مِنْ قَبْلُ، فَأَنْ تَلْقَوْهُ بَدَلٌ مِنَ الْمَوْتِ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ، وَالْمُرَادُ لِقَاءَ أَسْبَابِ الْمَوْتِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: «فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» وَإِذَا رَأَى الْمَوْتَ لَمْ تَبْقَ بَعْدَهُ حَيَاةٌ، وَيُقْرَأُ: «تُلَاقُوهُ» وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ; لِأَنَّ مَا لَقِيكَ فَقَدْ لَقِيتَهُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاحِدٍ مِثْلُ سَافَرْتُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) : فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ صِفَةً لِرَسُولٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رَسُولٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «رُسُلٌ» نَكِرَةٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْمَعْرِفَةِ، وَمِنْ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَتْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الرُّسُلِ. أَفَإِنْ مَاتَ الْهَمْزَةُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِي مَوْضِعِهَا، وَالْفَاءُ تَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ الشَّرْطِ بِمَا قَبْلَهُ، وَقَالَ يُونُسُ: الْهَمْزَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَقُّهَا أَنْ تَدْخُلَ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: أَتَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ إِنْ مَاتَ ; لِأَنَّ الْغَرَضَ التَّنْبِيهُ أَوِ التَّوْبِيخُ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَشْرُوطِ، وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ الْحَقُّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّكَ لَوْ قَدَّمْتَ الْجَوَابَ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاءِ وَجْهٌ ; إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ أَتَزُورُنِي فَإِنْ زُرْتُكَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٤] وَالثَّانِي: أَنَّ الْهَمْزَةَ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَإِنْ لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ، وَقَدْ وَقَعَا فِي مَوْضِعِهِمَا، وَالْمَعْنَى يَتِمُّ بِدُخُولِ الْهَمْزَةِ عَلَى جُمْلَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ ; لِأَنَّهُمَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ.
(عَلَى أَعْقَابِكُمْ) : حَالٌ ; أَيْ رَاجِعِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) : أَنْ تَمُوتَ اسْمُ كَانَ، وَ «إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» الْخَبَرُ وَاللَّامُ لِلتَّبْيِينِ مُتَعَلِّقَةٌ بَكَانِ. وَقِيلَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ ; تَقْدِيرُهُ: الْمَوْتُ لِنَفْسٍ ; وَأَنْ تَمُوتَ تَبْيِينٌ لِلْمَحْذُوفِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ اللَّامُ بِتَمُوتَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيمِ الصِّلَةِ عَلَى الْمَوْصُولِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: التَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ نَفْسٌ لِتَمُوتَ، ثُمَّ قُدِّمَتِ اللَّامُ. (كِتَابًا) : مَصْدَرٌ أَيْ كَتَبَ ذَلِكَ كِتَابًا. (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا) : بِالْإِظْهَارِ عَلَى الْأَصْلِ، وَبِالْإِدْغَامِ لِتَقَارُبِهِمَا. (نُؤْتِهِ مِنْهَا) : مِثْلُ:
(يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [آلِ عِمْرَانَ: ٧٥] (وَسَنَجْزِي) : بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَالْمَعْنَى مَفْهُومٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَأَيِّنْ) : الْأَصْلُ فِيهِ «أَيْ» الَّتِي هِيَ بَعْضٌ مِنْ كُلٍّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهَا كَافُ التَّشْبِيهِ، وَصَارَ فِي مَعْنَى كَمِ الَّتِي لِلتَّكْثِيرِ ; كَمَا جُعِلَتِ الْكَافُ مَعَ ذَا فِي قَوْلِهِمْ «كَذَا» لِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَكَمَا أَنَّ مَعْنَى لَوْلَا بَعْدَ التَّرْكِيبِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا قَبْلَهُ، وَفِيهَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ كُلُّهَا قَدْ قُرِئَ بِهِ: فَالْمَشْهُورُ «كَأَيِّنْ» بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ وَهُوَ الْأَصْلُ.