وأخذنا منهم ميثاقا غليظا، أى: عهدا وثيقا على الوفاء بما التزموا من تبليغ للرسالات وتصديق بعضهم بعضا، فالله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه وأخذ عليهم المواثيق لأجل إثابة المؤمنين على صدقهم وإيمانهم، ولتعذيب الكفار والعصاة بالعذاب الأليم.
غزوة الخندق أو الأحزاب [سورة الأحزاب (٣٣) : الآيات ٩ الى ٢٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥)
المفردات:
مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، أى: من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى: أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ: مالت فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول الْحَناجِرَ: جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم ابْتُلِيَ: اختبروا بهذه الغزوة وَزُلْزِلُوا: حركوا حركة شديدة من الفزع مَرَضٌ: ضعف اعتقاد، وشك ونفاق غُرُوراً: باطلا لا ينفع يا أَهْلَ يَثْرِبَ: يا أهل المدينة عَوْرَةٌ: غير حصينة، يقال: دار معورة: ودار عورة إذا كان يسهل دخولها إِلَّا فِراراً أى: هربا مِنْ أَقْطارِها أى: من جوانبها ونواحيها، جمع قطر، وهو الجانب لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصل الأدبار جمع دبر، وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر، والمراد الهزيمة والفرار من الصف الْمُعَوِّقِينَ:
المثبطين الذين يصدون المسلمين عن القتال مع رسول الله الْبَأْسَ: القتال أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ: جمع شحيح، أى: بخلاء بالمعونة لكم من حفر أو نفقة في سبيل الله سَلَقُوكُمْ السلق: الأذى. والمراد آذوكم بألسنة سليطة الْأَحْزابَ: هم القبائل المتجمعة لحرب النبي والقضاء عليه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ: قدوة حسنة نَحْبَهُ: مات، وأصل النحب: النذر، فجعلوه كناية عن الموت.
هذه هي غزوة الخندق الذي حفر حول المدينة، وسميت غزوة الأحزاب (لتجمع الأحزاب من قريش وغطفان وقبائل نجد مع يهود المدينة).
وهذه الآيات الكريمة تكلمت فيما تكلمت فيه عن:
١- الوصف العام للغزوة | من آية ٩ إلى آية ١١. |
٣- موقف المؤمنين.. من آية ٢٢ إلى آية ٢٥.
٤- نهاية المعركة.. آية ٢٥.
٥- نهاية اليهود الذين ظاهروا المشركين.. من آية ٢٦ إلى آية ٢٧.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود لا قبل لكم بها، تجمعت لإبادتكم والقضاء عليكم، فأرسل الله عليهم ريحا قلعت خيامهم وأثارت خيولهم، وكفأت قدورهم، وأرسل عليهم جنودا من الملائكة لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا وعلى كل شيء قديرا.
رأى اليهود أن القبائل العربية لا طاقة لها بحرب النبي وصحبه متفرقين، فأخذوا يجمعون الجموع ويعقدون الأحلاف، ويحزبون الأحزاب حتى ترمى العرب المشركون الإسلام عن قوس واحدة يضربونه ضربة رجل واحد، فيمحونه من الوجود ويستريحون، وكان حيي بن أخطب وغيره من قادة اليهود يقومون بهذا فألبوا قريشا وغطفان، وبنى مرة، وأشجع وغيرها، وخرجت تلك القبائل بقيادة أبى سفيان لقريش، وعيينة بن حصن لغطفان، والحارث بن عوف على بنى مرة، ومسعر على قبيلة أشجع.
ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماعهم تشاور هو وصحبه فيما يعملون، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة مما يلي السهل، وقد اشترك المسلمون على رأسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بهمة ونشاط، وإذا استعصت عليهم صخرة جاء النبي ففتتها بفأسه صلّى الله عليه وسلّم.
ولما فرغ الرسول وصحبه من حفر الخندق وأقبلت قريش ومن معها من قبائل كنانة وأهل تهامة من أسفل الوادي جهة الشرق، وأقبلت أسد وغطفان بمن معها من أهل نجد من أعلى الوادي جهة الغرب حتى نزلوا إلى أحد، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع- جبل المدينة- في ثلاثة آلاف، وضربوا خيامهم، والخندق بينهم وبين المشركين.
وفي هذا الوقت العصيب أغرى حيي بن أخطب كعب بن أسد القرظي على نقض العهد الذي بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وامتنع في أول الأمر ثم مال إلى النقض، ويا ليته لم ينقض، ولكنهم اليهود لا أمان لهم ولا عهد ولا ذمة، وأقام الأحزاب في مكانهم والمسلمون أمامهم مدة، ذاق فيها المسلمون الأمرين، مما رأوا من تجمع العرب، ونفاق اليهود ونقضهم العهد وإظهارهم ما كانوا يخفون حتى قال بعضهم: إن بيوتنا عورة فلننصرف فإنا نخاف عليها، ومنهم من قال: يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط.
أقاموا على هذا الحال قريبا من شهر، وليس بينهم حرب إلا الرمي بالنبال والحصى، ولقد اشتد على النبي ذلك المقام فبعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري ليفاوضهما على ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما ويخذلان قريشا ويرجعان بقومهما عنهم، ولكن الأنصار أبوا ذلك قائلين: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسر الرسول لذلك ووافقهم.
وفي هذا نزل قوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وهذا تصوير لحالة المسلمين تصويرا دقيقا.
وكره بعض فوارس مكة أن يقفوا معطلين فأخذوا يدورون حول الخندق يتحسسون نقطة ضعف، وقد وجدوا فضربوا خيلهم فاقتحمت الخندق، ورأى المسلمون في ذلك خطرا عليهم فأسرع على بن أبى طالب ومعه جماعة من الفرسان ليسدوا هذه الثغرة..
وكانت مبارزة بينه وبين عمرو بن عبد ود انتهت بقتله، فلما عرف صاحباه عكرمة بن أبى جهل وضرار بن الخطاب فرا وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمين هاربين.
وفي هذه الآونة الشديدة وقع ثقل المقاومة على المؤمنين الخلص الذين كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم في سبيل الدفاع عن الحق أشد من الصخرة صلابة وقوة.
ولما وقف المؤمنون الموقف المشهود، ودافعوا دفاع الأبطال، وابتلاهم الله فوقفوا وصبروا وصابروا أراد ربك أن يصرف عنهم السوء، وأن يتم نعمته عليهم ويكفيهم شر القتال على أحسن صورة وأكمل وضع، فألقى في قلوب المشركين الخوف وأوقع فتنة بينهم، وقام نعيم بن مسعود- وكان مشركا فأسلم، وكان محبوبا من الطرفين- بدور
هام بين قريظة من اليهود، وبين المشركين حتى انصدع الشمل وتفرق الجمع. وأرسل الله ريحا سموما كفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وأصابهم منها قر ومطر شديدان عقد القوم عزمهم على الرحيل فرجعوا غير آسفين.
وهذا أبو سفيان يقول: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل. وارتحل..
وطلع النهار وإذا المدينة خالية من معسكر الأحزاب وقد فك الحصار، ورجعت الطمأنينة إلى النفوس، ونجح المسلمون في الاختبار بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا.
أما موقف اليهود من المسلمين فهذا ملخصه:
لما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم الوعد بكنوز كسرى وقيصر عند اشتداد المعركة قال طعمة بن أبيرق، ومعتب بن قشير وجماعة من اليهود والمنافقين: كيف يعدنا هذا، ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز؟! وانظر إلى فظاعتهم حيث يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا!! وفارقوا محمدا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فارجعوا إلى منازلكم، واهربوا من جند محمد، وما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه؟! وفي رواية أن الذي قال هذا هم اليهود، قالوه لزعيم المنافقين عبد الله بن أبىّ بن سلول.
ومنهم من استأذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: إن بيوتنا عرضة للهجوم عليها وسرقة ما فيها، وفي الواقع ليست بيوتهم عورة وإنما هم كاذبون، وما يريدون إلا فرارا من القتال، وهربا من الميدان.
ولو انتهكت حرمة المدينة من جوانبها ثم طلب إليهم الفتنة والقيام بطعن المسلمين من الخلف لفعلوا كل هذا، وما انتظروا إلا قليلا لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [سورة التوبة آية ٤٧].
ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أنهم لا يولون الأدبار، ولا يفرون من القتال وأنهم سيقاتلون مع النبي بإخلاص وعاهدوا الله على ذلك، ولكنهم لا عهد لهم ولا ذمة، وكان عهد الله مسئولا..
قل لهم يا محمد: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت وكيف تفرون؟ ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت ولحقكم، فإن لكل أجل كتابا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية ٣٤].
وإذا فررتم وكان في العمر بقية لا تمتعون إلا متاعا قليلا زمنه، إذ الدنيا لم تخلق زهرتها للجبناء.
قل لهم: كيف تفرون من حكم الله إلى حكم الله؟ ومن ذا الذي يعصمكم منه إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة من خير ونصر وعافية؟ وهم لا يجدون لهم من دون الله نصيرا ينصرهم ولا وليا يلي أمورهم ويشفع لهم.
روى أن عبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين قالوا لإخوانهم من المسلمين: ما محمد وأصحابه إلا قلة وهو هالك ومن معه، فهلموا وفارقوا محمدا، وقيل: إن القائل هم اليهود قالوا لإخوانهم من المنافقين: تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فنزل قوله تعالى: قد يعلم الله المعوقين- المثبطين-
منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، وهم قوم جبناء لا يأتون البأس- القتال- إلا قليلا خوفا من الموت، ولا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة، وهم قوم بخلاء عليكم أشحاء بالمعونة عند الشدائد لا ينفعون، وعند الغنائم يحضرون ويطالبون، فإذا جاء الخوف واشتد لهيب المعركة وحمى وطيسها، رأيتهم- ويا لهول ما ترى- ينظرون يمينا وشمالا تدور أعينهم يمنة ويسرة لذهاب عقولهم حذرا من القتل، وهكذا الجبال الرعديد، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد وبسطوا إليكم ألسنتهم بالسوء، وآذوكم بالكلام الشديد. فهم عن الخير ممسكون وفي الشر مجدون أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم حيث لم يقصدوا بها وجهه، وكان نفاقهم وعملهم على الله هينا، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون! وهؤلاء المنافقون لشدة جبنهم وسوء رأيهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا، وهذا شأن الجبان لفرط خوفه إذا رأى شيئا ظنه رجلا، ولفساد اعتقادهم وسوء طويتهم يودون أن تأتى الأحزاب، وهم مع الأعراب المتحزبين حذرا من القتل وتربصا بالنبي الدوائر سائلين عن أنبائكم أيها المسلمون، وهم ليسوا في قليل ولا كثير، ولو كانوا فيكم وفي جيشكم ما قاتلوا إلا قليلا.
ولقد كان لكم- أيها المتخلفون عن القتال- أسوة حسنة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فكان
الواجب عليكم أن تتأسوا برسول الله وتقتدوا به في كل أعماله، والرسول الكريم مثل في الشجاعة والإقدام والصبر والمثابرة على النوازل فهو المؤمن الواثق بالله المتوكل عليه.
لقد كان لكم أسوة حسنة في النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه يوم القيامة، وذكر الله كثيرا حبا في ذكره وأملا في ثوابه.
وهذا عتاب للمتخلفين وإرشاد للناس أجمعين حيث يجب عليهم أن يأتموا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء فهو المثل الأعلى: المثل الكامل صلّى الله عليه وسلّم.
موقف المؤمنين في هذه الغزوة:
لقد عرفنا موقف من في قلوبهم مرض من المنافقين واليهود الذين غلبت عليهم نزعات الجبن والتردد وبرهنوا بأعمالهم على لؤم في الطبع وسوء في الرأى وفساد في العقيدة.
أما المؤمنون الواثقون الذين خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان وامتلأت نفوسهم بنور اليقين فقد أفادتهم هذه التجربة القاسية وهذا الابتلاء من الله. أفادتهم يقينا على يقينهم، فهم رأوا الأحزاب قد تجمعوا وتكتلوا ضد الإسلام والمسلمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم ذلك إلا إيمانا بالله وتصديقا لرسول الله وتسليما بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم للمسلمين الصابرين المحتسبين.
نعم لقد وعدهم الله ورسوله بالنصر والظفر والظهور على قصور الحيرة ومدائن كسرى وقيصر، وهم واثقون بهذا الوعد مؤمنون بأن أية قوة في الأرض مهما تجمعت وتحزبت فلن تعجز الله في شيء ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، وما زادهم هذا الجمع الحاشد وتألب القبائل في الداخل والخارج من اليهود والمشركين، وما زادهم ذلك كله إلا إيمانا وتسليما.
روى البخاري ومسلم عن أنس قال: «قال عمى أنس بن النضر ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، أما والله لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بعد ليرينّ الله ما أصنعه. قال:
فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك. فقال:
يا أبا عمرو، أين؟ قال: واه- كلمة تفيد الإعجاب بالشيء- لريح الجنة، أجدها
دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية وما عرفته أخته إلا ببنانه».
وهذا معنى قوله تعالى: بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفوا عهودهم وأدوا حق الإسلام عليهم فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت وما بدلوا من حكم الله تبديلا، والآية عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقد يقول قائل: إذا كان المسلمون على حق فلم هذا التعذيب والإيلام في الحرب والقتال؟ ولقد أجاب الله عن هذا بقوله: وإنما يحصل لهم ذلك ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء الله أو يتوب عليهم فيوفقهم إلى التوبة الصادقة، إن الله كان غفورا رحيما.
نهاية الغزوة:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم كأبى سفيان وعيينة بن حصن ومن معهما لم ينالوا خيرا بل هتكوا سترهم وافتضح أمرهم ورجعوا بخفي حنين، وأثبتوا للعرب جميعا أن قوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الذين أخرجوا من ديارهم مطرودين بلا مال ولا زاد أصبحت تلك القوة تضارع قوى العرب مجتمعة متحزبة مع قوة اليهود المالية.
وكفى الله المؤمنين القتال، فهو الذي أوقع الرعب في نفوس الأحزاب وثبت قلوب المؤمنين على الحق حتى جاءهم النصر من عند الله العزيز الحكيم.
نهاية من ظاهر المشركين من اليهود:
رجعت الأحزاب من قريش وغطفان إلى ديارهم وقد ملئت قلوبهم غيظا وحزنا لم ينالوا خيرا، وبقي اليهود في المدينة كالمجرم الآثم الذي ظهرت أدلة جرمه وهو ينتظر حكم القضاء فيه.
أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم غيظا وحقدا من أولئك اليهود المنافقين الذين عاهدوهم ونقضوا عهدهم وظاهروا عليهم أعداء من المشركين وخاصة بنى قريظة الذين لم يروا في جوار محمد وصحبه إلا كل بر ووفاء، لهذا كله اندفع المسلمون ضحوة اليوم الذي ذهب فيه الأحزاب إلى قتال بنى قريظة ونادى النبي في المسلمين محدثا عن الروح