
ووقع في كتاب مسلم أن الخلق ابتدئ يوم السبت، فهذا يخالف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية جميع الأشياء غير آدم، ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين السماء والأرض، لأن آدم لم يكن حينئذ مما بينهما، وقد تقدم القول في قوله: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بما فيه كفاية، وثُمَّ في هذا الموضع لترتيب الجمل لأن الاستواء كان بعد أن لم يكن، وهذا على المختار في معنى اسْتَوى ونفي «الشفاعة» محمول على أحد وجهين: إما عن الكفرة وإما نفي الشفعاء من ذاتهم على حد شفاعة الدنيا لأن شفاعة الآخرة إنما هي بعد إذن من الله تعالى.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٥]
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥)
الْأَمْرَ اسم جنس لجميع الأمور، والمعنى ينفذ الله تعالى قضاءه بجميع ما يشاؤه، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ خبر ذلك فِي يَوْمٍ من أيام الدنيا مِقْدارُهُ أن لو سير فيه السير المعروف من البشر أَلْفَ سَنَةٍ لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة سنة هذا أحد الأقوال، وهو قول مجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك، وقال مجاهد أيضا: إن المعنى أن الضمير في مِقْدارُهُ عائد على «التدبير»، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبرها البشر، وقال مجاهد أيضا المعنى أن الله تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا وهو اليوم عنده فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها، فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدة ثم تصير إليه آخرا لأن عاقبة الأمور إليه، وقيل المعنى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ في مدة الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ يوم القيامة ويوم القيامة مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ من عندنا وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لهوله وشنعته حسبما في سورة «سأل سائل» وسنذكر هنالك ما فيه من الأقوال والتأويل إن شاء الله، وحكى الطبري في هذه الآية عن بعضهم أنه قال قوله فِي يَوْمٍ إلى آخر الآية متعلق بقوله قبل هذا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة: ٤] ومتصل به أي أن تلك الستة كل واحد منها من ألف سنة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ضعيف مكرهة ألفاظ هذه الآية عليه رادة له الأحاديث التي بينت أيام خلق الله تعالى المخلوقات، وحكي أيضا عن ابن زيد عن بعض أهل العلم أن الضمير في مِقْدارُهُ عائد على العروج، والعروج الصعود، والمعارج الأدراج التي يصعد عليها، وقالت فرقة معنى الآية يدبر أمر الشمس في أنها تصعد وتنزل في يوم وذلك قدر ألف سنة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا أيضا ضعيف وظاهر عود الضمير في إِلَيْهِ على اسم الله تعالى كما قال ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: ٩٩] وكما قال «مهاجر إلى ربي»، وهذا كله بريء من التحيز، وقيل إن الضمير يعود على السَّماءِ لأنها قد تذكر، وقرأ جمهور الناس «تعدون» بالتاء، وقرأ الأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بالياء من تحت.
قوله عز وجل:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٦ الى ١١]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١)

قالت فرقة أراد ب الْغَيْبِ الآخرة، وب الشَّهادَةِ الدنيا، وقيل أراد ب الْغَيْبِ ما غاب عن المخلوقين وب الشَّهادَةِ ما شوهد من الأشياء فكأنه حصر بهذه الألفاظ جميع الأشياء، وقرأ جمهور الناس «خلقه» بفتح اللام على أنه فعل ماض، ومعنى أَحْسَنَ أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو لمقاصده التي أريد لها، ومن هذا المعنى ما قال ابن عباس وعكرمة: ليست است القرد بحسنة ولكنها متقنة محكمة، والجملة في خَلَقَهُ يحتمل أن تكون في موضع نصب صفة ل كُلَّ أو في موضع خفض صفة ل شَيْءٍ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «خلقه» بسكون اللام وذلك منصوب على المصدر، والضمير فيه إما عائد على الله تعالى وإما على المفعول، ويصح أن يكون بدلا من كُلَّ وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن أَحْسَنَ بمعنى ألهم، وأن هذه الآية بمعنى قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] أي ألهم الرجل إلى المرأة، والجمل إلى الناقة، وهذا قول فيه بعد ورجحه الطبري، وقرأ جمهور الناس «وبدأ»، وقرأ الزهري «وبدا خلق الإنسان» بألف دون همزة وبنصب القاف وذلك على البدل لا على التخفيف.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنه أبدل الياء من بدى ألفا، وبدى لغة الأنصار، وقال ابن رواحة:
[الرجز]
«بسم الإله وبه بدينا | ولو عبدنا غيره شقينا» |
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا | سلالة فرج كان غير حصين |