
الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء فلا قيمة له، إذ لم يقم لهم دليل قاطع على شيء من ذلك، وهو عبارة عن حدسيات وشبهات توغلوا فيها لإنكار عروج صاحب الرسالة، وقد بينا ما يتعلق في هذا في تفسير سورة والنجم المارة في الآية ١٨، ولهذا البحث صلة أول سورة الإسراء الآتية فراجعه ففيه كفاية، على أنه يجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير والكواكب فيه تجري بجريانه، وهناك أخبار تشير إلى صحته. أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية هذه فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل، والنجوم في فلكة كفلكة المغزل، فلا تدور إلا بها. وقال الشيخ لأكبر في فتوحاته المكية:
جعل الله السموات ساكنة وخلق فيها نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباقها في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص، وجعلهم عاقلة سامعة مطيعة بدليل قوله جل قوله (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) الآية ١٤ من سورة فصلت في ج ٢، ثم إنه تعالى شأنه لما جعل السباحة للنجوم أحدث لكل منها طريقين في السماء هو قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) الآية ٨ من سورة الذاريات في ج ٢، قسمت تلك الطرق أفلاكا، فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير فتخرق الهواء الماس السماء فيحدث منه أصوات ونعمات مطربة، لكون سيرها على وزن معلوم وتجري بعادة مستمرة، وقد علم بالرصد مقادير سيرها على التقريب، وكذلك دخول بعضها على بعض ظنا إذ لا يعلم ذلك على التحقيق إلا الله الذي جعل يسيرها عبرة للناظرين بين بطء وسرعة وتقدم وتأخر في أماكن من السماء معلومة بصورة بديعة.
ثم ذكر برهانا رابعا على عظيم قدرته فقال «وَآيَةٌ لَهُمْ» على بالغ قدرتنا وبديع صنعنا «أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ» أي ذرية آبائهم الأقدمين قبل نوح عليه السلام «فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» ٤١ سفينة أبيهم الثاني إذ ملأها به وبأهله ومن آمن به معه ومن عموم الحيوانات زوجين اثنين حتى من الطيور

راجع تفسير الآية ٣٧ من سورة هود في ج ٢. ويجوز أن يراد بالذرية أولاد المخاطبين، إذ كانوا يبعثونهم بالسفن البحرية الشراعية للتجارة، لأن أصل الذرية الصغار من الأولاد ويقع بالتعارف على الكبار والصغار، ويستعمل للواحد والجمع وفي الأصل هو للجمع فقط، وفي قوله المشحون إشارة إلى البواخر المحدثة بعد عهد نزول القرآن التي أصلها سفينة نوح عليه السلام هذه، لأنها مشحونة بالأشخاص والأموال ومشحونة أيضا بالبخار الذي بسوقها ولا شيء يمتلىء امتلاء البواخر بالبخار، يدل على هذا قوله جل قوله «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ» أي ذلك الفلك المشحون «ما يَرْكَبُونَ» ٤٢ فيه بالبحر من السفن والبواخر الكبار في الهواء من الطيارات المتنوعة وفي البر من الحيوانات وخاصة الإبل إذ يسمونها سفن البر، والسيارات والدراجات والعجلات لتنوعة مما يركب ويحمل عليه، وكل هذا داخل في قوله تعالى من مثله كالقطارات، لأن هذه الإشارة تشمل الجميع ولأن بيوت بخارها مثل بيوت بخار البواخر المشار إليها بكلمة ذريتهم وهم أبناء هذا الزمان، وهذا كله من الإخبار بالغيب الذي يقصه الله علينا في كتابه ولا تناهي لمعجزاته، قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) الآية ٥٣ من سورة فصلت في ج ٢، أي آفاق السموات والأرض ولا يخترق هذه الآفاق إلا هذه المحدثات، وما ندري ما يحقق لنا القرآن فيما بعد مما يتصوره العقل من الجائزات، ولعل يكون ما قاله أبو الحسن الأشعري من أنه يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة الأندلس، وقد تحقق ذلك بعد أن ظهر المذياع المصور بكسر الواو الذي يسمع فيه صوت القارئ وترى صورته، والله على كل شيء قدير، ومن قدرته أقدار خلقه على مثل هذه الأشياء مما لا يكاد يقبله العقل ولا يتصوره مع وجوده، راجع الآية ١٠ من ص المارة والآية ٩٥ من سورة الصافات في ج ٢، قال تعالى «وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ» في البحر هم وسفنهم مهما عظمت إذ سماها الله جواري وشبهها بالجبال في قوله: (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الآية ٢٤ من سورة الرحمن في ج ٣، ونظيراتها الآية ٣١ من سورة الشورى في ج ٢، وكذلك إذا شاء يقلب القطارات ويوقع الطائرات بسبب وبغير سبب،
صفحة رقم 45
وإذا أغرقهم أو أسقطهم أو قلبهم «فَلا صَرِيخَ لَهُمْ» أي لا مغيث يستغيث لهم، وسمى المغيث صريخا لأنه ينادي من ينجيه مما حل فيه فيصرخ بأعلى صوته ولا أحدا يغيثه من قدر الله «وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ» ٤٣ ينجون منه لأن من يقدر هلاكه الله لا محيد له عنه البتة، لأن البشر عاجز عن الحؤول دونه «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا» نحن الإله القادر على إغاثتهم بالنظر لما هو في علمنا الأزلي فنيسر لهم من يغيثهم أو نحفظهم من الهلاك وقتا مقدرا «وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» ٤٤ انقضاء آجالهم قال أبو الطيب:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن | سلمت من الحمام إلى الحمام |
إذا نحن نؤمنك تأمن غيرنا وإذا | لم تأخذ الأمن منا لم تزل حذرا |

وغيرهم «لِلَّذِينَ آمَنُوا» القائلين لهم أنفقوا «أَنُطْعِمُ» رزقنا الذي حصلنا عليه بكدنا «مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» أي كيف نطعمه وقد أفقره الله؟ فليطعمه الذي أفقره وهو استفهام إنكار، أي لا نفعل ذلك أبدا، والكلام مسوق لذمّهم على البخل وعدم شفقتهم على ذويهم وأبناء جنسهم من فضل ما منّ الله به عليهم إثر ذمهم بإنكار البعث والنبوة والمعاد، ثم لم يكتفوا بما قالوا بل أتبعوه بقولهم «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ٤٧ لأنكم تأمروننا بإعطاء رزقنا لمن لم يرد الله إعطاءه، وهذا أولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول الله أي قال تعالى لهم إن أنتم إلخ، وأولى من قول من قال إن هذه الجملة من قول المؤمنين لهم لمخالفتها سياق الآية وسياق الحكاية، قالوا كان العاص بن وائل السهمي وبعض كفار قريش المتزندقين إذا سألهم المساكين من فضول أموالهم، ومما زعموا أنهم جعلوه لله من حروثهم وأنعامهم كما سيأتي بيانه في الآية ١٣٦ من سورة الأنعام في ج ٢ فما بعدها، قالوا له اذهب إلى ربك فهو أولى بك منا، أيمنعك هو ونعطيك نحن؟ كلا، لا نفعل هذا، فلو أراد رزقك لرزقك كما رزقنا، فنزلت فيهم هذه الآية. وقد تمسك بقولهم هذا البخلاء أسوة بسادتهم أولئك إذ يقولون لا نعطي من حرمه الله، وهو قول باطل يلجأ إليه كل عاطل من فعل الخير إخوان المنزل فيهم هذه الآية، لأن الله تعالى أغنى أناسا وأفقر آخرين ابتلاء واختبارا لا بخلا ولا استحقاقا، وأمر الغني بالإنفاق ليمتحنه أيقدر شكر نعمته عليه أم لا، وقد هدد الغني في الحديث القدسي: (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي فإن بخل وكلائي على عيالي أذقتهم وبالي ولا أبالي.) وامتحن الفقير بهدر ماء وجهه ليختبره أيصبر أم لا، ألا فليتعظ الأغنياء ويتعظوا قبل أن يحل بهم ما لا كاشف له إلا الله. وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا صحة له لأنها مكية بالاتفاق كسائر هذه السورة إلا الآية المستثناة ٤٥ المارة على قول بأنها مدنية والأرجح عندي أنها مكية أيضا كما مر لك في تفسيرها الثاني والله أعلم، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» هؤلاء الكفرة يا محمد «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به أنت وأصحابك من نزول العذاب
صفحة رقم 47