
(١) نكير: أي نكيري بمعنى قصاصي وعقابي وعاقبة إنكاري وغضبي.
في الآيات حكاية لأقوال الكفار حينما كان النبي ﷺ يتلو عليهم آيات القرآن الواضحة وحججه البالغة حيث كانوا يقولون للناس إن النبي ﷺ ليس إلّا رجلا يريد أن يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم، وإن القرآن ليس إلّا كذبا مفترى على الله، وإن يوم الحساب الحق الذي كانوا ينذرون به ليس إلّا من قبيل السحر والتخييل ولا حقيقة له. وتقرير ينطوي على التبكيت بأن الكفار يقولون هذا في حين أن الله لم ينزل إليهم قبل القرآن كتبا ولم يرسل إليهم قبل النبي رسلا حتى يكون كلامهم مستندا إلى علم وتجربة. وتذكير بالأمم السابقة لهم والتي كذبت رسلها مثلهم وما كان من تدمير الله لها في حين أن الكفار العرب لم يبلغوا في القوة والعظمة معشار ما بلغته.
ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة هذه الآيات، والسياق غير منقطع بينها وبين سابقاتها كما هو المتبادر من حيث تتابع الكلام عن الكفار ومواقفهم. فهي استمرار له، وفحواها يدل على أن الكلام المحكي عن الكفار صادر عن الزعماء وموجه إلى عامة الناس على سبيل الصد والتعطيل والحض على الجحود وعدم التصديق. وأسلوبه ينطوي على صورة لما كان هؤلاء الزعماء عليه من عناد، وما كانوا يبذلونه من جهد في ذلك السبيل.
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٦ الى ٥٠]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)

(١) أعظكم بواحدة: أنصحكم أو أطلب منكم شيئا واحدا أو مسألة واحدة.
(٢) أن تقوموا لله: أن تتفكروا بتجرد مخلصين لله.
(٣) مثنى وفرادى: اثنين اثنين أو واحدا واحدا.
(٤) ما يبدىء الباطل وما يعيد: معنى الجملة الحرفي أن الباطل لا يخلق أصلا ولا يعيد ثانية، ومعناها ليس للباطل أصل ولا دوام ولا بقاء.
في الآيات أوامر للنبي صلى الله عليه وسلم:
١- بمخاطبة الكفار وطلب شيء واحد منهم وهو: أن يخلصوا النية لله ويتجردوا عن الهوى والعناد، ثم يتفكروا كل واحد لنفسه أو كل اثنين لحدتهما معا فيما يدعوهم إليه حيث يتأكدون أن صاحبهم أي النبي ﷺ ليس مجنونا وأنه إنما هو نذير من الله بعذاب شديد إذا لم ينيبوا إليه ويسيروا في طريق الهدى.
٢- بالتوكيد لهم بأنه لا يطلب على إنذاره أجرا، فأجره ونفعه لهم وحدهم وأن أجره هو على الله الشهيد على كل شيء والعالم بكل شيء.
٣- وبالهتاف بأن الله هو الذي يقرر الحق ويؤيده وهو العليم بما هو خفي من نوايا الناس وضمائرهم، وبأن الحق قد جاء واضحا جليا كاسحا للباطل الذي لا أصل له ولا بقاء ولا قرار أمام الحق.
٤- وبالإعلان بأنه إذا كان ضالا فضلاله عائد إليه، وإن كان مهتديا فإنما ذلك بوحي ربّه السميع لكل شيء والقريب من كل شيء.
ولم نطلع على رواية عن سبب نزول هذه الآيات وهي غير منقطعة عن السياق واستمرار له فيما هو المتبادر. وقد جاءت بمثابة إنهاء لموقف المناظرة والجدل بين النبي ﷺ والكفار أو لما هو في مقامهما. وقد تكرر مثل هذه الخواتم

لمثل هذه المواقف ولذلك يمكن أن تعد أسلوبا من الأساليب النظمية القرآنية البديعة.
وقد جاء أسلوب الآيات هنا قويا أخاذا رائعا من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق.
وقد خوطب به العقل والقلب معا. وفي الهتاف بالحق وقوته وضلال الباطل ومحقه بنوع خاص روعة لا تزال قائمة ما قام الجدل بين الحق والباطل، وتوطيد قرآني مستمر المدى والتلقين للحق ودعوة قرآنية مستمرة المدى ضد الباطل.
وأسلوب النفي لطلب النبي ﷺ أجرا في هذه المرة جاء أقوى من المرات السابقة حيث أمر بأن يهتف في الناس أن كل ما يرجوه من نفع من رسالته هو لهم، وأن أجره إنما هو على الله وحده.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الآية الأخيرة لا تعني الشك في حقيقة الواقع من أمر الدعوة النبوية، وإنما جاءت بأسلوبها على سبيل المساجلة كما هو الأمر في آيات سابقة من هذه السورة نبهنا عليه، وكما تكرر غير مرة فيما مرّ من السور أيضا.
تعليق على جملة إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى
وفيما احتوته الآية الأولى حكمة اجتماعية عامة وصورة من صور ما كان عليه موقف النبي ﷺ من الكفار وموقفهم منه أيضا، فالاجتماعات العامة يختلط فيها الحابل والنابل، وتسود فيها الأهواء وتضعف فيها قوة المنطق، ولا يؤدي الجدال فيها إلى نتيجة حاسمة ومرضية.
والزعماء الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل بدافع الاستكبار والمكر السيء على ما ذكرته آيات سورة فاطر [٤٢- ٤٣] التي أوردناها قبل وغيرها كانوا يتوخون التشويش والتهويش على الناس. ولعلهم كانوا يعقدون الاجتماعات العامة للحث على التمسك بعقائد الآباء وللتحريض على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشارت الآية [٣٣] من