ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في الدنيا، والمكذب به هنا: هو النار، وفي سورة السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [٢٠] هو العذاب، وهم في الواقع يكذبون بالكل. وسبب التغاير في التعبير أن الآية هنا في وصف النار التي كانت أول ما رأوها بعد الحشر والسؤال، وأما في سورة السجدة فالمراد وصف العذاب الذي يعانونه بعد دخولهم النار، وأنه العذاب الدائم.
أسباب تعذيب الكفار
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٣ الى ٥٠]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)
الإعراب:
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أَنْ تَقُومُوا: إما في موضع جر على البدل من قوله:
بِواحِدَةٍ أي بأن، أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: وهي أن تقوموا، أو في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وهو اللام، وتقديره: لأن تقوموا لله، ومَثْنى وَفُرادى منصوبان على الحال من واو تَقُومُوا.
عَلَّامُ الْغُيُوبِ مرفوع على أنه خبر ثان بعد أول وهو يَقْذِفُ أو على البدل من ضمير يَقْذِفُ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: وهو عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أو بدل من «ربّ» على الموضع، وموضعه الرفع، أو وصف ل «رب» على الموضع. ويجوز فيه النصب من وجهين: على الوصف ل «رب» أو على البدل منه.
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ: ما: في موضع نصب، تقديره: أيّ شيء يبدئ الباطل، وأيّ شيء يعيد.
البلاغة:
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ استعارة، استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال أمام الإنسان.
وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره.
مَثْنى وَفُرادى بينهما طباق.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على إمعانهم في الكفر.
المفردات اللغوية:
آياتُنا القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالات، ظاهرات المعاني ما هذا التالي لها وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يَصُدَّكُمْ يمنعكم وَقالُوا: ما هذا قالوا ثانيا ما هذا القرآن إِفْكٌ كذب مُفْتَرىً مختلق لا أساس له وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قالوا ثالثا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن والمعجزات، وهذا باعتبار لفظه وإعجازه، والأول باعتبار معناه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ما هذا إلا سحر ظاهر سحريته.
ويلاحظ أن الإشارة الأولى: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والثانية: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ إلى القرآن، والثالثة: لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ والحق: أمر النبوة كله ودين الإسلام كما
وتكرار الفعل: قالُوا والتصريح بذكر الكفرة، وقوله: لَمَّا جاءَهُمْ من المبادهة بالكفر وأنه حين جاءهم لم يفكروا فيه، بل بادروه بالإنكار: دليل على صدور الكفر عن إنكار عظيم له، وغضب شديد منه، وتعجيب بليغ منه، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله، ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المنير قبل أن يتذوقوه: ما هو إلا سحر واضح لمن يتأمله.
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها، وهو دليل على صحة الإشراك وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه، وينذرهم بالعذاب على تركه. وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول صلّى الله عليه وسلّم وجه، ولا شبهة يعتمدون عليها، إذ لم يأتهم كتاب، ولا نذير بهذا الذي فعلوه، فمن أين كذبوك؟! وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ أي وما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة وطول العمر وكثرة المال فأهلكهم الله، كعاد وثمود ونحوهم، والمعشار: هو العشر أي عشرة في المائة، وقيل: هو عشر العشر، أي واحد في المائة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب والعقوبة؟ أي هو واقع موقعه.
أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى أي أن تقوموا في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين: اثنين اثنين، أو واحدا واحدا لأن الاجتماع يشوش الفكر. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا تنظروا في حقيقة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الكتاب، فتعلموا أنه ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليس بمجنون ولا ساحر، فليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، ومجيئه بالوحي دليل ظاهر على صدقه إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ ما هو إلا منذر لكم قبل مجيء عذاب شديد في الآخرة إن عصيتموه، وقد علمتم أنه أرجح الناس عقلا، وما جربتم عليه كذبا مدة عمره فيكم.
قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ قل لهم: ما طلبت منكم على الإنذار والتبليغ مِنْ أَجْرٍ مال مقابل الرسالة إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ما ثوابي إلا على الله، لا على غيره وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع، لا يغيب عنه شيء، يعلم صدقي.
قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يتكلم بالحق ويلقيه إلى أنبيائه، وهو القرآن والوحي عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما غاب عن خلقه في السموات والأرض جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والتوحيد، والقرآن الذي فيه البراهين والحجج وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي لا أثر للكفر أو الشرك، فهو لا حقيقة له بدءا وإعادة. إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق وطريقه فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي إثم ضلالتي يكون على نفسي فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من القرآن والحكمة والموعظة إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مني ومنكم، يعلم الهدى والضلالة.
المناسبة:
بعد بيان عقاب المشركين في نار جهنم يوم القيامة وأنه يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ذكر الله تعالى الأسباب الموجبة للعذاب من فساد الاعتقاد، واشتداد العناد، وتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن والإسلام كله، ثم أنذرهم سوء العاقبة كالذين من قبلهم من الأمم القوية، ودعاهم إلى التأمل والتفكر الهادئ العميق في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم المنذر من عذاب يوم القيامة، وأخبرهم بأن الله أرسل إليهم الحق الدامغ الساطع وهو القرآن والوحي، وما عداه هو الباطل الذي لا حقيقة ولا بقاء لأثره.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أسباب استحقاق الكفار العقوبة وأليم العذاب، ويذكر هنا أهمها وهي ثلاث: الطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن الكريم، وبالدين والإسلام كله، فيقول:
١- وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا: ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ أي وإذا تليت آيات القرآن الواضحات الدلالة على إثبات التوحيد وإبطال الشرك، الظاهرات المعاني، قالوا: ما هذا أي النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا رجل يريد صرفكم عن دين الآباء والأجداد من عبادة الأصنام، دون حجة ولا برهان، وما جاء به باطل.
٢- وَقالُوا: ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً أي وقال الكفار ثانيا: ما هذا أي القرآن إلا كذب على الله، مختلق من عنده، بقصد تضليل الأتباع.
٣- وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي وقال الكافرون ثالثا: ما هذا الدين والإسلام المشتمل على المعجزات والشرائع والأحكام لتنظيم الحياة الاجتماعية إلا سحر ظاهر.
فرد الله عليهم مبطلا كون دينهم حقا، ومظهرا انعدام حجتهم في اتباعه، فقال:
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها، وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن يقرر لهم دينا، وما أرسل إليهم نبيا قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الحق، وينذرهم بالعذاب مع أنهم كانوا يقولون: لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا، فلما منّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه.
وإذا كان الدين الصحيح لا يعرف إلا بوحي من عند الله، وبكتاب ينزل على رسول، فإن ادعاء المشركين أن الشرك بالله وتقليد الأسلاف هو الدين الحق ادعاء باطل لا يعتمد على أساس ولا حجة.
ونظير الآية كثير منها: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم ٣٠/ ٣٥] أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف ٤٣/ ٢١] أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ [القلم ٦٨/ ٣٧- ٣٨].
ثم هددهم بعذاب مشابه لعذاب الأمم الظالمة من قبلهم، فقال:
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ، فَكَذَّبُوا رُسُلِي، فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي ولقد كذبت الرسل والوحي أمم سابقة من القرون الخالية كقوم نوح وعاد وثمود، وكانوا في الدنيا أشد قوة وبأسا من العرب، بل إن أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب لم يبلغوا بقوتهم وكثرة ما لهم عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال، فلم يدفع عنهم عذاب الله ولا رده، وإنما أهلكهم الله ودمرهم تدميرا، كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر ٤٠/ ٨٢].
وما جرى على المثيل يجري على مثيله، لتساويهما في سبب العقاب، فيتساويان في الحكم.
ثم نصحهم القرآن بالتأمل والتريث في الحكم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال تعالى:
قُلْ: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى، ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وآمركم وأنصحكم بخصلة واحدة: هي قيامكم في طلب الحق بالفكرة الصادقة، والتأمل الذاتي المجرد المخلص، دون تأثر بهوى أو عصبية، متفرقين اثنين اثنين، أو واحدا واحدا لأن الاجتماع والتجمهر يشوّش الفكر، وينشر الغوغائية والفوضى، ويثني الفكر عن الصواب، ثم ينصح بعضكم بعضا بإخلاص أن ينظر ويتفكر في حقيقة أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من الكتاب، فإنكم حينئذ تعلمون أن صاحبكم ليس بساحر ولا مجنون ليس في أحواله ولا تصرفاته ما يدل على ذلك، وإنما هو نبي مؤيد من عند الله بالمعجزات الدالة على صدقه.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي وما هذا الرسول إلا منذركم ومخوفكم ما تستقبلونه من عذاب شديد على النفوس يوم القيامة. وجعل إنذاره بين يدي العذاب إشارة إلى قرب العذاب لأنه بعث قرب الساعة،
روى الإمام أحمد حديثا هو: «بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني».
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الصّفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: ما لك؟
فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسّيكم، أما كنتم تصدقوني؟
قالوا: بلى، قال صلّى الله عليه وسلّم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب:
تبّا لك، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عز وجل: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ، وَتَبَّ [المسد ١١١/ ١].
قال الرازي: ذكر الأصول الثلاثة في هذه الآية بعد ما سبق منه تقريرها بالدلائل، فقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ إشارة إلى التوحيد، وقوله:
ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ إشارة إلى الرسالة، وقوله:
بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ إشارة إلى اليوم الآخر.
ولما نفى تعالى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنون المستلزم كونه نبيا، ذكر سببا آخر يلزم منه أنه نبي: وهو عناؤه الشديد في دعوته لا لغرض دنيوي عاجل، وإنما بقصد الثواب الأخروي، فقال:
قُلْ: ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي قل أيها الرسول للمشركين: لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة الله عز وجل إليكم، ونصحي لكم، وأمري بعبادته تعالى، إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله تعالى، والله عالم بجميع الأمور، من صدقي في تبليغ الرسالة، وما أنتم عليه.
ثم صرح تعالى بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما هو وحي من عند الله، فقال: قُلْ: إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي قل للمشركين: إن الله يرسل الملك بالوحي إلى من يشاء من عباده، فمن يصطفيهم لرسالته، وهو علام الغيوب، فلا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض.
وهذا كما قال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر ٤٠/ ١٥] وقال سبحانه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤].
وبعد أن ذكر الله تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة الاستقبال، أخبر أن ذلك الحق قد جاء فقال:
قُلْ: جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ أي قل للمشركين: جاء الدين الحق وهو الإسلام والقرآن والتوحيد، وهو الذي سيعلو على سائر الأديان، ويمحق الله الباطل ويذهب أثره، فلا يبقي منه شيئا، كما قال تعالى:
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ، فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الأنبياء ٢١/ ١٨].
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي «أنه لما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة، جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ: وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ، وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء ١٧/ ٨١]، وقُلْ جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ.
ثم أكد الله تعالى تقرير الرسالة، وأعلن القول الفصل بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين المشركين، فقال:
قُلْ: إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي، وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ أي قل أيها النبي لأولئك المشركين: إن ضللت عن الهدى وطريق الحق، فإن إثم ضلالي وضرره على نفسي، وإن عرفت طريق الهداية فمما أوحى إلي ربي من الخير والحق والاستقامة، إنه سميع لقولي وأقوالكم، قريب مني ومنكم، يعلم الهدى والضلالة، ويجازي كل إنسان بما يستحق.
فالخير كله من الله عز وجل، وفيما أنزله من الوحي والحق المبين الذي فيه الهدى والبيان والرشاد، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
١- العدل والحق المطلق أهم مزية الحكم الإلهي، فلا يظلم الله أحدا،
ولا يعاقب إلا بأسباب موجبة للعقاب، وأهم الأسباب التي استحق بها المشركون نار جهنم: الطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن المجيد، وبالدين والإسلام نظام البشرية الأمثل، وقانونها الأعدل والأحكم.
٢- لا حجة للمشركين في الإشراك بالله إلا تقليد الأسلاف واتباع الآباء والأجداد، دون حجة عقلية ولا برهان منطقي مقبول.
٣- ليس للمشركين ما يعتمدون عليه أيضا من الأدلة النقلية، فليس لهم كتاب يقرءون فيه بطلان ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يسمعوا شيئا عن دينهم من رسول بعث إليهم، فلا وجه لتكذيبهم ولا شبهة يتمسكون بها، كشبهة أهل الكتاب وإن كانت باطلة، الذين يقولون: نحن أهل كتاب وشرائع، ومستندون إلى رسل من رسل الله.
والخلاصة: أنه ليس للمشركين على شركهم حجة عقلية ولا نقلية.
٤- لم يبق أمام موقف أولئك المشركين المتشدد المعاند إلا توعدهم على تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقرآن بما حلّ من العذاب بالأمم الغابرة كعاد وثمود، الذين كانوا أشد من أهل مكة المشركين بطشا، وأكثر أموالا وأولادا، وأوسع عيشا، فأهلكهم الله، بل إنهم ما بلغوا عشر ما أوتي من قبلهم من تلك الأمم.
٥- وبجانب الوعيد فهناك للكلمة المتأنية والفكرة الهادئة دور حيوي، لذا دعاهم الله تعالى أيضا إلى إعمال الفكر، لا بنحو جماهيري جماعي غوغائي، وإنما بطريق ثنائي أو فردي يدعو إلى الهدوء والتروي والمناقشة المنطقية المقبولة، وذلك في توحيد الله مصدر السعادة، وفي حقيقة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، بدراسة تاريخ حياته المعاصرة لهم، فهل جربوا عليه كذبا، أو رأوا فيه جنونا وخللا عقليا، وهل في أحواله وتصرفاته من فساد وشذوذ وانحراف، وهل كان يتردد إلى من يدّعي العلم بالسحر، وهل تعلّم الأقاصيص وقرأ الكتب، وهل عرفوه طامعا في
أموالهم، وهل هم قادرون على معارضة القرآن المنزل عليه في سورة واحدة؟! فإذا عرفوا بهذه التأملات والدراسة الواقعية صدقه، فما بال هذه المعاندة والمعارضة له؟
٦- لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا مبشرا من أطاعه بالجنة، ومنذرا من عصاه بنار جهنم يوم القيامة.
٧- وأيضا إن عناء النبي الشديد في تبليغ دعوته دون أن يأخذ من أحد أجرا على تبليغ الرسالة دليل واقعي على صدق نبوته، فهو لا يريد إلا الأجر والثواب من عند ربه، وهذا دليل الإخلاص، والله رقيب على كل أعماله وأعمالهم، وعالم بها لا يخفى عليه شيء، فهو يجازي الجميع بما يستحقون.
٨- الله الحق هو مصدر الوحي والحق والقرآن وبيان الحجة وإظهارها، وهذا ما أنزله على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنه علام الغيوب: أي الأمر الذي غاب وخفي جدّا، وقد علم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أولى من غيره باصطفائه للنبوة والرسالة ونزول القرآن على قلبه.
٩- لقد جاء الحق للبشرية فعلا وهو القرآن الذي فيه البراهين والحجج على صحة الاعتقاد من التوحيد والرسالة والبعث والحساب. وإذا جاء الحق اندحر الباطل وهو الشرك والكفر ولم يعد له قرار ولا أثر ولا مقام، ولم يبق منه شيء أمام الحق.
١٠- قال الكفار للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: تركت دين آبائك فضللت، فرد الله عليهم آمرا نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إن ضللت كما تزعمون، فإنما أضل على نفسي، أي إن ضرره وإثمه علي، وإن اهتديت إلى الحق والرشاد فبما أوحى الله إلي من الحكمة والبيان، إن الله سميع ممن دعاه، قريب الإجابة، وفي هذا تقرير للرسالة أيضا.