحداقهم، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لم يستطيعوا ذلك.
ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة فقال:
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولو أردنا لحوّلناهم عن تلك الحال إلى ما هو أقبح منها، فجعلناهم قردة وخنازير وهم