
«ويوم نحشرهم جميعا» المستضعفين والمستكبرين وأوثانهم «ثمّ نقول للملائكة» لأنهم من جملة المعبودين على غير علم منهم ولا رضى «أَهؤُلاءِ» الكفرة «إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ٤٠» في الدنيا استفهام تقريع وتبكيت
«قالُوا سُبْحانَكَ» لم يوالونا ولم نوالهم وإنا وإياهم من جملة عبادك «أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ» فنتبرأ إليك يا ربنا مما يفترونه علينا ويلصقون بنا ما ليس لنا به علم ولا حق والحق يا سيدنا إنهم لم يعبدوننا «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ» الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا فعبدونا طاعة لهم وخيّلوا لهم صورنا فصورونا على ما شاءوا من حيث لم يروننا وصاروا يعبدون تلك الصور بزعمهم أنها صورنا، ولهذا صار «أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ» بأولئك الشياطين «مُؤْمِنُونَ ٤١» مصدقون أنها صور الملائكة.
مطلب ليس المراد بالجن هنا الملائكة ران إسماعيل لم يترك كتابا، ومخاطبة حضرة الرسول الناس كيف كانت:
هذا وما قيل إن المراد بالجن هنا الملائكة قول غير سديد لمخالفته ظاهر القرآن وعدم مناسبته للواقع ولأن الله تعالى عبّر عن الملائكة في مواقع كثيرة بلفظ الملائكة وعن الجن بلفظ الجن فالعدول عن المعنى الموضوع للفظ عدول عن الحقيقة المرادة منه، هذا وقد ألمعنا لهذا البحث في الآية ١٥٨ من الصافات المارة فراجعه، ومنه ومن هنا تعلم أن ليس المراد بالجن هنا والجنة هناك الملائكة، بل الشياطين كما ذكرناه «فَالْيَوْمَ» أيها العابدون والمعبودون «لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ويدخل في هذه الآية الملائكة دخولا أوليا لأن السياق ينوه عنهم ليعلم عابدوهم على رءوس الأشهاد ظهور عجزهم وقصورهم وخيبة رجائهم بشفاعتهم بالكلية فغيرهم من المعبودين من باب أولى. «وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» عطف على قوله تعالى (ثم نقول للملائكة) إلخ، ويراد بالظالمين هنا الكفرة منهم بدليل قوله تعالى «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٤٢» لأن الظالمين المؤمنين لا يكذبون بالبعث ولا عذاب الآخرة ويؤيده قوله تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا» الذي يتلوها يعنون محمدا صلّى الله عليه وسلم

«إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» من الآلهة «وَقالُوا ما هذا» الذي يزعم أنه كلام الله «إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» مختلق من قبله «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ» القرآن المجيد المنزل بالحق «لَمَّا جاءَهُمْ» على لسان الرسول الحق «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ٤٣» لأنه يفرق بين المرء وزوجه والوالدة وولدها والأخ وأخيه، وهذا على زعمهم لما يرون أن المؤمن يترك زوجته وأمه الكافرتين والأب يهجر ابنه وأخاه الكافرين والابن أباه والأخ يعرض عن أخته وأخيه بسائق إيمانهم وقوة يقينهم مع مراعاة حقوقهم والانفاق عليهم وطاعتهم فيما عدا الشرك، راجع الآية ١٥ من سورة لقمان المارة لا بما يزعمونه، قال تعالى «وَما آتَيْناهُمْ» هؤلاء الكفرة «مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها» قبل كتابك هذا يا سيد الرسل «وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ٤٤» ينذرهم بأس الله ويخوفهم عذابه ويحذرهم مما هم عليه لأن إسماعيل عليه السلام لم يتجرد للنذارة ويقاتل عليها قومه ولم يترك لهم كتابا يتدارسونه بينهم بعده كأهل الكتابين ويتبعون ما فيه ولم يرسل إليهم رسول بعده يأمرهم وينهاهم ويبلغهم أحكام دينهم إلا محمد عليه الصلاة والسلام «وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» الرسل أيضا مثلهم كثمود كذبت صالحا وعاد كذبت هودا وأصحاب الأيكة شعيبا «وَما بَلَغُوا» قومك هؤلاء «مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ» أي المكذبين الأقدمين لرسلهم السابقين من القوة وطول العمر والنعم والأموال والأولاد «فَكَذَّبُوا رُسُلِي» وجحدوا آياتي على كثرة انعامي عليهم مادة ومعنى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ٤٥» للمكذبين السالفين وكيف كان عقابي لهم على تكذيبهم كان شيئا عظيما فلو رأيتموه يا أهل مكة لرأيتم أمرا فظيعا وقد قصصناه عليكم أفلا تتعظون بهم وتخافون سوء عاقبتكم وأن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، فيا أكرم الرسل «قُلْ» لهم «إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي لا أرشدكم بخصلة واحدة هي ملاك الأمر وقوامه وهي «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى» اثنين اثنين «وَفُرادى» واحدا واحدا «ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» فيما بينكم وبين أنفسكم فتتناظروا وتتحاوروا ثم يعرض كل منكم نتيجة فكره على صاحبه حتى إذا ظهر لكم يقينا من النور الذي يحصل من
صفحة رقم 517
مصادمة أفكاركم أنه «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ» كما تزعمون بادىء الرأي وتعلمون حقا أنه من أكملكم وأعقلكم وأرحمكم و «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ٤٦» تعجز عنه قواكم ليس إلا وعرفتم أنه لا يريد إلا نجاتكم منه آمنتم به وصدقتموه إن كان لكم عقول تنتفعون بها، لأنكم ما جرّبتم عليه كذبا طيلة هذه المدة، ومن كان لا يكذب على الناس فهو أجدر أن لا يكذب على الله، لا سيما وقد علمتم أنه من أحسن قريش أصلا، وأزكاهم قولا وأعلاهم حسبا، وأصدقهم لهجة، وأوزنهم حلما، وأحدهم ذهنا وأرضاهم رأيا، وأذكاهم نفسا، وأشرفهم نسبا، وأجمعهم لما يحمد عليه ويمدح به، وأبعدهم عما يلام عليه، وهو أرجحهم عقلا، وأوضحهم خطابا، وأقواهم حجة، وأوفاهم برهانا، وأكملهم كتابا، وأنصحهم بيانا، وأعدلهم دليلا، يظهر لكم من هذه الخصال التي لا تنكرون شيئا منها إذ أجمعت كلمتكم على تسميته بالأمين. إنكم مخطئون بما تصمونه به من الجنون
والسحر والكهانة واعلموا أن إلحاحه عليكم بالإيمان ما هو إلا حبا بكم وحرصا عليكم من أن ينالكم غضب الله وخشية من إيقاع عذابه بكم ليس إلا، فيا حبيبي يا محمد «قُلْ» لهم «ما سَأَلْتُكُمْ» على هذا النصح والإرشاد «مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ» هذا جواب شرط محذوف تقديره أي شيء سألتكم من جعل عليه فهو لكم، والمراد منه في السؤال رأسا، كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا فما هنا شرطية واقعة مفعولا لسألتكم «إِنْ أَجْرِيَ» على التبليغ في الإنذار ما هو «إِلَّا عَلَى اللَّهِ» وحده لا عليكم «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ٤٧» ومن جملة الأشياء التي هو شهيد عليها عدم طلبي جعلا منكم على نصحكم وإنما أرجو عليه ثوابا من الله الذي أرسلني إليكم «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» فيرسل الوحي من السماء إلى رسوله على لسان أمينه جبريل عليه السلام، ومعنى القذف الرمي بشدة والدفع بالقوّة، ويراد منه هنا الإلقاء والتنزيل، وهو موافق للمعنى المراد لأنه من العلي الأعلى إلى عبده «وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ ٤٨» خفيات الأمور وبواطنها «قُلْ جاءَ الْحَقُّ» الذي لا أحق منه وهو القرآن الذي جاء بالتوحيد والإسلام «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ» بعد