
إنكار الكفار يوم البعث وبيان أنه حق لا شك فيه
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٤]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
الإعراب:
يَخِصِّمُونَ الأصل: يختصمون بوزن «يفتعلون» فحذف حركة التاء، ولم ينقلها إلى الخاء، وأبدل من التاء صادا، وأدغم الصادين ببعضهما، وكسر الخاء لسكونها وسكون الصاد الأولى، لأن الأصل في التقاء الساكنين الكسر. وقرئ يَخِصِّمُونَ بفتح الياء والخاء، بنقل تتمة التاء إلى الخاء، وقرئ أيضا يَخِصِّمُونَ بكسر الياء والخاء، وقد كسر الياء اتباعا لكسرة الخاء، والكسر للاتباع كثير في كلامهم، مثل قسيّ وعصي وخفي. وقرئ «يخصمون» كيضربون، أي يخصم بعضهم بعضا.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل فَإِذا هُمْ إذا هنا ظرفية للمفاجاة.
يا وَيْلَنا إما منادى مضاف، فويل: هو المنادي، ونا: هو المضاف إليه، ونداء الويل كنداء الحسرة في قوله تعالى: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ. وإما أن يكون المنادي محذوفا، ووَيْلَنا منصوب على المصدر، كأنهم قالوا: يا هؤلاء ويلا لنا، فلما أضيفت حذفت اللام الثانية.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ مبتدأ وخبر، وما مصدرية أو موصولة محذوفة العائد.

البلاغة:
مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا استعارة، شبه حال موتهم بحال نومهم، أي من بعثنا من موتنا.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ فيه إيجاز بالحذف، أي تقول لهم الملائكة ذلك، أي وعدكم به الرحمن.
المفردات اللغوية:
مَتى هذَا الْوَعْدُ متى يتحقق ويجيء ما وعدتمونا به وهو وعد البعث ما يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي نفخة إسرافيل الأولى في الصور، وهي التي يموت بها أهل الأرض جميعا تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي تأخذهم الصيحة فجأة في غفلة عنها، وهم يتخاصمون في معاملاتهم ومتاجرهم وأكلهم وشربهم وغير ذلك.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أن يوصوا في شيء من أمورهم بما لهم وما عليهم وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيعون الرجوع من أسواقهم وأشغالهم إلى منازلهم، بل يموتون فيها وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخ فيه النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة فَإِذا هُمْ المقبورون مِنَ الْأَجْداثِ القبور إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يخرجون بسرعة، أو يسرعون.
قالُوا أي الكفار منهم يا وَيْلَنا يا هلاكنا، والويل: مصدر لا فعل له من لفظه وهو الهلاك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ من أخرجنا من موتنا، لأنهم بسبب ما رأوا من الهول، وما داهمهم من الفزع، ظنوا أنهم كانوا نياما هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ أي هذا البعث الذي وعد به الرحمن وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي وصدق فيه الأنبياء المرسلون، والمعنى: رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم كانوا في الموت وبعثوا، وأقروا بصدق الرسل يوم لا ينفع التصديق أو الإقرار.
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت الفعلة إلا النفخة الأخيرة التي نفخها إسرافيل في الصور، فإذا هم مجموعون عندنا بسرعة بمجرد تلك الصيحة للحساب والجزاء والعقاب. قال البيضاوي: وفي كل ذلك تهوين أمر البعث والحشر، واستغناؤهما عن الأسباب المألوفة في الدنيا. وتنكير صَيْحَةً للتكثير.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك، تصويرا للموعود، وتمكينا له في النفوس.

المناسبة:
بعد بيان إعراض الكفار عن التقوى، وامتناعهم من الإنفاق، أبان الله تعالى سبب ذلك وهو إنكارهم للبعث، واستعجالهم له، استهزاء به، ثم أوضح أنه حق لا مرية فيه، وأنه سيأتيهم الموت بغتة، وهم في غفلة عنه، وأن البعث أمر سهل على الله لا يحتاج إلا إلى نفخة واحدة في الصور.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم:
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ أي ويقول المشركون استعجالا للبعث استهزاء وسخرية وتهكما بالمؤمنين: متى يأتي هذا الوعد بالبعث الذي وعدتمونا به، وتهددونا به، إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون؟! والخطاب للرسول ص والمؤمنين الذين دعوهم إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، فأجابهم الله تعالى:
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي ما ينتظرون للعذاب والقيامة إلا نفخة واحدة في الصور، هي نفخة الفزع التي يموت بها جميع أهل الأرض فجأة، وهم يختصمون فيما بينهم في البيع والشراء ونحوهما من أمور الدنيا أي وهم متشاغلون في شؤون الحياة من معاملة وحديث وطعام وشراب وغير ذلك، كما قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف ٧/ ٩٥] وقال سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الزخرف ٤٣/ ٦٦].
وقوله جل وعز: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى في الصور، كما قال عكرمة، ويؤيده ما رواه ابن جرير عن ابن عمر قال: لينفخنّ في الصور،

والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور، فيصعق به، وهي التي قال الله: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ، وَهُمْ يَخِصِّمُونَ.
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، والرجل يليط «١» حوضه، فلا يسقي منه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته (نعجته)، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه (فمه)، فلا يطعمها».
ثم أبان تعالى سرعة حدوث الموت العام أو الصيحة، فقال:
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له من أملاك وما عليه من ديون، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم، ولا يتمكنون من الرجوع إلى منازلهم التي كانوا خارجين عنها.
ثم أخبر الله تعالى عن نفخة ثانية هي نفخة البعث والنشور من القبور، فقال:
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور من القبور، فإذا جميع المخلوقين يخرجون من القبور، يسرعون المشي إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً، كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج ٧٠/ ٤٣].
ثم ذكر ما يطرأ عليهم بعد البعث من الأهوال والمخاوف فقال تعالى:
قالُوا: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي قال المبعوثون: يا هلاكنا من الذي بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ وهي قبورهم التي كانوا يعتقدون في دار

الدنيا أنهم لا يبعثون منها، وظنوا لما شاهدوا من الأهوال وما استبد بهم من الفزع، أنهم كانوا نياما.
وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ أي هذا ما وعد به الله وصدق في الإخبار عنه الأنبياء المرسلون، فهم رجعوا إلى أنفسهم، فاعترفوا أنهم بعثوا من الموت، وأقروا بصدق الرسل، يوم لا ينفع التصديق. فهذا الكلام من قول الكفار، وهو رأي عبد الرحمن بن زيد، واختاره الشوكاني وغيره.
واختار ابن جرير وابن كثير أن هذا جواب الملائكة أو جواب المؤمنين، كقوله تبارك وتعالى: وَقالُوا: يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ. هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٠- ٢١].
ثم أوضح الله تعالى سرعة البعث، فقال:
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، فإذا هم أحياء مجموعون لدينا بسرعة للحساب والجزاء، كما قال تعالى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٣- ١٤] وقال عز وجل: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل ١٦/ ٧٧].
وأردف بعدئذ ما يكون في ذلك من القضاء العادل، فقال تعالى:
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في يوم القيامة لا تبخس نفس شيئا من عملها مهما قلّ، ولا توفون إلا ما عملتم من خير أو شر.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كان الرد الحاسم على استعجال الكفار قيام الساعة استهزاء أنها تأتي فجأة كلمح البصر أو هي أقرب، وتحدث بنفخة واحدة هي نفخة إسرافيل في وقت يختصم الناس في أمور دنياهم، فيموتون في مكانهم. وهذه نفخة الصّعق.
٢- من آثار الموت المفاجئ بتلك النفخة أنهم لا يتمكنون من العودة إلى ديارهم إذا كانوا خارجين منها، ولا يستطيعون الإيصاء إلى غيرهم بما لهم وما عليهم. وقيل: لا يستطيع أن يوصي بعضهم بعضا بالتوبة، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم.
٣- ثم تأتي النفخة الثانية وهي نفخة البعث والنشور من القبور، فهما نفختان، لا ثلاث، بدليل هذه الآية: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ.
وروى المبارك بن فضالة عن الحسن البصري قال: قال رسول الله ص: «بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حيّ، والأخرى يحيي الله بها كلّ ميت».
٤- يتعجب أهل البعث ويذهلون ويفزعون مما يرون من شدائد الأهوال، فيتساءلون عمن أخرجهم من قبورهم، مفضلين عذاب القبر، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد.
٥- النفخة الثانية أيضا وهي نفخة البعث والنشور سريعة جدا، فإذا حدثت تجمّع الناس جميعا وحضروا مسرعين إلى لقاء ربهم للحساب والجزاء، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر ٥٤/ ٨].
٦- الحساب حق وعدل، والجزاء قائم على العدل المطلق، فلا ينقص من