
عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما أنها قرآ «من بعثنا» بكسر الميم على أنها لابتداء الغاية، وسكون العين وكسر الثاء على المصدر، وفي قراءة ابن مسعود، «من أهبنا من مرقدنا» أي من نبهنا، وفي قراءة أبي بن كعب «من هبنا»، قال أبو الفتح ولم أر لها في اللغة أصلا ولا مر بنا مهبوب، ونسبها أبو حاتم إلى ابن مسعود رضي الله عنه، وقولهم مِنْ مَرْقَدِنا يحتمل أن يريدوا من موضع الرقاد حقيقة، ويروى عن أبي بن كعب وقتادة ومجاهد أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا غير صحيح الإسناد، وإنما الوجه في قولهم مِنْ مَرْقَدِنا أنها استعارة وتشبيه، كما تقول في قتيل هذا مرقده إلى يوم القيامة، وفي كتاب الثعلبي: أنهم قالوا مِنْ مَرْقَدِنا لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم، وقال الزجاج: يجوز أن يكون هذا إشارة إلى المرقد، ثم استأنف بقوله، ما وَعَدَ الرَّحْمنُ ويضمر الخبر حق أو نحوه، وقال الجمهور: ابتداء الكلام هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ، واختلف في هذه المقالة من قالها، فقال ابن زيد: هي من قول الكفرة أي لما رأوا البعث والنشور الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ وقالت فرقة: ذلك من قول الله تعالى لهم على جهة التوبيخ والتوقيف، وقال الفراء: هو من قول الملائكة، وقال قتادة ومجاهد: هو من قول المؤمنين للكفرة على جهة التقريع، ثم أخبر تعالى أن أمر القيامة والبعث من القبور ما هو إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فإذا الجميع حاضر محشور، وقرأت فرقة «إلا صيحة» بالنصب، وقرأت فرقة «إلا صيحة» بالرفع، وقد تقدم إعراب نظيرها، وقوله فَالْيَوْمَ نصب على الظرف، ويريد يوم القيامة، والحشر المذكور وهذه مخاطبة يحتمل أن تكون لجميع العالم.
قوله عز وجل:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٦١]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
هذا إخبار من الله عز وجل عن حال أهل الجنة بعقب ذكر أهوال يوم القيامة وحالة الكفار، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والحسن وطلحة وخالد بن إلياس «في شغل» بضم الشين وسكون الغين، وقرأ الباقون «في شغل» بالضم فيهما وهي قراءة أهل المدينة والكوفة، وقرأ مجاهد وأبو عمرو أيضا بالفتح فيهما، وقرأ ابن هبيرة على المنبر «في شغل» بفتح الشين وسكون الغين وهي كلها بمعنى واحد، واختلف الناس في تعيين هذا الشغل، فقال ابن مسعود وابن عباس وابن المسيب: في افتضاض الأبكار، وحكى النقاش عن ابن عباس سماع الأوتار، وقال مجاهد معناه نعيم قد شغلهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو القول الصحيح وتعيين شيء دون شيء لا قياس له، ولما كان

النعيم نوعا واحدا من حيث هو نعيم وحده فقال فِي شُغُلٍ ولو اختلف لقال في أشغال، وحكى الثعلبي عن طاوس أنه قال: لو علم أهل الجنة عمن شغلوا ما همهم ما شغلوا به، قال الثعلبي: وسئل بعض الحكماء عن قوله عليه السلام «أكثر أهل الجنة البله» فقال: لأنهم شغلوا بالنعيم عن المنعم، وقرأ جمهور الناس «فاكهون» معناه أصحاب فاكهة كما تقول لابن وتامر وشاحم ولاحم، وقرأ أبو رجاء ومجاهد ونافع أيضا وأبو جعفر «فكهون» ومعناه طربون وفرحون مأخوذ من الفكاهة أي لا همّ لهم، وقرأ طلحة والأعمش وفرقة «فاكهين» جعلت الخبر في الظرف الذي هو قوله فِي شُغُلٍ ونصب «فاكهين» على الحال، وقوله تعالى:
هُمْ ابتداء وأَزْواجُهُمْ وفِي ظِلالٍ خبره ويحتمل أن يكون هُمْ بدلا من قوله فاكِهُونَ ويكون قوله فِي ظِلالٍ في موضع الحال كأنه قال مستظلين، وقرأ جمهور القراء «في ظلال» وهو جمع ظل إذ الجنة لا شمس فيها وإنما هواؤها سجسج كوقت الأسفار قبل طلوع الشمس، ويحتمل قوله فِي ظِلالٍ أن يكون جمع ظلة قال أبو علي كبرمة وبرام وغير ذلك، وقال منذر بن سعيد: ظِلالٍ جمع ظلة بكسر الظاء.
قال القاضي أبو محمد: وهي لغة في ظلة، وقرأ حمزة والكسائي «في ظلل» وهي جمع ظلة وهي قراءة طلحة وعبد الله وأبي عبد الرحمن، وهذه عبارة عن الملابس والمراتب من الحجال والستور ونحوها من الأشياء التي تظل، وهي زينة، والْأَرائِكِ السرر المفروشة، قال بعض الناس: من شروطها أن تكون عليها حجلة وإلا فليست بأريكة، وبذلك قيدها ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة، وقال بعضهم:
الأريكة السرير كان عليه حجلة أو لم يكن، وقوله تعالى: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ بمنزلة ما يتمنون قال أبو عبيدة: العرب تقول: ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي، وتقول: فلان فيما ادعى أي فيما دعى به لأنه افتعل من دعا يدعو وأصل هذا يدتعيون نقلت حركة الياء إلى العين وحذفت الياء لاجتماعها مع الواو الساكنة فصار يدتعون قلبت التاء دالا فأدغمت الدال فيها وخصت الدال بالبقاء دون التاء لأنها حرف جلد، والتاء حرف همس. قال الرماني: المعنى أن من ادعى شيئا فهو له لأنهم قد هذبت طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم، وقوله تعالى: سَلامٌ قيل: هي صفة لما أي مسلم لهم وخالص، وقيل: هو ابتداء، وقيل هو خبر ابتداء، وقرأ ابن مسعود وأبي بن كعب وعيسى الثقفي والغنوي «سلاما» بالنصب على المصدر، وقرأ محمد بن كعب القرطبي «سلم» وهو بمعنى سلام، وقَوْلًا نصب على المصدر وقوله تعالى:
وَامْتازُوا الْيَوْمَ الآية فيه حذف تقديره ونقول للكفرة وهذه معادلة لقوله لأصحاب الجنة سَلامٌ، وَامْتازُوا معناه انفصلوا وانحازوا لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون، ثم خاطبهم تعالى لما تميزوا توقيفا لهم وتوبيخا على عهده إليهم ومخالفتهم عهده، وقرأ جمهور الناس «أعهد» بفتح الهاء، وقرأ الهذيل وابن وثاب، «ألم اعهد» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من يكسر أول المضارع سوى الياء، وروي عن ابن وثاب «ألم أعهد» بكسر الهاء، يقال عهد وعهد، وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد لإغوائه، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي «أن اعبدون» بضم النون من أن أتبعوا بها ضمة الدال واو الجماعة أيضا، وقرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة «وأن اعبدون» بكسر النون على أصل الكسر للالتقاء، وقوله تعالى هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى الشرائع، فمعنى هذا أن الله تعالى عهد إلى بني آدم وقت إخراج