
البلاغة:
العدول عن الفعلية الى الاسمية:
في قوله «ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم» عدول عن الجملة الفعلية الى الجملة الاسمية لتقرير ثباتهم على نكس رءوسهم خجلا وحياء وخزيا عند ما تبدو مثالبهم وهناتهم بصورة دميمة شوهاء تبعث على الهزء بهم والسخرية منهم كأنما استمر ذلك منهم، لا يرتفع لهم رأس، ولا يمتد منهم طرف.
وكذلك عدل عن الفعلية الى الاسمية المؤكدة في قوله «إنا موقنون» أي انهم ثابتون على الإيقان راغبون فيه بعد أن ظهرت لهم المغاب منادية عليهم بالويل والثبور.
الفوائد:
التوكيد بأجمعين:
يجوز إذا أريد تقوية التوكيد أن يتبع كله بأجمع وكلها بجمعاء وكلهم بأجمعين وكلهن بجمع فتقول جاء الجنس كله أجمع والقبيلة كلها جمعاء والقوم كلهم أجمعون والنساء كلهن جمع، وقد يؤكد بهن وإن لم يتقدم كل نحو الآية المتقدمة وقوله «لأغوينهم أجمعين».
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)

الإعراب:
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ومن مبتدأ وجملة كان صلة واسمها مستتر تقديره هو ومؤمنا خبرها وكمن خبر من وجملة كان صلة من الثانية وفاسقا خبر كان وجملة لا يستوون مستأنفة لا موضع لها من الاعراب ويستوون فعل مضارع مرفوع وفاعل ومتعلقه محذوف أي في المآل، وروي أنه ﷺ كان يتعمّد الوقف على قوله فاسقا ثم يبتدىء بقوله لا يستوون.
قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: لا يستوون، لأجل معنى من، وقيل لكون الاثنين أقل الجمع. (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات معطوفة على الصلة داخلة في حيزها فلهم الفاء رابطة ولهم خبر مقدم وجنات المأوى مبتدأ مؤخر، والمأوى المكان تلجأ إليه ويقال المأواة والمأوي، ونزلا حال من جنات المأوى أي حالة كونها مهيأة ومعدة

لهم، والنزل بضمتين عطاء النازل ثم صار عاما فاستعماله بمعنى الفندق لا غبار عليه بل لعله أولى بالنسبة للفنادق الرفيعة لأن الفندق كقنفذ هو الخان كما في القاموس ويقال فيه الفنتق، قال ابن عباد هو خان السبيل لغة في الفندق وأنكره الخفاجي في شفاء الغليل قال شارح القاموس: «وهو- أي كلام الخفاجي- غير متجه فقد قال الفراء سمعت أعرابيا من قضاعة يقول فتق للفندق وهو الخان»، وبما صفة لنزلا وما مصدرية أو موصولية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) الواو عاطفة وأما شرطية تفصيلية كما تقدم والغالب تكريرها وسيرد في باب الفوائد إلماع إليها والذين مبتدأ وفسقوا صلة والفاء رابطة ومأواهم النار ابتداء وخبر والجملة خبر الذين.
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم القول في كلما كثيرا وأرادوا فعل وفاعل والجملة مستأنفة لبيان كيفية مأواهم فيها وأن وما في حيزها مفعول أرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا وجملة أعيدوا لا محل لها وفيها متعلقان بأعيدوا وقيل عطف على أعيدوا والواو نائب فاعل ولهم متعلقان بقيل وجملة ذوقوا عذاب النار مقول القول والذي صفة للعذاب وجملة كنتم صلة وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ونذيقنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بنذيقنهم والأدنى صفة للعذاب

والمراد بالأدنى عذاب الدنيا وما يستهدفون له من محن ونكبات، ودون ظرف زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال والعذاب مضاف إليه والأكبر نعت والمراد بالأكبر عذاب الآخرة ولعل واسمها وخبرها وجملة الترجي حالية والمراد بها ترجي المخاطبين كما قال سيبويه في تفسيرها. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال من قابل النعمة بالإعراض والإشاحة عنها ومن اسم استفهام معناه النفي مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة ذكر صلة لمن وبآيات ربه متعلقان بذكر وثم حرف عطف وتراخ وأعرض عطف على ذكر وعنها متعلقان بأعرض وسيأتي معنى التراخي في باب البلاغة وإنا ان واسمها ومن المجرمين متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن.
البلاغة:
١- ذكرنا فيما سبق أن لحروف العطف أسرارا لا يدركها إلا المبين، فلا يصح وضع بعضها موضع بعض للفوارق بينها، وكلمة «ثم» خاصة بالاستبعاد والتطاول في المدة وقد ناسب ذكرها في قوله «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها» لأن الإعراض عن الآيات مع غاية وضوحها وإشراقها مستبعد في حكم البداءة الثابتة وموازين العقول الراجحة. وقد رمق الشعراء سماء هذه البلاغة فقال جعفر بن علبة الحارثي فيما يرويه ديوان الحماسة:
ولا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة | يرى غمرات الموت ثم يزورها |
نقاسمهم أسيافنا شر قسمة | ففينا غواشيها وفيهم صدورها |
٢- في قوله «وأما الذين فسقوا فمأواهم النار» الآية، فن من فنون البديع لم يذكره أحد من الذين كتبوا في فنون البديع ما عدا ابن أبي الإصبع وهو الشماتة، وهو ذكر ما أصاب عدوك من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه وما يتخبط به من أهوال وإظهار اغتباطك بما أصابه شماتة به وتشفيا منه، وفي هذه الآية من ضروب التشفي والشماتة ما لا يخفى، وهو شائع في القرآن وفي الشعر ومنه قصيدة «فتح الفتوح» لأبي تمام. صفحة رقم 585