آيات من القرآن الكريم

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ

سألوا الشرك لأعطوه طيبة به أنفسهم وما تحسبوا به إلّا يسيرا، وجوز أن تكون الباء لغير ذلك، وقيل: فاعل الدخول أولئك العساكر المتحزبة، والوجوه المحتملة في الآية كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وما ذكرناه أولا هو الأظهر فيما أرى. وقرأ الحسن «سولوا» بواو ساكنة بعد السين المضمومة قالوا: وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سأل المهموز العين، وحكى أبو زيد هما يتساولان، وقال أبو حيان: ويجوز أن يكون أصلها الهمز لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب مبنيا للمفعول ضرب ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس بابدال الهمزة واوا لضم ما قبلها. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو، والأعمش «سيلوا» بكسر السين من غير همز نحو قيل، وقرأ مجاهد «سويلوا» واو ساكنة بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ هؤلاء هم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين. وقيل: هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا، وعن ابن عباس أنهم قوم عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه صلّى الله عليه وسلم مما يمنعون منه أنفسهم، وقيل: أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا: لئن أشهدنا الله تعالى قتالا لنقاتلن و (عاهد) أجرى مجرى اليمين لذلك تلقى بقوله تعالى: لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولي الأدبار وتولية الإدبار كناية عن الفرار والانهزام فإن الفار يولي دبره من فر منه وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة، والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع، وقيل: أي كان عند الله تعالى مسؤولا عن الوفاء به أو مسؤولا مقتضى حتى يوفى به.

صفحة رقم 159

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأزل عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا.
وهذا من باب فرض المحال ولم يقل: ولو نفعكم إخراجا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقا عند الله تعالى على الفرار مربوطا به لم يكن التمتيع إلّا قليلا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل، وقال بعض الأجلة: المعنى لا ينفعكم نفعا دائما أو تاما في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضى فلا يكون باعثا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جري العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار، وقوله تعالى: وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا يدل على أن في الفرار نفعا في الجملة إذ المعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلّا متاعا قليلا، وفيه ما فيه فتأمل.
وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية وجواب الشرط لأن محذوف لدلالة ما قبله عليه وإِذاً تقدمها هاهنا حرف عطف فيجوز فيها الإعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلّا بالإهمال. وقرىء بالإعمال في قوله تعالى في سورة [الإسراء: ٧٦] وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ وقرىء «لا يمتعون» بياء الغيبة.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً استفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من الله عزّ وجلّ وقدره جلّ جلاله إن خيرا وإن شرا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلّا من السوء لما في العصمة من معنى المنع، وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر نظير قوله:
ورأيت زوجك في الوغى... متقلدا سيفا ورمحا
فإنه أراد وحاملا أو ومعتقلا رمحا، ويجري نحو التوجيه السابق في الآية، وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من الله أراد بكم سوءا أو من الذي يمنع رحمة الله منكم إن أراد بكم رحمة، وقرينة التقدير ما في

صفحة رقم 160

يَعْصِمُكُمْ من معنى المنع، واختير الأول لسلامته عن حذف حملة بلا ضرورة.
وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم وَلا نَصِيراً يدفع الضرر عنهم، والمراد الأولى فيجدوه إلخ فهو كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر اهـ وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى فكأنه قيل: لا عاصم لهم ولا ولي ولا نصير أو الجملة حالية.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلينا أو قربوا أنفسكم إلينا، قال ابن السائب: الآية في عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنّا ننتظركم، وقال قتادة: هي في المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: ما محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: انصرف رجل من عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب إلى شقيقه فوجد عنده شواء ونبيذا فقال له: أنت هاهنا ورسول الله عليه الصلاة والسلام بين الرماح والسيوف فقال: هلم إلى فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال: كذبت والذي يحلف به لأخبرنه بأمرك فذهب ليخبره صلّى الله تعالى عليه وسلم فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية.
وقيل: هؤلاء اليهود كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا، وكأن المراد من أهل المدينة المنافقون منهم المعلوم نفاقهم عند اليهود وقَدْ للتحقيق أو للتقليل وهو باعتبار المتعلق، ومِنْكُمْ بيان للمعوقين لا صلته كما أشير إليه، والمراد بالإخوة التشارك في الصفة وهو النفاق على القول الأول، والكفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم على القول الأخير، والصحبة والجوار وسكنى المدينة على القول الثاني وكذا على القول الثالث فإن ذلك يجامع الأخوة في النسب، وظاهر صيغة الجمع يقتضي أن الآية لم تنزل في ذينك الشقيقين وحدهما فلعلها نزلت فيهما وفي المنافقين القائلين ذلك والأنصار المخلصين المقول لهم، وجواز كونها نزلت في جماعة من الإخوان في النسب مجرد احتمال وإن كان له مستند سمعي فلتحمل الأخوة عليه على الأخوة في النسب ولا ضير، والقول بجميع الأقوال الأربعة المذكورة وحمل الأخوة على الأخوة في الدين والأخوة في الصحبة والجوار والأخوة في النسب لا يخفى حاله، وهَلُمَّ عند أهل الحجاز يسوى فيه بين الواحد والجماعة، وأما عند تميم فيقال: هلم يا رجل وهلموا يا رجال، وهو عند بعض الأئمة صوت سمي به الفعل، واشتهر أنه يكون متعديا كهلم شهداءكم بمعنى أحضروا أو قربوا ولازما كهلم إلينا بناء على تفسيره بأقبلو إلينا وأما على تفسيره بقربوا أنفسكم إلينا فالظاهر أنه متعد حذف مفعوله، وجوز كونه لازما وهذا تفسير لحاصل المعنى، وفي البحر أن الذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا وإنما هو مركب اختلف في أصل تركيبه فقيل: مركب من ها التي للتنبيه والمم بمعنى أقصد وأقيل وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، والكلام على المختار من ذلك مبسوط في محله. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي الحرب والقتال وأصل معناه الشدة إِلَّا قَلِيلًا أي إتيانا أو زمانا قليلا فقد كانوا لا يأتون العسكر إلّا أن لا يجدوا بدا من إتيانه فيأتون ليرى الناس وجوههم فإذا غفلوا عنهم عادوا إلى بيوتهم، ويجوز أن يكون صفة مفعول مقدر كما كان صفة المصدر أو الزمان أي إلّا بأسا قليلا على أنهم يعتذرون في البأس الكثير ولا يخرجون إلّا في القليل، وإتيان البأس على هذه الأوجه على

صفحة رقم 161

ظاهره، ويجوز أن يكون كناية عن القتال، والمعنى ولا يقاتلون إلّا قتالا قليلا كقوله تعالى ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا وقلته إما لقصر زمانه وإما لقلة غنائه، وأيا ما كان فالجملة حال من الْقائِلِينَ وقيل: يجوز أيضا أن تكون عطف بيان على قَدْ يَعْلَمُ وهو كما ترى، وقيل: هي من مقول القول وضمير الجمع لأصحاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أي القائلين ذلك والقائلين لا يأتي أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم حرب الأحزاب ولا يقامونهم إلّا قليلا، وهذا القول خلاف المتبادر وكأنه ذهب إليه من قال أن الآية في اليهود.
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: بأنفسهم، وقيل:
بالغنيمة عند القسم، وقيل: بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمي حوزتهم سواهم، وقيل: كانوا يفعلون ذلك رياء، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصرو كشافه أيضا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرا، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال: إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله وتعالى بعد: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله: أضناء بكم، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى.
قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينا وإلّا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، وأَشِحَّةً جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على أفعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا، ونصبه عند الزجاج وأبي البقاء على الحال من فاعل يَأْتُونَ على معنى تركوا الإتيان أشحة، وقال الفراء: على الذم، وقيل: على الحال من ضمير هَلُمَّ إِلَيْنا أو من ضمير يعوقون مضمرا، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى، وقيل: من الْمُعَوِّقِينَ أو من القائلين، وردا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالا من الْمُعَوِّقِينَ لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته.
وقرأ ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف.
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ صفة لمصدر يَنْظُرُونَ أو حال من فاعله أو لمصدر تَدُورُ أو حال من أَعْيُنُهُمْ أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي آذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا، وقال يزيد بن رومان:
بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين.

صفحة رقم 162

وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدا أو لسانا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازا كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلا، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنه السلق في الآية فقال: الطعن باللسان قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:

فيهم الخصب والسماحة والنجدة فيهم والخاطب المسلاق
وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك
جاء قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «ليس منا من سلق أو حلق»
قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: إن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم ان المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ ابن أبي عبلة «صلقوكم» بالصاد.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روي عن قتادة، وقيل: على ما لهم الذي ينفقونه، وقال الجبائي: أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير. ونصب أَشِحَّةً على الحال من فاعل سَلَقُوكُمْ أو على الذم، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم أَشِحَّةً والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مرّ بأن ما هنا مقيد بالخبر المراد به مال الغنيمة وما مرّ مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالإنفاق في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتكم إلخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك.
ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق: إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لَمْ يُؤْمِنُوا بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروطة بالإيمان بالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوز أن يكون المراد بها ما عملوه نفاقا وتصنعا وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عزّ وجلّ صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا.
وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روي عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى: لَمْ يُؤْمِنُوا فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضا
قوله عليه الصلاة والسلام: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة.

صفحة رقم 163

وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي هينا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضا عليه، وقيل:
أي هينا سهلا عليه عزّ وجلّ، وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالإحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عزّ وجلّ هينا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببا لخذلان المؤمنين وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هم من الجزع والدهشة لمزيد جبنهم وخوفهم بحيث هزم الله الأحزاب فرحلوا وهم يظنون أنهم لم يرحلوا، وقيل: المراد هؤلاء لجبنهم يحسبون الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق راجعين إلى المدينة لذلك، وهذا إن صحت فيه رواية فذاك وإلّا فالظاهر أنه مأخوذ من قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا لدلالته ظاهرا على أنهم خارجون عن معسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحثون إخوانهم على اللحاق بهم، وكون المراد هلموا إلى رأينا أو إلى مكاننا الذي هو في طرف لا يصل إليه السهم خلاف الظاهر، وكذا من قوله سبحانه وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ على ما هو الظاهر أيضا إذ يبعد حمله على اتحاد المكان ولو في الخندق وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو وحاصلون مع الأعراب وهم وأهل العمود، وقرأ عبد الله، وابن عباس، وابن يعمر، وطلحة «بدى» جمع باد كغاز وغزى وليس بقياس في معتل اللام وقياسه فعلة كقاض وقضاة وفي رواية أخرى عن ابن عباس «بدوا» فعلا ماضيا، وفي رواية صاحب الاقليد «بدى» بوزن عدى يَسْئَلُونَ أي كل قادم من جانب المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ عما جرى عليكم من الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا، واختيار البداوة ليكونوا سالمين من القتال، والجملة في موضع الحال من فاعل بادون، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو، وعاصما، والأعمش قرؤوا «يسلون» بغير همز نحر قوله تعالى سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: ٢١١] ولم يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما ونقلها صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقتادة والجحدري، والحسن، ويعقوب بخلاف عنهما «يسألون» بتشديد السين والمد وأصله يتساءلون فأدغمت التاء في السين أي يسأل بعضهم بعضا أي يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب أي يسألونهم كما تقول: رأيت الهلال وتراءيته وأبصرت زيدا وتباصرته وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي في هذه الكرة المفروضة بقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ او لَوْ كانُوا فِيكُمْ في الكرة الأولى السابقة ولم يرجعوا إلى داخل المدينة وكانت محاربة بالسيوف ومبارزة الصفوف ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وسمعة وخوفا من التعبير قال مقاتل والجياني والبعلبكي: هو قليل من حيث هو رياء ولو كان الله تعالى كان كثيرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الظاهر أن الخطاب للمؤمنين الخلص المخاطبين من قبل في قوله تعالى: عَنْ أَنْبائِكُمْ وقوله سبحانه: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ.
والإسوة بكسرة الهمزة كما قرأ الجمهور وبضمها كما قرأ عاصم الخصلة، وقال الراغب: الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي اسم كان ولَكُمْ الخبر وفِي رَسُولِ اللَّهِ متعلق بما تعلق به لَكُمْ أو في موضع من أُسْوَةٌ لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا لها أو متعلق بكان على مذهب من أجاز فيها ناقصة وفي أخواتها أن تعمل في الظرف، وجوز أن يكون في رسول الله الخبر ولكم تبيين أي أعني لكم أي والله لقد كان لكم في رسول الله خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ويجوز أن يراد بالأسوة القدوة بمعنى المقتدى على معنى هو صلّى الله تعالى عليه وسلم في نفسه قدوة يحسن التأسي به، وفي الكلام صنعة التجريد وهو

صفحة رقم 164

أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف نحو لقيت منه أسدا وهو كما يكون بمعنى من يكون بمعنى في كقوله:

أراقت بنو مروان ظلما دماءنا وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل
وكقوله: في البيضة عشرون منّا حديدا أي هي نفسها هذا القدر من الحديد، والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه الصلاة والسلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة، أخرج ابن ماجة، وابن أبي حاتم عن حفص بن عاصم قال: قلت لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها فقال يا ابن أخي صحبت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها ويقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة قال: هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن ينهي عن الحبرة فقال رجل: أليس قد رأيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يلبسها؟ قال عمر: بلى قال الرجل ألم يقل الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فترك ذلك عمر رضي الله تعالى عنه.
وأخرج الشيخان، والنسائي، وابن ماجة، وغيرهم عن ابن عمر أنه سأل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة فقال قدم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فطاف بالبيت وصلّى خلف المقام ركعتين وسعى بين الصفا والمروة قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج الشيخان، وغيرهما عن ابن عباس قال: إذ حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إلى غير ذلك من الأخبار، وتمام الكلام في كتب الأصول.
لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل الله تعالى وثوابه كما يرمز إليه أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعليه يكون قد وضع الْيَوْمَ الْآخِرَ بمعنى يوم القيامة موضع الثواب لأن ثوابه تعالى يقع فيه فهو على ما قال الطيبي من إطلاق اسم المحل على الحال، والكلام نحو قولك: أرجو زيدا وكرمه مما يكون ذكر المعطوف عليه فيه توطئة للمعطوف وهو المقصود وفيه من الحسن والبلاغة ما ليس في قولك: أرجو زيدا كرمه على البدلية:
وقال صاحب الفرائد، يمكن أن يكون التقدير يرجو رحمة الله أو رضا الله وثواب اليوم الآخر ففي الكلام مضافان مقدران، وعن مقاتل أي يخشى الله تعالى ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه وضع اليوم الآخر موضع البعث لأنه يكون فيه، والرجاء عليه بمعنى الخوف، ومتعلق الرجاء بأي معنى كان أمر من جنس المعاني لأنه لا يتعلق بالذوات، وقدر بعضهم المضاف إلى الاسم الجليل لفظ أيام مرادا بها الوقائع فإن اليوم يطلق على ما يقع فيه من الحروب والحوادث واشتهر في هذا حتى صار بمنزلة الحقيقة وجعل قرينة هذا التقدير المعطوف وجعل العطف من عطف الخاص على العام، والظاهر أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، وجوز أن يكون الكلام عليه كقولك: أرجو زيدا وكرمه، وأن يكون الرجاء فيه بمعنى الأمل إن أريد ما في اليوم من النصر والثواب، وأن يكون بمعنى الخوف والأمل معا بناء على جواز استعمال اللفظ في معنييه أو في حقيقته ومجازه وإرادة ما يقع فيه من الملائم والمنافر، وعندي أن تقدير أيام غير متبادر إلى الفهم، وفسر بعضهم الْيَوْمَ الْآخِرَ بيوم السياق والمتبادر منه يوم القيامة و (من) على ما قيل بدل من ضمير الخطاب في لَكُمْ وأعيد العامل للتأكيد وهو بدل كل من كل والفائدة فيه الحث على التأسي، وإبدال الاسم الظاهر من ضمير المخاطب هذا الإبدال جائز عند الكوفيين، والأخفش، ويدل عليه قوله:

صفحة رقم 165

ومنع ذلك جمهور البصريين: ومن هنا قال صاحب التقريب، هو بدل اشتمال أو بدل بعض من كل، ولا يتسنى إلّا على القول بأن الخطاب عام وهو مخالف للظاهر كما سمعت، ومع هذا يحتاج إلى تقدير منكم، وقال أبو البقاء:
يجوز أن يكون لمن متعلقا بحسنة أو بمحذوف وقع صفة لها لأنه وقع بعد نكرة، وقيل: يجوز أن يكون صفة لأسوة، وتعقب بأن المصدر الموصوف لا يعمل فيما بعد وصفه، وكذا تعدد الوصف بدون العطف لا يصح، وقد صرح بمنع ذلك الإمام الواحدي، ولا يخفى أن المسألة خلافية فلا تغفل.
وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا وقرن سبحانه بالرجاء كثرة الذكر لأن المثابرة على كثرة ذكره عزّ وجلّ تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومما ينبغي أن يعلم أنه قد صرح بعض الأجلة كالنووي أن ذكر الله تعالى المعتبر شرعا ما يكون في ضمن جملة مفيدة كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله ونحو ذلك وما لا يكون بمفرد لا يعد شرعا ذكرا نحو الله أو قادر أو سميع أو بصير إذ لم يقدر هناك ما يصير به اللفظ كلاما، والناس عن هذا غافلون، وأنهم أجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه فالمتلفظ بنحو سبحان الله ولا إله إلّا الله إذا كان غافلا عن المعنى غير ملاحظ ومستحضرا إياه لا يثاب إجماعا، والناس أيضا عن هذا غافلون فإنا لله وإنا إليه راجعون وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند اشتباه الشؤون واختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أي لما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم قالُوا هذا إشارة عند بعض المحققين إلى ما شاهدوه من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ نعم يجوز التذكير باعتبار الخبر الذي هو ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة، وعند الأكثر إشارة إلى الخطب والبلاء، وما موصولة عائدها محذوف وهو المفعول الثاني لوعد أي الذي وعدناه الله، وجوز أن تكون مصدرية أي هذا وعد الله تعالى ورسوله إيانا وأرادوا بذلك ما تضمنه قوله تعالى في سورة [البقرة: ٢١٤] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ كما أخرج ذلك ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه جماعة عن قتادة أيضا ونزلت آية البقرة قبل الواقعة بحول على ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن الحبر رضي الله تعالى عنه.
وفي البحر عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا
أي في آخر تسع ليال أو عشر أي من وقت الإخبار أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك فمرادهم بذلك ما وعد بهذا الخبر. وتعقبه ابن حجر بأنه لم يوجد في كتب الحديث، وقرىء بإمالة الراء «رأى»
نحو الكسرة وفتح الهمزة وعدم إمالتها، وروى إمالتهما وإمالة الهمزة دون الراء على تفصيل فيه في النشر فليراجع وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الظاهر أنه داخل في حيز القول فجوز أن يكون عطفا على جملة هذا ما وَعَدَنَا إلخ أو على صلة الموصول وهو كما ترى، وأن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه.
وأيا ما كان فالمراد ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم لأن الصدق محقق قبل ذلك والمترتب على رؤية الأحزاب ظهوره، وجوز أن يكون المعنى وصدق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في النصرة والثواب كما صدق الله تعالى ورسوله في البلاء، والإظهار مع سبق الذكر للتعظيم ولأنه لو أضمر وقيل وصدق جاء الجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير واحد والأولى تركه أو قيل وصدق وهو ورسوله بقي الإظهار في مقام الإضمار فلا يندفع السؤال كذا قيل، وحديث الجمع قد مرّ ما فيه وَما زادَهُمْ أي ما رأوا المفهوم من قوله تعالى:

صفحة رقم 166

وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ إلخ ورجوع الضمير إلى المصدر المفهوم من رَأَ يعكر عليه التذكير، وأرجعه بعضهم إلى الشهود المفهوم من ذلك، وجوز رجوعه إلى الوعد أو الخطب والبلاء المفهومين من السياق أو الإشارة.
وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع العائد على الأحزاب إِلَّا إِيماناً بالله تعالى وبمواعيده عزّ وجلّ وَتَسْلِيماً لأوامره جلّ شأنه وأقداره سبحانه، واستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه ومن أنكر قال: إن الزيادة فيما يؤمن به لا في نفس الإيمان والبحث في ذلك مشهور وفي كتب الكلام على أبسط وجه مسطور مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة رِجالٌ أي رجال صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم والمقاتلة للأعداء، وقيل: من الطاعات مطلقا ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا، وسبب النزول ظاهر في الأول.
أخرج الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وجماعة عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله تعالى ما أصنع فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وكانوا يرون أنها نزلت فيه وأصحابه.
وفي الكشاف نذر رجال من الصحابة أنهم إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، وعن الكلبي، ومقاتل أن هؤلاء الرجال هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة والمعول عليه عندي ما قدمته، ومعنى صَدَقُوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق، ومحل ما عاهَدُوا النصب أما على نزع الخافض وهو في وإيصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكرة على رواية النصب أي في سن بكره والمفعول محذوف والأصل صدقوا الله فيما عاهدوه، وإما على أنه هو المفعول الصريح.
وجعل ما عاهدوا عليه بمنزلة شخص معاهد على طريق الاستعارة المكنية وجعله مصدوقا تخييل وعلى الإسناد المجازي فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب على ما قال الراغب النذر المحكوم بوجوبه يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره. وقال أبو حيان: النذر بالشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به قال الشاعر:

بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا
عشية فر الحارثيون بعد ما قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
وقال جرير:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمر عظيم التزم القيام به، وشاع قضى فلان نحبه بمعنى مات إما على أن النحب مستعار استعارة تصريحية للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل إنسان والقرينة حالية والقضاء ترشيح، وأما على أن قضاء النحب مستعار له.
وجوز أن يراد بالنحب في الآية النذر وأن يراد الموت، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون مستعارا لالتزام الموت شهيدا إما بتنزيل التزام أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام

صفحة رقم 167

عليه وهو الأنسب بمقام المدح، وجعله استعارة للموت لأنه كنذر لازم مسخ للاستعارة.
وإذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية انتهى، وفيه منع ظاهر كما لا يخفى على المنصف.
والذي يقتضيه ظاهر بعض الأخبار أن النحب هنا بمعنى النذر وقضاؤه أداؤه والوفاء به، فقد أخرج ابن أبي عاصم، والترمذي وحسنه، وابن جرير، الطبراني، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي ثم إني اطلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: إن قال هذا ممن قضى نحبه، وأخرج ابن منده، وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا طلحة أنت ممن قضى نحبه، وأخرج الحاكم عن عائشة نحوه.
وأخرج الترمذي وغيره عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: طلحة ممن قضى نحبه
، وكأن عليا كرم الله وجهه عنى مدحه بذلك في قوله وقد قيل له حدثنا عن طلحة: ذاك امرؤ نزل فيه آية من كتاب الله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وقد أخرج ذلك عنه كرم الله تعالى وجهه أبو الشيخ، وابن عساكر وكان رضي الله تعالى عنه قد ثبت يوم أحد حتى أصيبت يده، وإلى حمل النحب على حقيقته ذهب مجاهد فالمعنى منهم وفى بعهده وأدّى نذره وَمِنْهُمْ أي وبعضهم مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤدي نذره ويفي بعهده، ومن حمل ما عاهدوا الله تعالى على العموم وأبقى النحب على حقيقته قال: المعنى منهم من وفى بعهود الإسلام وما يلزم من الطاعات ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح، واستشكل إبقاء النحب على حقيقته لأن وفاء النذر عين صدق العهد فيكون مآل المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى وصدقوا أي فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه فمنهم من فعل ووفى بما عاهد، وفيه تقسيم الشيء إلى نفسه، ويشكل على هذا المعنى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ لأن المنتظر غير واف فكيف يجعل قسما من الذين صدقوا أي وفوا، وأجيب بأن المراد بالمصدق في الآية مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجة وهذا الكلام المتضمن لهذه النسبة هو ما اقتضاه عهدهم على الثبات من نحو قولهم: لئن أرانا الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لنثبتن ولنقاتلن، واتصاف الخبر بالصدق، وكذا المخبر به لا يقتضي أكثر من مطابقة نسبته للواقع في أحد الأزمنة فنجو يقوم زيد صادق وكذا المخبر به وقت الأخبار به وإن كان وقوع القيام بعد ألف سنة مثلا، وكذا نحو إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادق وإن كان التكلم به ليلا فهؤلاء الرجال لما أخبروا عن أنفسهم إنهم أن أراهم الله تعالى مشهدا مع رسوله عليه الصلاة والسلام ثبتوا وقاتلوا وعلم سبحانه أن هذا مطابق للواقع أخبر تعالى عنهم بأنهم صدقوا ثم قسمهم عزّ وجلّ إلى قسمين قسم أدّى ما أخبر عن نفسه أنه يؤديه وقسم ينتظر وقتا يؤديه فيه، ولا يتصف هذا القسم بالكذب إلّا إذا مات وقد أراه الله تعالى ذلك ولم يؤد، ومن أخبر الله تعالى عنهم بالصدق ما ماتوا حتى أدوا فلا إشكال. نعم الإشكال على تقدير أن يراد بالصدق فيما عاهدوا تحقيق العهد فيما أظهروه من أفعالهم كما فسره الراغب ويراد من قضاء النحب وفاء النذر أو العهد كما لا يخفي، وقيل: المراد بصدقهم المذكور مطابقة ما في ألسنتهم لما في قلوبهم على خلاف المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولا إشكال في التقسيم حينئذ، وقيل: الصدق بالمعنى المشهور بين الجمهور إلّا أن المراد بصدقوا يصدقون، وعبر عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، وكلا القولين كما ترى، وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: قَضى نَحْبَهُ فقال: أجله الذي قدر له

صفحة رقم 168

فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول لبيد:

ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروي نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعليه لا مانع من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا الله عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم، فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى على الثبات والقتال إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت، والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتا بأن يكون قد استشهد كأنس بن النضر، ومعصب بن عمير، ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف أنفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك، وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من استشهد، وأوجبوا ذلك فيما
أخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وابن المنذر، وأبو نعيم وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله مثله.
وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض، وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة»
وفي مجمع البيان عن أبي إسحاق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت فينا رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية وإنا والله المنتظر
، وفي وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة، وقيل: إلى الموت مطلقا حبا للقاء الله تعالى ورغبة فيما عنده عزّ وجلّ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عطف على صَدَقُوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، أما الذين قضوا فظاهر، وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة، وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم، وجوز أن يكون ضمير بَدَّلُوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم، وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الأدبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي الذين صدقوا ما عدوا الله تعالى عليه بِصِدْقِهِمْ أي بسبب صدقهم، وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليق الحكم بالمشتق اعتناء بأمر الصدق، ويكتفي بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى:
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه، والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم إِنْ شاءَ أي تعذيبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عزّ وجلّ كذا قيل: وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى. واستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: ١٤٥] وقد أخبر عزّ وجلّ أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقا حتما لا محالة فكيف هذا التعليق وأجيب بأنه لا إشكال فإن الله جلّ جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جلّ شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل: إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيها أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جلّ وعلا لم يشأ، ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي، وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب، وكأنه سبحانه

صفحة رقم 169

لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل: وَيُعَذِّبَ وقال بعض الأجلة: إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل: أو يقبل توبتهم إن تابوا، وحذف الشرط لظهور استلزام المذكور له، ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه، وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس، وأيا ما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها، والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى أن شاء عذبهم بإبقائه منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان. وقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران إقامة على النفاق، وتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجار واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله تعالى لِيُعَذِّبَ ليديم على النفاق قوله سبحانه: إِنْ شاءَ ومعادلته بالتوبة وحرف أَوْ انتهى، وأراد بذلك حل الإشكال، وكأن ما ذكره يؤول إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الاحتباك، قال في البحر: وهذا من الإيجاز الحسن، وقال السدي: المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان، وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفقة دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من استشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم، وقيل لذلك أيضا: إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها، وحكي هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور، وقد يقال: المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: ١٢] على أن ذلك كالاسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الاشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانا وفلانا مثلا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم، ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه:
بِصِدْقِهِمْ تصريحا بما يفهم من السياق، ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الاكتفاء حيث قال في معنى الآية: ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولا وفعلا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية، قيل: ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه: أَوْ يَتُوبَ إلخ فإنه يستدعي فعلا خاصا بهم فتأمل، والظاهر أن اللام في لِيَجْزِيَ للتعليل، والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفي التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلا كما بدّل المنافقون فقوله: لِيَجْزِيَ ويُعَذِّبَ متعلق بالمنفي والمثبت على اللف والنشر التقديري، وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الاستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل، وقيل: إن اللام للعلة حقيقة بالنظر إلى المنطوق ومجازا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه.
وقيل: لا يبعد جعل لِيَجْزِيَ إلخ تعليلا للمنطوق المقيد بالمعرض به فكأنه قيل: ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب، وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره، وبضدها تتبين الأشياء، وقيل:
تعليل لصدقوا وحكي ذلك عن الزجاج، وقيل: لما يفهم من قوله تعالى: وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً وقيل: لما

صفحة رقم 170

يستفاد من قوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ كأنه قيل: ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية، واختاره الطيبي قائلا: إنه طريق أسهل مأخذا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلا للمنطوق والمعرض به، واختار شيخ الإسلام كونه متعلقا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكي من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: ٨] كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله إلخ، وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لمن تاب، وهذا اعتراض فيه بعث إلى التوبة.
وقوله سبحانه: وَرَدَّ اللَّهُ إلخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: ٩] وهو معطوف على (أرسلنا) وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت به العقول والأفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام، وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الَّذِينَ كَفَرُوا والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفا على فاعلي المقدر قبل: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى لِيَجْزِيَ كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم ورد أعدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد، والظاهر أنه عنى المشركين واليهود الذين تحزبوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه فسر ذلك بأبي سفيان، وأصحابه، ولعله الأولى، وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من محل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم بِغَيْظِهِمْ حال من الموصول لا من ضمير كَفَرُوا والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب، وقوله تعالى: لَمْ يَنالُوا خَيْراً حال من ذاك أيضا أو من ضمير بِغَيْظِهِمْ أي غير ظافرين بخير أصلا، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: ٨] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم، وجوز أن يكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي وقاهم سبحانه ذلك، وكَفَى هذه تتعدى لاثنين، وقيل: هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد.
والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليه السلام، وقيل: بقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبد ود.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف «وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» وفي مجمع البيان هو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
ولا يكاد يصح ذلك، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: ٩] وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياه القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي

صفحة رقم 171

بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والاجتماع بحكم العادة.
وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى الله المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشا هزموا بقوة الله تعالى وعزته عزّ وجلّ وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلّا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روي عن ابن إسحاق ثلاثة نفر من بني عبد الدار بن قصي منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم بن يقظة نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، ومن بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم الله تعالى وجهه كما علمت فقتله.
وروي عن ابن شهاب أنه رضي الله تعالى عنه قتل يؤمئذ ابنه حسل أيضا فيكون من قتل من المشركين أربعة واستشهد من المؤمنين بسبب هذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك وعبد الله بن سهل وهم من بني عبد الأشهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة، وكعب بن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله، قال ابن إسحاق: ولم يستشهد إلّا هؤلاء الستة رضي الله تعالى عنهم وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث كل ما يريد جل شأنه عَزِيزاً غالبا على كل شيء وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب المردودة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة عند الجمهور، وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثوار والظباء ولشوكة الديك التي في رجله كالقرن الصغير، وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي:

نظرت إليه والرماح تنوشه كوقع الصياصي في النسيج الممدد
وتطلق على الأصول أيضا قال: أبو عبيدة إن العرب تقول جذ الله تعالى صئصئه أي أصله.
وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد بحيث أسلموا فيهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والاستعصاء. وفي البحر أن قذف الرعب سبب لإنزالهم ولكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم، وقدم مفعول تَقْتُلُونَ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد، ولو قيل: وفريقا تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون: أو نحو ذلك، وقيل: قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل، وقيل: غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسروا وقرأ ابن عامر والكسائي «الرّعب» بضم العين وقرأ أبو حيوة «تأسرون» بضم السين، وقرأ اليماني «يأسرون» بياء الغيبة وقرأ ابن أنس عن ابن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الاسم بصيغة الغيبة فتأمل، وتفصيل القصة على سبيل الاختصار إنه لما كانت صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما
في بعض الروايات وقد رجع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتى جبريل عليه السلام معتجرا بعمامة إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: عفا الله تعالى عنك ما وضعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلّا الآن من طلب القوم وإن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل

صفحة رقم 172

بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة والسلام مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلّا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وقدم علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه برايته إليهم وابتدرها الناس فسار كرم الله تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله تعالى وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة والسلام قد مرّ بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم صلّى الله عليه وسلم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلّا ببني قريظة وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم الله تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة والسلام.
وحاصرهم صلّى الله تعالى عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال: فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلّا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال: فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة والسلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح فعرف أنه قد خان الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي الله تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة والسلام استنزلهم فتواثب الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال: فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول

صفحة رقم 173

الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد جعله في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي الله تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، وروي أن بني قريظة هم اختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطؤوا له بوسادة من آدم وكان رجلا جسيما جميلا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فأما المهاجرون من قريش فقالوا: إنما أراد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون: قد
عم بها عليه الصلاة والسلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله تعالى عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد: عليكم عهد الله تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم قال: وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم.
نعم قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء فكبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها أرسالا وفيهم عدو الله تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأتي بحيي بن أخطب عدو الله تعالى وعليه حلة تفاحية (١) قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه
فقال فيه جبل بن جدال التغلبي:

لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي العز كل مقلقل
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه استوهب من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزبير بن باطا القرظي لأنه منّ عليه في الجاهلية يوم بعاث فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم هو لك فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك قال: شيخ كبير فما يصنع بالحياة ولا أهل له ولا ولد؟ فأتى ثابت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله امرأته وولده قال: هم لك فأتاه فقال
(١) قال ابن هشام تفاحية ضرب من الوشي اهـ منه.

صفحة رقم 174

قد وهب لي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: ما له قال: هو لك فأتاه فقال: قد أعطاني رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مالك فهو لك فقال أي ثابت: ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتمرأ فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال: قتل قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا غزال بن شموال؟ قال: قتل قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال: قتلوا قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك ألا ألحقني بالقوم فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله تعالى قتلة ذكر ناصح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه فلما بلغ أبا بكر رضي الله تعالى عنه قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في جهنم خالدين فيها مخلدين، واستوهبت سلمى بنت أقيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد صلت معه القبلتين وبايعته مبايعة النساء رفاعة بن شموال القرظي وقالت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصل ويأكل لحم الجمل فوهبه عليه الصلاة والسلام لها فاستحيته. وقتل منه كل من أنبت من الذكور، وأما النساء فلم يقتل منهم إلا امرأة يقال لها لبابة زوجة الحكم القرظي وكانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته. اخرج ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: والله ان هذه الامرأة لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقتل رجالها بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت: أنا والله قلت لها: ويلك ما لك؟ قالت: اقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: فو الله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل، ثم إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس وكان للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل الذي ليس له فرس سهم، وكانت الخيل في تلك الغزوة ستة وثلاثين فرسا وهو أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس على ما ذكر ابن إسحاق، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا القوم وكانت السبايا كلها على ما قيل سبعمائة وخمسين إلى نجد فابتاع بها لهم خيلا وسلاحا وكان عليه الصلاة والسلام قد اصطفى لنفسه الكريمة من نسائهم ريحانة بنت عمرو وكانت في ملكه صلّى الله عليه وسلم حتى توفي، وقد كان عليه الصلاة والسلام عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخف علي وعليك فتركها صلّى الله عليه وسلم وكانت حين سباها قد أبت إلا اليهودية فعزلها عليه الصلاة والسلام ووجد في نفسه لذلك فبينما هو صلّى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: إن هذا لنعلا ابن شعبة جاء يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها
، وكان الفتح على ما في البحر في آخر ذي القعدة وهذه الغزوة وغزوة الخندق كانتا في سنة واحدة كما يدل عليه ما ذكرناه أول القصة وهو الصحيح خلافا لمن قال: ان كلا منهما في سنة، ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر لسعد رضي الله تعالى عنه جرحه فمات شهيدا، وقد استبشرت الملائكة عليهم السلام بروحه واهتزّ له العرش، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار:

وما اهتز عرش الله من موت هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو
واستشهد يوم بني قريظة على ما
روي عن ابن إسحاق من المسلمين ثم من بني الحارث بن الخزرج خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو وطرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، وذكروا ان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: إن له لأجر شهيدين
، ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو بني أسد بن خزيمة ورسول الله عليه الصلاة

صفحة رقم 175

والسلام محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم التي يدفنون فيها اليوم واليه دفنوا موتاهم في الإسلام، وتمام الكلام فيما وقع في هذه الغزوة في كتب السير، وقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ عطف على قوله سبحانه وتعالى: أَنْزَلَ إلخ، والمراد بأرضهم مزارعهم، وتقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزروع.
وفي قوله عزّ وجلّ: أَوْرَثَكُمْ إشعار بأنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين وأن ملكهم إياه ملك قوي ليس بعقد الفسخ أو الإقالة وَدِيارَهُمْ أي حصونهم وَأَمْوالَهُمْ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم التي اشتملت عليها أرضهم وديارهم.
أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة من خبر طويل أن سعدا رضي الله تعالى عنه حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم بأن أعقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه: أتؤثر المهاجرين بالأعقار علينا؟ فقال: إنكم ذو أعقار وإن المهاجرين لا أعقار لهم، وأمضى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حكمه.
وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قال: رضينا بما صنع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
وذكر الجلال السيوطي أن الخبر رواه الواقدي من رواية خارجة بن زيد عن أم العلاء، قالت: لما غنم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بني النضير جعل الحديث، ومن طريق المسور بن رفاعة قال: فقال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصيب من بني النضير الحديث اهـ، وعليه لا يحسن من الزمخشري ذكره هاهنا مع أن الآيات عنده في شأن بني قريظة، وسيأتي الكلام فيما وقع لبني النضير في تفسير سورة الحشر إن شاء الله تعالى وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قال مقاتل، ويزيد بن رومان، وابن زيد: هي خيبر فتحت بعد بني قريظة، وقال قتادة: كان يتحدث أنها مكة، وقال الحسن: هي أرض الروم وفارس، وقيل: اليمن، وقال عكرمة: هي ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة واختاره في البحر، وقال عروة: لا أحسبها إلا كل أرض فتحها الله تعالى على المسلمين أو هو عزّ وجلّ فاتحها إلى يوم القيامة، والظاهر أن العطف على أَرْضَهُمْ واستشكل بأن الإرث ماض حقيقة بالنسبة إلى المعطوف عليه ومجازا بالنسبة الى هذا المعطوف. وأجيب بأنه يراد بأورثكم أورثكم في علمه وتقديره وذلك متحقق فيما وقع من الإرث كأرضهم وديارهم وأموالهم وفيما لم يقع بعد كإرث ما لم يكن مفتوحا وقت نزول الآية. وقدر بعضهم أورثكم في جانب المعطوف مرادا به يورثكم إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والدليل المذكور، واستبعد دلالة المذكور عليه لتخالفهما حقيقة ومجازا.
وقيل: الدليل ما بعد من قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ إلخ، ثم إذا جعلت الأرض شاملة لما فتح على أيدي الحاضرين ولما فتح على أيدي غيرهم ممن جاء بعدهم لا يخص الخطاب الحاضرين كما لا يخفى. ومن بدع التفاسير أنه أريد بهذه الأرض نساؤهم، وعليه لا يتوهم إشكال في العطف. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لم تطوها» بحذف الهمزة أبدل همزة تطأ الفا على حد قوله:

إن السباع لتهدى في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا
فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت كقولك لم تروها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً فهو سبحانه قادر على أن يملككم ما شاء يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي السعة والتنعم فيها وَزِينَتَها أي

صفحة رقم 176

زخرفها وهو تخصيص بعد تعميم فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني، وأصل تعال أمر بالصعود لمكان عال ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقا والمراد هاهنا ما سمعت، وقال الراغب: قال بعضهم إن أصله من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك: افعل كذا غير صاغر تشريفا للمقول له، وهذا المعنى غير مراد هنا كما لا يخفى أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطكن متعة الطلاق، والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه، ولسائر المطلقات مستحبة، وعن الزهري متعتان أحدهما يقضي بها السلطان ويجبر عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها والثانية حق على المتقين من طلق بعد ما فرض ودخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره، وعن سعيد بن جبير المتعة حق مفروض، وعن الحسن لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة والاقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما ولا ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر معشرة دراهم فلا ينقص من نصفها كذا في الكشاف، وتمام الكلام في الفروع، والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى: وَأُسَرِّحْكُنَّ وجوز أن يكون الجزم على أنه جواب الشرط ويكون فَتَعالَيْنَ اعتراضا بين الشرط وجزائه، والجملة الاعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله:

واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وقرأ حميد الخراز «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمتعكن» بالتخفيف من أمتع، والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كنى به عن الطلاق أي وأطلقكن سَراحاً أي طلاقا جَمِيلًا أي ذا حسن كثير بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء. وفي مجمع البيان تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة، وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه إلا أنه قدم عليه إيناسا لهن وقطعا لمعاذيرهن من أول الأمر، وهو نظير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: ٤٣] من وجه ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا: وجوز أن يكون في محلة بناء على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق والسراح الإخراج من البيوت فكأنه قيل: إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة وأخرجكن من البيوت إخراجا جميلا بلا مشاجرة ولا إيذاء، ولا يخفى بعده وسبب نزوله الآية على ما قيل: إن أزواجه عليه الصلاة والسلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة.
وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه والناس ببابه جلوس والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فدخلا والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر: لأكلمن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لعله يضحك فقال: يا رسول الله لو أردت ابنة زيد يعني امرأته رضي الله تعالى عنه سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى بدأ ناجذه وقال: هن حولي سألنني النفقة فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة والسلام: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت: ما هو؟ فتلا عليها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل

صفحة رقم 177

أختار الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني امرأة منهن عما اخبرتني إلا أخبرتها
وفي خبر رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة، والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة والسلام تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية وكان تحته صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق وبدأ بعائشة فلما اختارت الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم والدار الآخرة رئي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك فلما خيرهن واخترن الله عزّ وجلّ ورسوله عليه الصلاة والسلام والدار الآخرة شكرهن الله جلّ شأنه على ذلك إذ قال سبحانه: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب: ٥٢] فقصره الله تعالى عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم.
وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم خير نساءه فاخترن جميعا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام غير العامرية اختارت قومها
فكانت بعد تقول: أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فتقول: أنا الشقية.
وأخرج أيضا عن ابن جناح قال: اخترنه جميعا غير العامرية كانت ذاهبة العقل حتى ماتت. وجاء في بعض الروايات عن ابن جبير غير الحميرية وهي العامرية، وكان هذا التخيير كما روي عن عائشة، وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة والسلام شهرا تسعة وعشرين يوما. وفي البحر أنه لما نصر الله تعالى نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله بنات كسرى، وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم فأمره الله تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد انتهاء قصة الأحزاب وبني قريظة كما لا يخفى، ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لإمر الله تعالى والشفقة على خلقه عزّ وجلّ فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى فقال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: ٢] إلخ ثم أرشده سبحانه الى ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك، وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلخ لأن سبب النزول ما سمعت.
وقال الإمام: إن التقديم إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم غير ملتفت إلى الدنيا ولذاتها غاية الالتفات، وذكر أن في وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضا، ومعنى إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كنتن تردن رسول الله وإنما ذكر الله عزّ وجلّ للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة والسلام عنده تعالى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أي نعيمها الباقي الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ أي هيأ ويسّر لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بمقابلة إحسانهن أَجْراً لا تحصى كثرته عَظِيماً لا تستقصى عظمته، و (من) للتبيين لأن كلهن كن محسنات.
وقيل: ويجوز فيه التبعيض على أن المحسنات المختارات لله ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم واختيار الجميع لم يعلم وقت النزول، وهو على ما قال الخفاجي عليه الرحمة بعيد، وجواب إِنْ في الظاهر ما قرن بالفاء

صفحة رقم 178

إلا أنه قيل الماضي فيه بمعنى المضارع الدال على الاستقبال والتعبير به دونه لتحقق الوقوع، وقيل: الجواب محذوف نحو تثبن أو تنلن خيرا وما ذكر دليله، وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه، قيل: وهو السر في تقديم التمتيع على التسريح ووصف التسريح بالجميل.
هذا واختلف فيما وقع من التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار او لا فذهب الحسن، وقتادة وأكثر أهل العلم (١) على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن انفسهن كان ذلك طلاقا، وكذا اختلف في حكم التخيير بأن يقول الرجل لزوجته اختاري فتقول اخترت نفسي أو اختاري نفسك فتقول اخترت فعن زيد بن ثابت أنه يقع الطلاق الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل من الزوج دعوى الواحدة، وعن عمر، وابن عباس، وابن مسعود أنه يقع واحدة رجعية وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، وبه أخذ الشافعي، وأحمد.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقع واحدة بائنة
، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود، وأيضا عن عمر رضي الله تعالى عنهما، وبذلك أخذ أبو حنيفة عليه الرحمة، فإن اختارت زوجها فعن زيد بن ثابت أنه تقع طلقة واحدة وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان إحداهما أنه تقع واحدة رجعية والأخرى أنه لا يقع شيء أصلا وعليه فقهاء الأمصار.
وذكر الطبرسي أن المروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اختصاص التخيير بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأما غيره عليه الصلاة والسلام فلا يصح له ذلك. واختلف في مدة ملك الزوجة الاختيار إذا قال لها الزوج ذلك فقيل: تملكه ما دامت في المجلس وروي هذا عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم.
وبه قال جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ومالك، وسفيان، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وقيل:
تملكه في المجلس وفي غيره وهو قول الزهري، وقتادة، وأبي عبيدة، وابن نصر وحكاه صاحب المغني عن علي كرم الله تعالى وجهه.
وفي بلاغات محمد بن الحسن أنه كرم الله تعالى وجهه قائل بالاقتصار على المجلس كقول الجماعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وتمام الكلام في هذه المسألة وما لكل من هذه الأقوال وما عليه يطلب من كتب الفروع كشروح الهداية وما يتعلق بها بيد أبي أقول: كون ما في الآية هو المسألة المذكور في الفروع التي وقع الاختلاف فيها مما لا يكاد يتسنى، وتأويل الخفاجي استدلال من استدل بها في هذا المقام بما لا يخلو عن كلام عند ذوي الأفهام.
هذا وذكر الإمام في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل. الأولى أن التخيير منه صلّى الله تعالى عليه وسلم قولا كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام بلا شك لأنه إبلاغ الرسالة، وأما معنى فكذلك على القول بأن الأمر للوجوب.
الثانية أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا فالظاهر نظرا إلى منصب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه يجب عليه التمتيع والتسريح لأن الخلف في الوعد منه عليه الصلاة والسلام غير جائز. الثالثة أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة بعد البينونة على غيره عليه الصلاة والسلام وإلا لا يكون التخيير ممكنا من التمتع بزينة الدنيا. الرابعة أن الظاهر أن من

(١) ومنهم ابن الهمام اهـ منه.

صفحة رقم 179

اختارت الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم يحرم على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم نظرا إلى منصبه الشريف طلاقها والله تعالى أعلم.
يا نِساءَ النَّبِيِّ تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن هاهنا وفيما بعد بالإضافة اليه عليه الصلاة والسلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجا كما لا يخفى على المتأمل مَنْ يَأْتِ بالياء التحتية حملا على لفظ مَنْ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، والجحدري، وعمرو بن قائد الأسواري ويعقوب بالتاء الفوقية حملا على معناها مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بكبيرة مُبَيِّنَةٍ ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر مبينة بفتح الياء والمراد بها على ما قيل: كل ما يقترف من الكبائر، وأخرج البيهقي في السنن عن مقاتل بن سليمان أنها العصيان للنبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: ذلك وطلبهن ما يشق عليه الصلاة والسلام أو ما يضيق به ذرعه ويغتم صلّى الله عليه وسلم لأجله.
ومنع في البحر أن يراد بها الزنا قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم معصوم من ارتكاب نسائه ذلك ولأنه وصفت الفاحشة بالتبين والزنا مما يتستر به ومقتضاه منع إرادة الأعم ثم قال: وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته، ولا يخلو كلامه عن بحث والإمام فسرها به، وجعل الشرطية من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع جزما فإن الأنبياء صان الله تعالى زوجاتهم عن ذلك، وقد تقدم بعض الكلام في هذه المسألة في سورة النور وسيأتي إن شاء الله تعالى طرف مما يتعلق بهما أيضا يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ يوم القيامة على ما روي عن مقاتل أو فيه، وفي الدنيا على ما روي عن قتادة ضِعْفَيْنِ أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه فإن مكث غيرهن ممن أتى بفاحشة مبينة في النار يوما مثلا مكثن هن لو أتين بمثل ما أتى يومين. وإن وجب على غيرهن حد لفاحشة وجب عليهن لو أتين بمثلها حدان، وقال أبو عمرو، وأبو عبيدة فيما حكى الطبري عنهما الضعفان أن يجعل الواحدة ثلاثة فيكون عليهن ثلاثة حدود أو ثلاثة أمثال عذاب غيرهن، وليس بذاك، وسبب تضعيف العذاب أن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه وتلك ظاهرة فيهن ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم السلام بما لا يعاتب به الأمم وكذا حال العالم بالنسبة الى الجاهل فليس من يعلم كمن لا يعلم،
وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه قال له رجل: إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله تعالى في أزواج النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها
، وقرأ الحسن، وعيسى، وأبو عمرو «يضعف» بالياء التحتية مبنيا للمفعول بلا ألف والجحدري، وابن كثير، وابن عامر «نضعف» بالنون مبنيا للفاعل بلا ألف أيضا وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة عن أبي عمرو «نضاعف» بالنون والألف والبناء للفاعل وفرقة «يضاعف» بالياء والألف والبناء للفاعل، وقرأ «العذاب» بالرفع من قرأ بالبناء للمفعول وبالنصب من قرأ للفاعل وَكانَ ذلِكَ أي تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي سهلا لا يمنعه جلّ شأنه عنه كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم بل هو سبب له.
تم بحمد الله الجزء الحادي والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني والعشرون وأوله وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ.

صفحة رقم 180

الجزء الثاني العاشر

صفحة رقم 181
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية