الكمال، في جميع الأوقات المتعاقبة، وقرن التسبيح بالتحميد على نعم الله وآلائه، والصلوات المفروضة الخمس بعض مظاهر التسبيح والتحميد لاشتمالها على ذلك. وقد استدل ابن عباس كما تقدم بهذه الآيات على بيان عدد الصلوات الخمس في القرآن.
وذلك دليل على الإيمان، وعلى فضل التسبيح والتحميد،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من قال حين يصبح: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. الآية، أدرك ما فاته في ليلته، ومن قال حين يمسي، أدرك ما فاته في يومه».
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ الآية».
٢- يتجلى كمال قدرة الله عزّ وجلّ ويثبت وجوده بتفرده بالخلق والإيجاد، والإعدام، والإحياء والإماتة، فهو سبحانه يخلق الأشياء المتقابلة أو المتضادة بعضها من بعض، فهو يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحيي الأرض بعد موتها أو يبسها، وكما أحيا الأرض بإخراج النبات بعد همودها، كذلك يحيي الناس بالبعث.
قال القرطبي: وفي هذا دليل على صحة القياس. أي أنه قاس إحياء الموتى من القبور على إحياء الأرض الميتة بالمطر الذي ينبت النبات الأخضر الزاهي.
بعض أدلة الوحدانية والقدرة والحشر
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٧]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
الإعراب:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ.. أَنْ خَلَقَكُمْ: في موضع رفع على الابتداء، والجار والمجرور قبلها خبرها، وتقديره: وخلقكم من تراب من آياته.
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ فيه محذوف مقدر تقديره: ومن آياته آية يريكم البرق فيها، فحذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه. ومن النحويين من يجعل تقديره: ومن آياته أن يريكم البرق، كالآيتين المتقدمتين: أَنْ خَلَقَكُمْ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ.
دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ جار ومجرور متعلق بمحذوف، إما صفة للنكرة أي دعاكم دعوة كائنة من الأرض، أو في موضع الحال من الكاف والميم في دَعاكُمْ. ولا يجوز أن يتعلق ب تَخْرُجُونَ لأن ما بعد إِذا لا يعمل فيما قبلها.
البلاغة:
خَوْفاً وطَمَعاً يَبْدَؤُا ويُعِيدُهُ بين كلّ منهما طباق.
دَعاكُمْ دَعْوَةً بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَمِنْ آياتِهِ آيات الله تعالى الدالة على قدرته. أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلكم
آدم من تراب. ثُمَّ إِذا هي للمفاجاة. أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ بَشَرٌ من دم ولحم تنتشرون في الأرض، تبتغون من فضل الله. مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً بأن خلق حواء من ضلع آدم، وسائر النساء من نطف الرجال والنساء، أو المعنى: أنهن خلقن من جنس الرجال، لا من جنس آخر. لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوها، فإن اتحاد الجنس علة للضم والاجتماع، والاختلاف سبب للتنافر. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً أي وجعل بين الرجال والنساء أو بين أفراد الجنس مودة ورحمة بواسطة الزواج، بخلاف سائر الحيوانات، تنظيما لأمر المعيشة، قال السّدّي:
المودة: المحبة، والرحمة: الشفقة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي إن في ذلك المذكور لآيات دالة على قدرة الله، لقوم يتفكرون في صنع الله تعالى، فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم من عربية وغير عربية. وَأَلْوانِكُمْ من بياض وسواد وغيرهما، وأنتم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، أو اختلاف في تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها وجمالها، بحيث وقع التمايز والتعارف. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي لدلالات على قدرته تعالى لذوي العقول وأولي العلم، لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن، كما قال تعالى:
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت ٢٩/ ٤٣].
مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ منامكم في زماني الليل والنهار، لاستراحة الجسد والنفس والفكر.
وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي طلبكم المعاش في الليل والنهار. لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم وتدبر واستبصار واعتبار. وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ أي إراءتكم بتقدير. (أن) كقول الشاعر:
ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى | وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي |
الْبَرْقَ شرارة كهربائية تظهر في الجو نتيجة احتكاك السحب، وينشأ عنها الرعد.
خَوْفاً للمسافر من الصواعق. وَطَمَعاً في الغيث للمقيم. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها، وإحياؤها يكون بالإنبات. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور. لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لدلالات على قدرته تعالى لقوم يتدبرون، يستعملون عقولهم في كيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.
بِأَمْرِهِ أي بإقامته لهما وإرادته قيامهما في موقعهما المعين من غير مقيم محسوس وجعل السماء من غير عمد ترونها. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة، فيقول: أيتها الموتى اخرجوا، أو بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أي تخرجون من القبور أحياء. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا صفحة رقم 67
وعبيدا. قانِتُونَ مطيعون منقادون لفعله فيهما، لا يمتنعون عليه. يَبْدَؤُا الْخَلْقَ خلق الناس. ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد هلاكهم. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي الإعادة أسهل عليه من البدء، بالنظر إلى مفهوم المخاطبين أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه، وإلا فهما عند الله تعالى سواء في السهولة. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العليا، وهي أنه لا إله إلّا الله، أي الوصف بالوحدانية الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه في السموات والأرض، يتصف به دلالة ونطقا. أو له الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة. وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر في ملكه الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال في خلقه على مقتضى حكمته.
سبب النزول: نزول الآية (٢٧) :
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ: أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: تعجب الكفار من إحياء الله الموتى، فنزلت: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ.
المناسبة:
بعد بيان الأمر بتنزيه الله تعالى عن جميع النقائص، واستحقاقه الحمد على خلق جميع الأشياء، وبيان قدرته على الإماتة والإحياء، ذكر هنا أدلة التوحيد والوجود والعظمة وكمال القدرة، والحجج المثبتة للبعث والإعادة، مبتدئا بدليل خلق الإنسان من تراب ثم بقاء النوع الإنساني بالتوالد، ثم خلق السموات والأرض ومشاهد الكون، واختلاف ألوان البشر ولغاتهم، ومنامهم بالليل واكتسابهم بالنهار، وتلك أوصاف تعرض للنفوس، ثم عوارض الكون من البرق والمطر والإنبات، ثم خضوع السماء والأرض لإرادته وإذعان الأموات لدعوته بالخروج أحياء من القبور، وأعقب كل ذلك بما هو كالنتيجة لما سبق، من تقرير كمال القدرة على بدء الخلق وإعادته واتصافه بالصفة العليا وهي الوحدانية وجميع الصفات الباهرة كالقدرة التامة والحكمة الشاملة.
التفسير والبيان:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي ومن آياته تعالى الدالة على عظمته وكمال قدرته على الخلق والإيجاد والإعدام والإفناء بدء خلق الإنسان، فخلق أباكم في الأصل من تراب، وجعل مصدر غذائكم من لحوم الحيوان والنبات من التراب، ثم بعد إنشائكم تعمرون الأرض وتتوزعون فيها لأغراض مختلفة من بناء المدائن والحصون، وزراعة الحقول، والاتّجار بالسفر في البلاد المختلفة لتحصيل الأرزاق، وكسب المعايش، وجمع الأموال، مع اختلاف المواهب والعقول والأفكار، والغنى والفقر، والسعادة والتعاسة.
روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود، وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك».
ثم ذكر الله تعالى طريق بقاء النوع الإنساني فقال:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي ومن آياته الدالة على قدرته ورحمته أن خلق النساء لكم من جنس الرجال، وجعل بدء خلق المرأة من جسد الرجل، ليتحقق الوفاق ويكتمل الأنس، وجعل بين الجنسين المودة أي المحبة، والرحمة أي الشفقة ليتعاون الجنسان على أعباء الحياة، وتدوم الأسرة على أقوى أساس وأتم نظام، ويتم السكن والاطمئنان والراحة والهدوء، فإن الرجل يمسك المرأة ويتعلق بها إما لمحبته لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما وغير ذلك.
إن في ذلك الخلق والإيجاد الأصلي من التراب، وجعل الأزواج من أنفس
الرجال، وتقوية الروابط بينهما بالمودة والمحبة والرحمة والرأفة لدلالة على الخالق الموجد والنعم المتفضل لمن تأمل وفكر في أسباب الحياة، وتحقيق النتائج، وبناء الروابط على وفق الحكمة والمصلحة، والنظام البديع.
فأبونا من تراب، وذريته من ماء، والماء من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات وخواص الأرض وكنوزها، ثم جعل الرابطة الزوجية بين الجنسين من تكوين واحد، وطباع واحدة، وغرائز متحدة، ليتحقق السكن إلى المرأة، ويتوافر الميل إليها، ويحدث الهدوء النفسي معها فإن النفس ميالة إلى ما يلائمها، وينسجم معها في الأغراض، نافرة مما يناقضها ويعاكسها في الجملة.
وقوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يفسره قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها، لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف ٧/ ١٨٩].
ثم ذكر الله تعالى أدلة أخرى على وجوده وربوبيته وتوحيده وقدرته من الكون العظيم وعظمة تكوين الإنسان، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته العظيمة ووجوده: خلقه السموات المرتفعة بدون عمد، المزينة بالكواكب والنجوم الثوابت والسيارات، وخلق الأرض بطبقاتها المترعة بالكنوز والمعادن والخيرات، المثبّتة بالجبال، المشتملة على الوديان والقفار، والبحار، والحيوان، والأشجار.
ولم يكن ذلك الكون فارغا من المخلوقات، وإنما أوجد فيه الأنس بالناس ذوي الجنسيات المتعددة، واللغات المختلفة، والألوان المتنوعة، والأصوات المتميزة، والسمات والهيئات والتقاطيع المتفاوتة كاختلاف البصمات وغير ذلك من حسن وجمال، وقبح وتفاوت بالرغم من كونهم من أصل واحد وأب واحد وأم واحدة. قال الله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة ٧٥/ ٤].
إن في ذلك المذكور لآيات دالة على تمام القدرة الإلهية لقوم ذوي عقول نافذة، وأفكار مبصرة، وعلوم نافعة تهديهم إلى الحق، وترشدهم إلى التفكير في المخلوقات، وتبين لهم أنها خلقت لحكمة بالغة، ومصلحة راقية، لا عبثا ولا فسادا.
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي ومن علامات قدرته ورحمته تعالى التمكين من الراحة من التعب، والهدوء والاستقرار بالليل، والحركة والسعي للرزق والنشاط المتتابع في النهار، إن في ذلك المذكور لدلالات وعبرا لقوم يسمعون سماع اتعاظ وتدبر، ووعي وتفهم للحجج، يؤدي بهم إلى القناعة والاعتقاد الجازم بأن الله قادر على بعث العالم وإعادته.
ثم ذكر الله تعالى أدلة من عوارض الأكوان وتقلبات الحياة، فقال:
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي ومن آياته الدالة أيضا على عظمة قدرته إراءتكم البرق، خوفا للمسافر وغيره من الصواعق المتلفة، وطمعا فيما تحبون من المطر المحتاج إليه لحياة الإنسان والحيوان والنبات، كما قال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الروم ٣٠/ ٢٤]، أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج ٢٢/ ٥].
إن في ذلك المذكور من الإحياء بعد الموت لبرهانا ساطعا دالا على البعث والمعاد وقيام الساعة، فإن الذي أحيا الأرض قادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ
إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ
أي ومن أدلة قدرته ووجوده تعالى قيام السماء بلا عمد، والأرض الكروية الدائرية القائمة في الفضاء بلا وتد، بل بإقامته وتدبيره وإحكامه وتصرفه، كما قال: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [الرعد ١٣/ ٢]، وقال: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحج ٢٢/ ٦٥]، وقال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر ٣٥/ ٤١].
ثم إنه تعالى يحفظ نظام هذا العالم حتى ينتهي أجل الدنيا، فإذا دعاكم الداعي حينئذ للخروج من قبوركم أحياء خرجتم، كما قال: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج ٧٠/ ٤٣]، وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء ١٧/ ٥٢]، وقال: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٣- ١٤]، وقال: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً، فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس ٣٦/ ٥٣].
والنتيجة الحتمية هي:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي ولله جميع من في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وهم جميعا خاضعون خاشعون لما يريد الله من موت أو حياة، وحركة أو سكون، طوعا أو كرها.
روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ قنوت في القرآن فهو الطاعة».
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي والله تعالى هو الذي بدأ خلق الإنسان من غير أصل سابق له، ثم يميته ويفنيه، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أيسر وأسهل عليه، بحسب تصور البشر المخاطبين وإدراكهم أن
الإعادة أسهل من البدء، وكل ما ذكر كان تقريبا لعقول الكفرة الجهلة منكري البعث، وإلا فالبدء والإعادة سواء في قدرة الله تعالى، فأهون بمعنى: هيّن لأنه ليس شيء أهون على الله من شيء.
أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقول الله تعالى: كذّبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [البقرة ٢/ ١١٦ ومواضع أخرى]، وأنا الأحد الصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص ١١٢/ ٣- ٤] ».
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي وله الصفة العليا الكاملة وهي تفرده بالوحدانية، أي أنه لا إله إلا الله، ولا ربّ غيره، واتصافه بكل صفات الكمال، وتنزهه عن جميع صفات النقصان، وليس كمثله شيء، فلا ندّ ولا شبيه ولا نظير له، وهو القوي في ملكه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، خلق فسوّى، وقدّر فهدى، يجري كل شيء في الوجود على وفق علمه وإرادته، ومقتضى حكمته، ونطق كل موجود بأنه الخالق الواحد القادر القاهر فوق عباده، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه.
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيات ستة أدلة على ربوبية الله تعالى ووحدانيته ونتيجة مقررة لها وهي:
١- الدليل الأول:
خلق أصل الإنسان من تراب، والفرع كالأصل. وقد خلق الله تعالى
الإنسان أولا، لا أنه خلقه حيوانا ثم جعله إنسانا، ثم زوده بعد الخلق بطاقات الإدراك والمعرفة والعلم والعقل، فأصبح هناك عقلاء ناطقون يتصرفون في قوام معايشهم، لم يخلقهم عبثا، وإنما لحكمة ورسالة معينة، ومن قدر على هذا فهو أهل للعبادة والتسبيح.
والتعبير بقوله: بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إشارة بقوله بَشَرٌ إلى القوة المدركة المغايرة للحيوان، وبقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المحركة، وكلاهما من التراب عجيب. وقد خصّ الله تعالى بالذكر عنصري التراب والماء، مع أن الإنسان مركب من العناصر الأربعة وهي التراب والماء والهواء والنار لأن الحاجة إلى الهواء والنار تكون بعد امتزاج الماء بالتراب، ولأن المحسوس من العناصر في الغالب هو التراب والماء «١».
٢- الدليل الثاني:
بقاء النوع الإنساني بالتوالد: دلّ قوله تعالى مِنْ أَنْفُسِكُمْ على أن الله خلق حواء من جسم آدم كما قال بعضهم، والصحيح كما قال الرازي: أن المراد منه من جنسكم، كما قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة ٩/ ١٢٨]، ويدل عليه قوله: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي أن السكن والألفة والاطمئنان لا تتحقق إلا بين متحدي الجنس «٢». وأحاط الله تعالى رباط الزوجية بما يكفل دوامه واستمراره، فجعل النساء موضع سكون قلبي واطمئنان للرجال، وجعل بين الزوجين مودة ورحمة أي محبة وشفقة، كما قال السدّي، وروي معناه عن ابن عباس قال: المودّة: حبّ الرجل امرأته، والرحمة: رحمته إياها أن يصيبها بسوء.
(٢) تفسير الرازي: ٢٥/ ١١٠
والخلاصة: أن الله تعالى حافظ على النوع الإنساني بأمرين: كون الزوج من جنس الرجل، وما تفضي إليه الجنسية وهو السكون إليه، فالجنسية توجب السكون، وأحاط السكون بأمرين: المودة والرحمة، والمودة تكون أولا ثم إنها تفضي إلى الرحمة لأن الإنسان يجد بين القرينين الزوجين من التراحم ما لا يجده بين ذوي الأرحام، وليس ذلك بمجرد الشهوة، فإنها قد تنتفي وتزول أو يعصف بها الغضب الكثير الوقوع، وتبقى الرحمة التي هي من الله تعالى، وبها يدفع الإنسان المكاره عن حرمه.
٣- الدليل الثالث:
دلائل الآفاق والأنفس: وأهمها خلق السموات والأرض، ثم اختلاف الكلام واللغات العديدة في العالم من عربية وغيرها، واختلاف الألوان من البياض والسواد والحمرة، واختلاف الأصوات والصور، ومقاطع الجلد وتقاسيم الوجه وغير ذلك، فلا تكاد ترى أحدا إلا وأنت تفرّق بينه وبين الآخر، وليست هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين، فلا بدّ من فاعل، ولا فاعل إلا الله تعالى. وهذا من أدلّ الأدلة على وجود المدبر البارئ.
٤- الدليل الرابع والخامس:
العرضيات الطارئة للإنسان: وهي النوم بالليل والحركة طلبا للرزق بالنهار، وإظهار البرق والرعد تخويفا من الصواعق، وطمعا في إنزال الغيث النافع، وإنزال المطر فعلا من السحاب لإحياء الزرع والشجر وإنبات النبات وتغذية منابع الماء ومصادر الثروة المائية.
٥- الدليل السادس:
إقامة السماء والأرض وإمساكهما بقدرته وتدبيره وحكمته، فيمسك تعالى السماء بغير عمد لمنافع الخلق، كيلا تسقط على الناس، ويحفظ الأرض الدائرة
المتحركة بأهلها من غير وتد، وفي حال من التوازن، دون تعارض ولا تصادم بينها وبين بقية الكواكب الثابتة والسيارة، حتى ينتهي أجل الدنيا، وحينئذ يحدث البعث، فإن الذي خلق هذه الأشياء قادر على أن يبعث المخلوقات من قبورهم، والمراد من قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ سرعة وجود ذلك من غير توقف ولا انتظار، كما يجيب الداعي المطاع مدعوّه.
٦- النتيجة المقررة لما سبق من إثبات الوحدانية التي هي الأصل الأول، وإثبات القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر: أن لله جميع من في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصرفا، كلّ له طائعون طاعة انقياد، وأن الله تعالى هو مبدئ الخلق وهو معيده مرة أخرى، كما قال: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج ٨٥/ ١٣]، والإعادة أمر هيّن على الله، والبدء والإعادة سواء في قدرة الله تعالى.
وإذ ثبتت القدرة العظمى لله في كل شيء، وثبتت الوحدانية، فلله الصفة العليا في السموات والأرض: وهي أنه لا إله إلا هو ولا ربّ غيره، وتلك صفة الوحدانية، وأنه متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقصان، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير، القوي الغالب الذي لا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه وتدبير خلقه، وما أراده جلّ وعزّ كان.
دعاء الأرق:
إن النوم بفضل الله وتيسيره كما قال: وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ
وقد روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قل: اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حيّ قيوم، يا حيّ يا قيوم أنم عيني، وأهدئ ليلي».
فالحمد لله الذي جعل راحة الإنسان بفضله وقدرته، لا بالطبيعة والعادة، فلولا إلقاء النوم على الإنسان ليلا أو نهارا، لما تمكن من متابعة جهده وعمله في النهار.