آيات من القرآن الكريم

هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛ

رَحِيماً
(٥) يغفر الذنوب ويرحم المذنب فالمغفرة هو أن يستر القادر القبيح، الصادر ممن تحت قدرته والرحمة هو أن يميل إلى شخص بالإحسان لعجز المرحوم إليه لا لعوض. النَّبِيُّ أَوْلى أي أشفق بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في كل أمر من أمور الدين والدنيا، فإن نفوسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم. وهو صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم. والمعنى: أن طاعتهم للنبي أولى من طاعتهم لأنفسهم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في استحقاق التعظيم، وفي تحريم نكاحهن تحريما مؤبدا لا في غير ذلك سواء دخل صلّى الله عليه وسلّم بها أو لا، وسواء مات عنهن أو طلقهن، وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أي ذوو القرابات بعضهم أولى ببعض في التوارث بحق القرابة من الإرث بحق الإيمان، وبحق الهجرة في القرآن وهو آية المواريث والوصية، إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً أي إلى أصدقائكم وصية من الثلث أي إن أوصيتم فغير الوارثين أولى، وإن لم توصوا فالوارثون أولى بميراثكم وبما تركتم كانَ ذلِكَ أي الميراث للقرابة والوصية للأجانب بالموادة فِي الْكِتابِ أي القرآن مَسْطُوراً (٦) أي مكتوبا. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي اذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين الحق، وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)، أي عهدا مؤكدا وهو الإخبار بأنهم مسؤلون عما فعلوا في الإرسال لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أي ليسأل الرسل عن صدقهم في تبليغ الرسالة تبكيتا لمن أرسلوا إليهم، وليسأل الوافين عن وفائهم، والمؤمنين عن إيمانهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨) أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين بالرسل عذابا أليما. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ، أي أحزاب وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة، والنضير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وهي ريح الصبا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام، وكانوا ألفا ولم يقاتلوا يومئذ، وإنما ألقوا الرعب في قلوب الأحزاب، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من التجائكم إليه ورجائكم فضله بَصِيراً (٩)، فنصركم على الأعداء عند الاستعداد.
وقرئ «بما يعملون» بالياء، أي الأحزاب إِذْ جاؤُكُمْ أي الأحزاب مِنْ فَوْقِكُمْ أي من أعلى الوادي من جهة المشرق، وهم بنو غطفان، وأسد قائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن، ومعهم اليهود من قريظة والنضير. وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي من أسفل الوادي من قبل المغرب، وهم قريش وبنو كنانة، وأهل تهامة، وقائدهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف.
وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ أي واذكروا حين مالت أبصار المنافقين عن موضعها عن طريقها فلم تلتفت إلى العدو لكثرته وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي بلغت قلوب المنافقين بأن انتفخت عند منتهى الحلقوم من الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) أي ظن المخلصون أن الله تعالى ينجز وعده في إعلاء دينه أو يمتحنهم فخافوا الزلل
هُنالِكَ أي في ذلك الزمن الهائل والمكان الدحض ابْتُلِيَ

صفحة رقم 247

الْمُؤْمِنُونَ
، أي امتحنهم الله فتميز الصادق عن المنافق وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (١١)، أي حركوا تحريكا شديدا من الهول والفزع،
وكانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وسببها أنه لما وقع إجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم منهم سيدهم حيي بن أخطب إلى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا، وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد، ثم خرج أولئك اليهود حتى جاءوا غطفان، وقيس، وغيلان، فطلبوهم لحرب محمد، فأجابوهم، فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان، وخرجت غطفان وقائدهم عيينة بن حصن، فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقبالهم شرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بإشارة سلمان الفارسي، وكان النبي يقطع لكل عشرة أربعين ذراعا، فلما فرغوا من حفرة أقبلت قريش والقبائل وجملتهم اثنا عشر ألفا، فنزلوا حول المدينة حتى نزلوا إلى جانب أحد، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هناك عسكره والخندق بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء، فرفعوا في الآطام، فلما رأت قريش الخندق قالوا: هذه مكيدة لم تكن العرب تعرفها، فشرعوا يترامون مع المسلمين بالنبل، ومكثوا في ذلك الحصار أربعة وعشرين يوما فاشتد على المسلمين الخوف فبعث الله عليهم ريحا في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وقطعت أطنابهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأرسل الله الملائكة، فزلزلتهم ولم تقاتل بل نفثت في قلوبهم الرعب، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح قام فقال: يا معشر قريش ليستعرف كل منكم جليسه واحذروا الجواسيس. ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش والله إنكم لستم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا، فإني مرتحل. ووثب على جمله وشرع القوم يقولون الرحيل الرحيل والريح تقلبهم على بعض أمتعتهم وتضربهم بالحجارة ولم تجاوز عسكرهم ورحلوا وتركوا ما استثقلوه من متاعهم وحين انجلى الأحزاب قال صلّى الله عليه وسلّم: «الآن نغزوهم ولا يغزونا»
. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي ضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من إعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً (١٢)، أي إلا وعد غرور أي قال معتب بن قشير وأصحابه: يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر والحال أننا لا نقدر أن نخرج للغائط خوفا، وما هذا إلا وعد غرور. وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ هم أوس بن قيظي من رؤساء المنافقين وأتباعه.
وقال السدي: هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المطهرة لا مُقامَ لَكُمْ أي لا وجه لإقامتكم مع محمد فَارْجِعُوا عن محمد واتفقوا مع الأحزاب تخرجوا من الأحزان وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ أي يستأذن النبي في الرجوع إلى المدينة فريق من

صفحة رقم 248

المنافقين أوس بن قيظي، وأبو عرابة بن أوس من بني حارثة يَقُولُونَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لنا يا نبي الله بالرجوع إلى المدينة إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ، أي غير
حصينة نخاف عليها سرق السراق وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ أي والحال أن البيوت ليس فيها خلل إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً (١٣) أي ما يريدون بالاستئذان إلا فرار من القتل، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً (١٤) أي ولو دخل الأحزاب بيوتهم من جميع جوانبها، ثم سألهم الداخلون أو غيرهم الرجعة إلى الكفر لجاءوها.
وقرأ نافع وابن كثير «لأتوها» بقصر الهمزة، أي لفعلوها. والباقون بالمد، أي لأعطوها إجابة لسؤال من سألهم وما أخروا الردة إلا قدر ما يسع السؤال والجواب، أي لأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة نفوسهم به وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أي منهزمين من المشركين فإن بني حارثة هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله تعالى أن لا يعودوا لمثل ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (١٥) أي وكان ناقض عهد الله مسؤولا يوم القيامة عن نقضه قُلْ يا أشرف الخلق لبني حارثة: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لأنه لا بد لكل إنسان من الموت في وقت معين سبق به قضاء الله تعالى وجرى عليه القلم وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦)، أي ولو فررتم من الموت في يومكم مثلا لما دمتم ولما متعتم بعد الفرار إلا تمتيعا قليلا قُلْ يا أكرم الرسل لبني حارثة:
مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي من يمنعكم من مراد الله إن أراد بكم عذابا بالقتل أو أراد بكم نجاة من القتل وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) أي ليس لكم ولي يشفع لمحبته إياكم ولا نصير يدفع عنكم السوء إذا أتاكم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا، أي قد علم الله المانعين من الرجوع إلى الخندق والقائلين لأصحابهم المنافقين: قربوا أنفسكم إلينا أي وهم عند هذا القول خارجون من المعسكر، متوجهون نحو المدينة، وكان هؤلاء عبد الله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨) أي وهم لا يأتون القتال إلا زمانا قليلا رياء وسمعة، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بأبدانهم فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، أي فإذا جاء خوف العدو رأيت المنافقين في الخندق يا أشرف الخلق ينظرون إليك، تدور أعينهم في أحداقهم نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وحيزت الغنائم سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي غلبوكم بألسنة ذربة، وآذوكم بكلامهم يقولون: نحن الذين قاتلنا وبنا انتصرتم وكسرتم العدو، وقهرتم، ويطالبونكم بالقسم الأوفر من الغنيمة وكانوا من قبل راضين من الغنيمة بالأياب أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي حرصا على المال، ويقال: إنهم قليلو الخير في الحالتين كثير والشر في الوقتين، أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر لَمْ يُؤْمِنُوا بقلوبهم وإن

صفحة رقم 249
مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما، التناري بلدا
تحقيق
محمد أمين الضناوي
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1417
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية