
بَنَوْا مَجْدَ الْحَيَاةِ عَلَى إِمَامِ أَطْلَقَ الْإِمَامَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يُتَّبَعُ مَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالشُّرُوطِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الْجَوْرِ وَالتَّطَاخِي وَهَلْ يَنْ | قُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاء |
فَكَلِمَةُ كُلَّ نَصٌّ عَلَى الْعُمُومِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ وَمِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِالْإِضَافَةِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ مُؤَكِّدَةً لِجُمْلَةِ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ، وَمُبَيِّنَةً لِمُجْمَلِهَا، وَيَكُونُ عَطْفُهَا دُونَ فَصْلِهَا مُرَاعًى فِيهِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَائِدَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ كُلَّ شَيْءٍ كَلُّ مَا يُوجَدُ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَكُونُ الْإِحْصَاءُ إِحْصَاءَ عِلْمٍ، أَيْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ عِنْدَ حُدُوثِهَا، وَيَكُونُ الْإِمَامُ الْمُبِينُ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالظَّرْفِيَّةُ ظَرْفِيَّةَ إِحَاطَةٍ، أَيْ عَدَمُ تَفَلُّتِ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ كَمَا لَا يَنْفَلِتُ الْمَظْرُوفُ عَنِ الظَّرْفِ.
وَجُعِلَ عِلْمُ اللَّهِ إِمَامًا لِأَنَّهُ تَجْرِي عَلَى وَفْقِهِ تَعَلُقَاتُ الْإِرَادَةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا مُفِيدًا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَعْمَالِ النَّاسِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ التَّكَالِيفِ أَوْ ضِدِّهَا بَلْ تَعُمُّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ. وَإِذْ قَدْ كَانَ الشَّيْءُ يُرَادِفُ الْمَوْجُودَ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِ كُلَّ شَيْءٍ الْمَوْجُودُ بِالْفِعْلِ أَو مَا يقبل الْإِيجَادِ وَهُوَ الْمُمْكِنُ، فَيَكُونُ إِحْصَاؤُهُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ وَمَقَادِيرُ كَوْنِهِ وَأَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الْجِنّ: ٢٨].
[١٣، ١٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ١٣ إِلَى ١٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤)
أَعْقَبَ وَصْفَ إِعْرَاضِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ بِتَهْدِيدِهِمْ صفحة رقم 357

بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِذْ قَدْ جَاءَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلُهُ: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ [يس:
٢٩].
وَالضَّرْبُ مَجَازٌ مَشْهُورٌ فِي مَعْنَى الْوَضْعِ وَالْجَعْلِ، وَمِنْهُ: ضَرَبَ خَتْمَهُ. وَضَرَبْتُ بَيْتًا، وَهُوَ هُنَا فِي الْجَعْلِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦].
وَالْمَعْنَى: اجْعَلْ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ وَالْمُرْسَلِينَ إِلَيْهِمْ شَبَهًا لِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِرْسَالِكَ إِلَيْهِمْ.
ولَهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِ اضْرِبْ أَيِ اضْرِبْ مَثَلًا لِأَجْلِهِمْ، أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يَعْتَبِرُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [الرّوم: ٢٨]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ صِفَةٌ لِ (مَثَلَ)، أَيِ اضْرِبْ شَبِيهًا لَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤].
وَالْمَثَلُ: الشَّبِيهُ، فَقَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا مَعْنَاهُ وَنَظِّرْ مَثَلًا، أَيْ شَبِّهْ حَالَهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ بِكَ بِشَبِيهٍ مِنَ السَّابِقَيْنَ، وَلَمَّا غَلَبَ الْمَثَلُ فِي الْمُشَابِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ الضَّرْبُ أَعَمَّ جُعِلَ مَثَلًا مَفْعُولًا لِ اضْرِبْ، أَيْ نَظِّرْ حَالَهُمْ بِمُشَابِهٍ فِيهَا فَحَصَلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ اضْرِبْ، ومَثَلًا بِالِاعْتِبَارِ. وَانْتَصَبَ مَثَلًا عَلَى الْحَالِ.
وَانْتَصَبَ أَصْحابَ الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَيَانِ لِ مَثَلًا، أَوْ بَدَلٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ لِ اضْرِبْ ومَثَلًا مَفْعُولًا ثَانِيًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً [النَّحْل:
١١٢].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ كَحَالِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ الْمُمَثَّلِ بِهِمْ.
والْقَرْيَةِ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ (أَنْطَاكِيَةُ) وَهِيَ مَدِينَةٌ بِالشَّامِ مُتَاخِمَةٌ لِبِلَادِ الْيُونَانِ.
وَالْمُرْسَلُونَ إِلَيْهَا قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ بَعَثَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رُفِعَ عِيسَى. وَذَكَرُوا أَسْمَاءَهُمْ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ.

وَتَحْقِيقُ الْقِصَّةِ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَدْعُ إِلَى دِينِهِ غَيْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَكُنِ الدِّينُ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ إلّا تكلمة لِمَا اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ إِكْمَالَهُ من شَرِيعَة التَّوْرَاة، وَلَكِنَّ
عِيسَى أَوْصَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ لَا يَغْفُلُوا عَنْ نَهْيِ النَّاسِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا رُؤْيَا أَوْ خَطَرَ لَهُمْ خَاطِرٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِمَّا جَاوَرَهَا، أَوْ خَطَرَ فِي نُفُوسِهِمْ إِلْهَامٌ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى بَلَدٍ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِتَحْقِيقِ وَصِيَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ بَعْدَ مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَوَقَعَتِ اخْتِلَافَاتٌ لِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَعْيِينِ الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ وَتَحْرِيفَاتٌ فِي الْأَسْمَاءِ، وَالَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى مَا فِي كِتَابِ أَعْمَالِ الرُّسُلِ مِنْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ (١) أَنَّ (بِرْنَابَا) وَ (شَاوَل) الْمَدْعُو (بُولُس) مِنْ تَلَامِيذِ الْحَوَارِيِّينَ وَوُصِفَا بِأَنَّهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَانَا فِي أَنْطَاكِيَةَ مُرْسَلَيْنِ لِلتَّعْلِيمِ، وَأَنَّهُمَا عُزِّزَا بِالتِّلْمِيذِ (٢) (سِيلَا). وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الثَّالِثَ هُوَ (شَمْعُونُ)، لَكِنْ لَيْسَ فِي سِفْرِ الْأَعْمَالِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ بُولُس وَبِرْنَابَا عُزِّزَا بِسَمْعَانَ. وَوَقَعَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ أَنه كَانَ نبيء فِي أَنْطَاكِيَةَ اسْمُهُ (سَمْعَانُ).
وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ مَنْ كَانُوا سُكَّانًا بِأَنْطَاكِيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالْيُونَانِ، وَلَيْسَ فِي أَعْمَالِ الرُّسُلِ سِوَى كَلِمَاتٍ مُجْمَلَةٍ عَنِ التَّكْذِيبِ وَالْمُحَاوَرَةِ الَّتِي جَرَتْ بَين الْمُرْسلين وَبَين الْمُرْسل إِلَيْهِمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ هُنَالِكَ نَفَرٌ مِنَ الْيَهُودِ يَطْعَنُونَ فِي صِدْقِ دَعْوَةِ بُولُس وَبِرْنَابَا وَيُثِيرُونَ عَلَيْهِمَا نِسَاءَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِعِيسَى مِنْ وُجُوهِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْيُونَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى اضْطُرَّ (بُولُس وَبِرْنَابَا) إِلَى أَنْ خَرَجَا مِنْ أَنْطَاكِيَةَ وَقَصَدَا أَيْقُونِيَّةَ وَمَا جَاوَرَهَا وَقَاوَمَهُمَا يَهُودُ بَعْضِ تِلْكَ الْمُدُنِ، وَأَنَّ أَحْبَارَ النَّصَارَى فِي تِلْكَ الْمَدَائِنِ رَأَوْا أَن يعيدون بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. وَبَعْدَ عَوْدَتِهِمَا حَصَلَ لَهُمَا مَا حَصَلَ لَهُمَا فِي الْأُولَى وَبِالْخُصُوصِ فِي قَضِيَّةِ وُجُوبِ الْخِتَانِ عَلَى مَنْ يَدْخُلُ فِي الدِّينِ، فَذَهَبَ بُولُس وَبِرْنَابَا إِلَى أُورَشْلِيمَ لِمُرَاجَعَةِ الْحَوَارِيِّينَ فَرَأَى أَحْبَارُ أورشليم أَن يؤيدوهما بِرَجُلَيْنِ
_________
(١) «الإصحاح» ١٣، أَعمال الرُّسُل ١- ٩.
(٢) «الإصحاح» ١٥، أَعمال الرُّسُل ٣٤- ٣٥.