
وبعد أن ذكر حال المؤمنين المتواضعين ذكر جزاءهم بقوله:
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي فلا يعلم أحد عظيم ما أخفى لهم من النعيم واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد جزاء وفاقا بما كانوا يعملون من صالح الأعمال، أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
روى الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما أطلعتكم عليه، اقرءوا إن شئتم: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
وأخرج الفريابي وابن أبى شيبة وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: «إنه لمكتوب فى التوراة، لقد أعدّ الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب، ولا نبى مرسل، وإنه لفى القرآن: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) ».
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)

تفسير المفردات
أصل الفسق: الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها، ثم استعمل فى الخروج من الطاعة وأحكام الشرع مطلقا، فهو أعم من الكفر، وقد يخص به كما فى قوله: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» والمأوى: المسكن وأصل النزل: ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب والصلة، ثم أطلق على كل عطاء، والمراد به هنا الثواب والجزاء، الأدنى: أي الأقرب، والمراد به عذاب الدنيا، فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، وقد ابتلاهم الله بسنى جدب وقحط أهلكت الزرع والضرع، والعذاب الأكبر: عذاب يوم القيامة.
المعنى الجملي
لما بيّن حالى المجرمين والمؤمنين- عطف على ذلك سؤال العقلاء: هل يستوى الفريقان؟ وبين أنهما لا يستويان، ثم فصّل ذلك ببيان مآل كل منهما يوم القيامة.
الإيضاح
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ لا يَسْتَوُونَ) أي أفهذا الكافر المكذّب وعد الله ووعيده، المخالف أمره ونهيه، كهذا المؤمن بالله المصدّق وعده ووعيده، المطيع لأمره ونهيه- كلا- لا يستوون عند الله ولا يتعادل الكفار به والمؤمنون.
وخلاصة ذلك: أبعد ظهور ما بينهما من تفاوت بيّن يظن أن المؤمن الذي حكيت أوصافه كالكافر الذي ذكرت قبائح أعماله؟ كلا- إن الفضل بينهما لا يخفى على ذى عينين.
ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
وقوله:
«أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» وقوله: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ» الآية.

وبعد أن نفى استواءهما أتبعه بذكر حال كل منهما على سبيل التفصيل:
(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أما الذين صدّقوا الله ورسوله وعملوا صالح الأعمال- فلهم مساكن فيها البساتين والدور، والغرف العالية، جزاء لهم على جليل أعمالهم، وطيب أفعالهم التي كانوا يعملونها فى الدنيا.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي وأما الذين كفروا بالله، واجترموا الشرور والآثام، فمساكنهم التي يأوون إليها فى الآخرة، ويستريحون فيها هى النار، وبئس القرار.
وفى هذا ضرب من التهكم بهم، إذ جعلت النار ملجأ ومستراحا لهم يستريحون إليها، فهو كقوله: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ».
ثم بين حالهم فيها ونفورهم منها، فقال:
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) أي كلما شارفوا الخروج منها، وظنوا أنه قد تيسر لهم ذلك، وهم بعد فى غمراتها أعيدوا فيها، ودفعوا إلى قعرها.
روى أن لهب النار يضربهم فيرتفعون إلى أعلاها، حتى إذا قربوا من أبوابها، وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها- وهكذا يفعل بهم أبدا.
قال الفضيل بن عياض: والله إنّ الأيدى لموثقة، وإن اللهب ليرفعهم، والملائكة تقمعهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ:
(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي ذوقوا عذابها الذي كنتم تكذبون فى الدنيا أن الله قد أعده لأهل الشرك به.
ثم بين أن عذاب الآخرة له مقدمات فى الدنيا لأن الذنب مستوجب لنتائجه عاجلا وآجلا، فقال: