آيات من القرآن الكريم

۞ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇ

[الجزء الثالث والعشرون]

[تتمة سورة يس]
تتمة قصة أصحاب القرية- تعذيب مكذبي الرسل-
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٨ الى ٣٢]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
الإعراب:
وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ما: إما زائدة وإما اسم معطوف على جُنْدٍ.
يا حَسْرَةً نداء مشابه للمضاف، مثل: يا خيرا من زيد، ويا سائرا إلى الشام، ونداء مثل هذه الأشياء التي لا تعقل: تنبيه للمخاطبين، كأنه يقول لهم: تحسّروا على هذا، وادعوا الحسرة، وقولوا لها: احضري فهذا وقتك.
كَمْ أَهْلَكْنا.. كَمْ: اسم للعدد في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وأَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ في موضع نصب على البدل من كَمْ. وكَمْ وما بعدها من الجملة في موضع نصب ب يَرَوْا. وأَنَّهُمْ مفعول مقدر، أي حكمنا أو قضينا أنهم لا يرجعون.
وَإِنْ كُلٌّ.. لَمَّا إِنْ مخففة من الثقيلة، ولما خففت بطل عملها لنقصها عن مشابهة الفعل، فارتفع ما بعدها بالابتداء. ولَمَّا جَمِيعٌ: خبره، وما: زائدة، وتقديره: لجميع، وأدخلت اللام في خبرها، لتفرق بينها وبين «إن» التي بمعنى «ما». ومن قرأ لَمَّا جَمِيعٌ بالتشديد، فمعناه «إلا» و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كل إلا جميع، فيكون كُلٌّ مرفوعا بالابتداء، وجَمِيعٌ خبره. ومُحْضَرُونَ خبر ثان.

صفحة رقم 5

البلاغة:
في الآيات المتقدمة من مطلع السورة إلى هنا يوجد فيها ما يسمى بمراعاة الفواصل، الذي يزيد في روعة البيان القرآني، ويؤثر في سمع التالي والمستمع.
المفردات اللغوية:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي لم ننزل على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له.
مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ الجند: العسكر، والمراد هنا الملائكة لإهلاكهم وللانتقام منهم. وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ ملائكة لإهلاك أحد، لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند، وهذا للدلالة على أن إنزال الجنود من عظائم الأمور، وهو تحقير لشأنهم، وتصغير لأمرهم، فهم ليسوا أهلا لأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة. إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً أي ما كانت عقوبتهم إلا أن صاح بهم جبريل، فأهلكهم. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ساكتون هامدون ميتون لا يسمع لهم حسّ، كالرماد الخامد، فالخمود: انطفاء النار، والمقصود به هنا الموت.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة: الغم على ما فات، والندم عليه، والعباد: هؤلاء ونحوهم ممن كذب الرسل، فأهلكوا، ونداء الحسرة مجاز، أي هذا أوانك فاحضري. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا سبب الحسرة وهو الاستهزاء المؤدي إلى إهلاكهم.
أَلَمْ يَرَوْا ألم يعلموا أي أهل مكة القائلون للنبي: لست مرسلا، والاستفهام للتقرير، أي اعلموا. كَمْ خبرية بمعنى كثيرا، والمعنى: إنا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ كثيرا. مِنَ الْقُرُونِ الأمم: أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم بعد هلاكهم، وضمير أَنَّهُمْ عائد للمهلكين، وضمير إِلَيْهِمْ عائد للمكذبين، أفلا يعتبرون بذلك؟! وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ إِنْ: نافية بمعنى ما، ولَمَّا بمعنى إلّا، ويصح جعل «إن» مخففة من الثقيلة، ولما: بالتخفيف، واللام فارقة، وما: مزيدة. جَمِيعٌ مجموعون في الموقف بعد بعثهم. لَدَيْنا عندنا مُحْضَرُونَ للحساب.
المناسبة:
هذه الآيات تتمة قصة أصحاب القرية، أبان الله تعالى فيها حال المكذبين رسلهم، وأوضح سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي، ثم ما يتعرضون له من

صفحة رقم 6

العذاب الأخروي. وذكرت هنا في بدء الجزء، لأن عد الأجزاء مراعى فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي.
التفسير والبيان:
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي لم ننزل على قوم المؤمن حبيب النجار من بعد قتلهم له، لدعوتهم إلى الإيمان بالله، جندا من الملائكة، وما كنا بحاجة إلى هذا الإنزال، بل كان الأمر أيسر علينا من ذلك، وقد سبق قضاؤنا بأن إهلاكهم بالصيحة، لا بإنزال الجند.
وهذا لتحقير شأنهم، فإن إنزال الملائكة لعظائم الأمور، وهؤلاء لا يحتاجون لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحده، كما قال تعالى:
إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ خامِدُونَ أي ما كان إهلاكهم إلا بصيحة واحدة صاح بهم جبريل، فأهلكهم، فإذا هم أموات لا حراك بهم.
وقوله: إِنْ كانَتْ أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، وقوله:
واحِدَةً تأكيد لكون الأمر هينا عند الله، وقوله: فَإِذا هُمْ خامِدُونَ فيه إشارة إلى سرعة الهلاك.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ، ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي يا هؤلاء الذين كذبتم الرسل تحسروا حسرة أليمة، واندموا على ما فعلتم، بسبب أنه ما جاء رسول يدعو إلى التوحيد والحق والخير إلا استهزئ به وكذّب وجحد ما أرسل به من الحق. فقوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ أي هذا وقت الحسرة على مكذبي الرسل، وتنكير حَسْرَةً للتكثير. وسبب التحسر عليهم: أنهم لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية. ولا متحسر أصلا في الحقيقة، إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة، حيث ظهرت الندامة عند مواجهة العذاب ومعاينته. وقيل: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل.

صفحة رقم 7

ثم أنذر الله تعالى الأجيال الحاضرة والمستقبلة فقال:
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا، خلافا لما يزعم الدّهرية الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ.. [الجاثية ٤٥/ ٢٤].
ثم أعلمهم أيضا بوجود الحساب والعقاب في الآخرة بعد عذاب الدنيا، فقال تعالى:
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلّها خيرها وشرها، وهذا كقوله عز وجل: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ [هود ١١/ ١١١].
وهذا دليل على أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب، وحبس وعقاب، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة، كما قال القائل:

ولو أنّا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيّ
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن تكذيب الرسل ما جاؤوا به من الحق يستدعي مزيد الألم والندامة والحسرة.
٢- لا رجعة لأحد إلى الدنيا بعد الموت أو الإهلاك.
٣- إن يوم القيامة يوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب الدائم.

صفحة رقم 8
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية