
الخلق، كقوله عز وجل: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً [الأعراف: ١٧٩] يعني: خلقنا. ويقال:
ذُرِّيَّتَهُمْ خاصة.
ثم قال: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ يعني: في سفينة نوح- عليه السلام- الموقرة المملوءة.
يعني: حملنا ذريتهم في أصلاب آباءهم قرأ نافع وابن عامر: ذُرّياتِهِمْ بلفظ الجماعة. وقرأ الباقون: ذُرِّيَّتَهُمْ وأراد به الجنس.
ثم قال عز وجل: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ يعني: من مثل سفينة نوح- عليه السلام- ما يركبون في البحر. وقال قتادة: يعني: الإبل يركب عليها في السير، كما تركب السفن في البحر. وقال السدي: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ. فقال: هذه السفن الصغار. يعني: الزوارق. وقال عبد الله بن سلام: هي الإبل.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أخبرني الثقة بإسناده عن أبي صالح. قال: قال لي ابن عباس: ما تقول في قوله: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ قلت: هي السفن. قال: خذ مني بآذان إنما هي الإبل. فلقيني بعد ذلك. فقال: إني ما رأيتك إلا وقد غلبتني فيها، هي كما قلت ألا ترى أنه يقول: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ يعني: إن نشأ نغرقهم في الماء فَلا صَرِيخَ لَهُمْ يعني: لا مغيث لهم وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ يعني: لا يمنعون، فلا ينجون من الغرق.
قوله عز وجل: إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا يعني: إلا نعمة منا، حين لم نغرقهم. ويقال: معناه لكن رحمة منا بحيث لم نغرقهم وَمَتاعاً إِلى حِينٍ يعني: بلاغاً إلى آجالهم.
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٥٢]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) مَا يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢)
ثم قال عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ يعني: مَا بَيْنَ

أَيْدِيكُمْ
من أمر الآخرة فاعملوا لها وَما خَلْفَكُمْ من أمر الدنيا فلا تغتروا بها. وقال مقاتل:
اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ لكيلا يصيبكم مثل عذاب الأمم الخالية وَما خَلْفَكُمْ يعني: واتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أي: من عذاب الآخرة. والأول قول الكلبي.
ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني: لكي ترحموا فلا تعذبوا وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مثل انشقاق القمر إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني: مكذبين. وهذا جواب لقوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ الآية.
ثم أخبر عن حال زنادقة الكفار فقال عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ يعني: تصدقوا من المال الذي أعطاكم الله عز وجل: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على وجه الاستهزاء منهم إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يعني: في خطإ بَيِّنٍ. قَالَ بعضهم: هذا قول الكفار الذين أمرهم بالنفقة. وقال بعضهم: هذا قول الله تعالى.
يعني: قل لهم يا محمد: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وروي عن ابن عباس مثل هذا. ثم قال عز وجل: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعني: متى هذا الوعد الذي تعدونا به يوم القيامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنا نبعث بعد الموت، فيقول الله تعالى: مَا يَنْظُرُونَ بالعذاب إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً يعني: لا حظر لإهلاكهم، فليس إلا صيحة واحدة تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ قرأ عاصم في رواية أبي بكر يَخِصِّمُونَ بكسر الياء والخاء. وقرأ نافع يَخِصّمُونَ بنصب الياء، وسكون الخاء. وقرأ الكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر في إحدى الروايتين: بنصب الياء، وكسر الخاء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بنصب الياء والخاء. وقراءة حمزة يَخِصِّمُونَ بنصب الياء، وجزم الخاء بغير تشديد. ومعناه: تأخذهم وبعضهم يخصم بعضاً. ومن قرأ بالتشديد. فالأصل فيه يختصمون فأدغمت التاء في الصاد، وشددت. ومن قرأ: بنصب الخاء طرح فتحة التاء على الخاء. ومن قرأ بكسر الخاء، فلسكونها، وسكون الصاد. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: لينفخن في الصور، والناس في طرقهم، وأسواقهم، حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان، فما يرسله واحد منهما، حتى ينفخ في الصور، فيصعق به، وهي التي قال الله تعالى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وأخبرني الثقة بإسناده عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تقوم الساعة والرَّجُلانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْب، فَلا يَطْوِيَانِهِ، وَلا يَتَبايَعَانِهِ. وَتَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ النَّاقَةَ، فَلا يَصِلُ الإنَاءُ إلَى فِيه. وَتَقُومُ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلُوطُ الْحَوْضَ، فَلا يَسْقِيَ فِيهِ».
ثم قال تعالى: فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً يعني: يموتون من ساعتهم بغير وصية، فلا يستطيعون أن يوصوا إلى أهلهم بشيء وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ يعني: ولا إلى منازلهم