
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا | بَيْتاً دعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ |
لَعَمْرُكَ مَا أدْري وإِنِّي لأوجَلُ | على أيِّنا تغدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ «١» |
أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإِنَّني | قسماً إِليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ «٢» |
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أموت وإن أمت | فتلك سبيل لست فيها بأَوْحَدِ |
قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا سبب نزولها أن أهل الجاهلية كانوا يلبُّون فيقولون: لبَّيك لا شريك لك إِلا شريكاً هو لك تملكُه وما ملك، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. ومعنى الآية: بيَّن لكم أيها المشركون شَبَهاً، وذلك الشَّبه مِنْ أَنْفُسِكُمْ ثم بيّنه فقال: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي: من عبيدكم مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من المال والأهل والعبيد، أي: هل يشارككم عبيدكم في أموالكم فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ أي: أنتم وشركاؤكم من عبيدكم سواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: كما تخافون أمثالكم من الأحرار، وأقرباءكم كالآباء والأبناء؟ قال ابن عباس: تخافونهم أن يَرِثوكم كما يَرِث بعضكم بعضاً؟ وقال غيره: تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم كما يفعل الشركاء؟
والمعنى: هل يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويَه في التصرُّف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيرَه من الشركاء الأحرار؟، فاذا لم ترضَواْ ذلك لأنفسكم، فلم عَدَلتم بي من خَلْقي مَنْ هو مملوك لي؟! كَذلِكَ أي: كما بيَّنَّا هذا المَثَل نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ عن الله تعالى. ثم بيَّن أنَّهم إِنَّما اتَّبعوا الهوى في إِشراكهم، فقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا بالله أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وهذا يدل على أنهم إِنما أشركوا باضلال الله إِيَّاهم وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي: مانعين من عذاب الله تعالى.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣٨]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤)
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
(٢) البيت للأحوص.

قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ قال مقاتل: أخلص دينك الإِسلام لِلدِّينِ أي: للتوحيد. وقال أبو سليمان الدمشقي: استقم بدينك نحو الجهة التي وجّهك الله تعالى إِليها. وقال غيره: سدِّد عملك.
والوجه: ما يُتَوجَّه إِليه، وعمل الإِنسان ودينه: ما يتوجَّه إِليه لتسديده وإِقامته.
قوله تعالى: حَنِيفاً قال الزجاج: الحنيف: الذي يميل إِلى الشيء ولا يرجع عنه، كالحَنَف في الرِّجل، وهو ميلها إِلى خارجها خِلْقة، لا يقدر الأحنف أن يردّ حنفه، وقوله: فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب، بمعنى: اتَّبِع فطرةَ الله، لأن معنى «فأقم وجهك» : اتَّبِع الدِّين القيِّم، واتَّبع فطرة الله تعالى، أي: دين الله تعالى والفطرة: الخلقة التي خلق عليها البشر.
(١٠٩٩) وكذلك قوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» !، أي: على الإِيمان بالله تعالى. وقال مجاهد في قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها قال: الإِسلام، وكذلك قال قتادة. والذي أشار إِليه الزجاج أصح، وإِليه ذهب ابن قتيبة، فقال: فرقُ ما بيننا وبين أهل القَدَر في هذا الحديث، أن الفطرة عندهم: الإِسلام، والفطرة عندنا: الإقرار بالله عز وجل والمعرفة به، لا الإِسلام، ومعنى الفطرة: ابتداء الخلقة، فالكلّ أقرّوا حين قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١»، ولستَ واجداً أحداً إِلا وهو مُقِرّ بأنَّ له صانعاً ومدبِّراً وإِن عبد شيئاً دونه وسمَّاه بغير اسمه فمعنى الحديث: إِن كل مولود في العالَم على ذلك العهد وذلك الإِقرار الأول، وهو الفطرة، ثم يهوِّد اليهودُ أبناءهم، أي:
__________
(١) الأعراف: ١٧٢.

يعلِّمونهم ذلك، وليس الإِقرار الأول ممَّا يقع به حُكم ولا ثواب، وقد ذكر نحو هذا أبو بكر الأثرم، واستدل عليه بأن الناس أجمعوا على أنه لا يرث المسلُم الكافرَ، ولا الكافرُ المسلمَ، ثم أجمعوا على أن اليهوديَّ إِذا مات له ولد صغير ورثه، وكذلك النصراني، والمجوسي، ولو كان معنى الفطرة الإِسلام، ما ورثه إِلا المسلمون، ولا دفن إِلا معهم، وإِنما أراد بقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على تلك البداية التي أقرُّوا له فيها بالوحدانية حين أخذهم مِن صُلْب آدم، فمنهم من جحد ذلك بعد إِقراره. ومثل هذا الحديث حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال:
(١١٠٠) «قال الله عزّ وجلّ: إِني خَلقتُ عبادي حنفاء»، وذلك أنه لم يدعُهم يوم الميثاق إِلاَّ إِلى حرف واحد، فأجابوه.
قوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لفظه لفظ النفي، ومعناه النهي والتقدير: لا تبدّلوا خلق الله عزّ وجلّ، وفيه قولان: أحدهما: أنه خِصاء البهائم، قاله عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. والثاني: دين الله عز وجل، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والنخعي في آخرين، وعن ابن عباس وعكرمة كالقولين. قوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني التوحيد المستقيم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعني كفار مكة لا يَعْلَمُونَ توحيد الله عز وجلّ.
قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ قال الزجاج: زعم جميع النحويين أن معنى هذا: فأقيموا وجوهكم منيبين، لأنّ مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلّم تدخل معه فيها الأُمَّة، ومعنى «منيبين» : راجعين إِليه في كل ما أمر، فلا يخرجون عن شيء من أمره. وما بعد هذا قد سبق تفسيره «١» إِلى قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً وفيه قولان: أحدهما: أنه القحط، والرحمة: المطر. والثاني:
أنه البلاء، والرحمة: العافية، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ وهم المشركون. والمعنى: إنّ الكلّ يلتجئون إليه في
والحديث بتمامه بلفظ مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال ذات يوم في خطبة: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا كل مال نحلته عبدا، حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.
وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظان. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: رب! إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال: وأهل الجنة ثلاثة:
ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيف متعفف ذو عيال قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك».
ومعنى لا يخفى: لا يظهر ويقول أهل اللغة خفيت الشيء إذا أظهرته وأخفيته إذا سترته وكتمته.
__________
(١) البقرة: ٣، الأنعام: ١٥٩.