إقرار المشركين بوجود الله، ولكن أكثر المشركين لا يتدبرون هذه الحجج، ولا يعون ما فيه النفع والمصلحة الحقيقية.
بيان حال الدنيا واضطراب أوضاع الكفار فيها
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٩]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
الإعراب:
لَهِيَ الْحَيَوانُ يجوز في هاء لَهِيَ الكسر والتسكين، فمن كسر أتى به على الأصل، ومن سكن حذف الكسرة تخفيفا، كما قالوا في كتف وكتف. والحيوان: أصله «الحييان» بياءين، إلا أنه لما اجتمعت ياءان متحركتان، استثقلوا اجتماعهما، فأبدلوا من الياء الثانية واوا كراهية لاجتماع ياءين متحركتين، وكان قلب الثانية أولى من الأولى لأن الثانية هي التي حصل التكرار بها.
وَلِيَتَمَتَّعُوا قرئ بكسر اللام وسكونها، وهي لام الأمر ومعناه التهديد، فمن قرأ بالكسر فعلى الأصل، ومن سكّن فعلى التخفيف، كما قالوا في «كتف كتف».
البلاغة:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ تشبيه بليغ أي كاللهو واللعب، حذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.
حَرَماً آمِناً مجاز عقلي، أي آمنا أهله.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إيجاز بحذف جواب الشرط، أي لو علموا لما آثروا الدنيا على الآخرة.
يَعْلَمُونَ يُشْرِكُونَ يَكْفُرُونَ فيها مراعاة الفواصل، ذات الإيقاع والتأثير على السمع.
المفردات اللغوية:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تهوين وتحقير، لأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة.
لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي كلهو الصبيان ولعبهم، يبتهجون ساعة ثم يتفرقون متعبين، وأما الطاعات والقرب فمن أمور الآخرة، لظهور ثمرتها فيها. واللهو: الاستمتاع بالملذات، واللعب: هو العبث وما لا فائدة فيها. لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية التامة التي لا فناء فيها. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ تلك الحقيقة ما آثروا الدنيا عليها.
الْفُلْكِ السفينة السائرة في البحر. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء، أي لا يدعون معه غيره، لأنهم في شدة لا يكشفها إلا الله، فيظهرون في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، فلا يذكرون إلا الله، ولا يدعون سواه. إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجؤوا المعاودة إلى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام «كي» أي يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة وكذلك اللام في: وَلِيَتَمَتَّعُوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها، أي قاصدين التمتع بها والتلذذ، لا غير، أي أن هذه اللام لام التعليل في تقدير الله، ولام العاقبة بالنسبة إليهم.
ويصح أن تكون اللام في الفعلين المذكورين لام الأمر، وهو أمر تهديد فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا، يعني أهل مكة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي جعلنا بلدهم مكة مصونا من النهب والتعدي، آمنا أهله من القتل والسبي. وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختلسون قتلا وسبيا، وهم في أمان. أَفَبِالْباطِلِ أي بعد هذه النعمة الواضحة وغيرها مما لا يقدر عليه إلا الله يؤمنون بالصنم أو الشيطان. وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله فَبِالْباطِلِ وبِنِعْمَةِ اللَّهِ للاهتمام أو الاختصاص على طريق المبالغة.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد. مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له شريكا. أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أي كذب بالنبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو القرآن. وقوله لَمَّا فيه تسفيه لهم بأن لم يتوقفوا، ولم يتأملوا قط حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مأوى، والاستفهام تقرير لثوائهم، أي ألا يستوجبون الثواء في جهنم، وقد افتروا مثل هذا
الكذب على الله وكذبوا بالحق!! وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا أي في حقنا، والجهاد يعم أنواع الجهاد الظاهرة والباطنة لكل الأعداء. لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا طريق السير إلينا أو لنزيدنهم هداية إلى سبيل الخير وتوفيقا لسلوكها. وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي المؤمنين بالنصر والعون.
سبب النزول: نزول الآية (٦٧) :
أَوَلَمْ يَرَوْا.. أخرج جويبر عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد، ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا، والأعراب أكثر منا، فمتى ما يبلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا، فكنا أكلة رأس، فأنزل الله:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً.
المناسبة:
بعد بيان كون المشركين يعترفون بأن الله هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي، وهم مع ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء حرصا على زينة الحياة الدنيا ومكاسبها المادية، أوضح الله تعالى أن ما يميلون إليه وهو الدنيا ليس بشيء، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقة التامة التي تستحق الحرص عليها والعمل من أجلها، فلو كان عندهم شيء من العلم ما آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية.
ثم أبان الله تعالى أحوال تخبطهم وتناقضهم، فهم مع شركهم بربهم في الدعاء والعبادة إذا تعرضوا لمحنة أو شدة، رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، ولجؤوا إلى الله وحده، وأخلصوا له النية والدعاء لتخليصهم من الشدة، وتلك نعمة عظمي.
ثم ذكّرهم تعالى بنعمة أخرى تتناسب مع حال الخوف الشديد، وهي حالهم عند الأمن العظيم وهي كونهم في مكة بلدهم ومولدهم ومسكنهم البلد الآمن الحرام، بتحصين الله أمنها، ودفع الشرور عن سكانها، لكنهم نفعيون متناقضون
جاحدون النعمة في الحالتين: نعمة النجاة ونعمة الأمن في بلدهم، فاستحقوا اللوم والتعنيف، إذ أنهم في أخوف ما كانوا، يدعون الله، وفي آمن ما حصلوا عليه من الأمن السكني، يكفرون بالله، فكيف يكفرون بالله حين الأمن. ويؤمنون به حال الخوف؟!
التفسير والبيان:
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يقارن الله تعالى بين الدنيا والآخرة، ويخبر بأن الحياة الدنيا حقيرة زائلة لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو يتلهى به، ولعب يتسلى به، وأما الآخرة فهي دار الحياة الدائمة التي لا تزول ولا تنقضي، بل هي مستمرة أبد الآباد، فلو علموا ذلك لآثروا ما يبقى على ما يفنى.
والفرق بين اللهو واللعب: أن اللعب إقبال على الباطل، واللهو: إعراض عن الحق. وليس المراد بالحيوان: الشيء النامي المدرك، وإنما الحيوان مصدر حي كالحياة، لكن فيها مبالغة ليست في الحياة.
ثم يخبر الله تعالى عن حال المشركين حين الترفع عن الدنيا ووقت التعرض للمحنة والشدة، فيقول:
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي إن المشركين عند الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، فهلا يكون هذا منهم دائما؟! فتراهم إذا ركبوا في السفينة، وأحدق بهم الغرق، دعوا الله وحده، مفردين إياه بالطاعة، مخلصين له النية، صادقين في اتجاههم إلى الله، فإذا تحقق لهم الأمن والنجاة من الهلاك، عادوا إلى شركهم، ودعوا الآلهة المزعومة كافرين بنعمة النجاة.
ونحو الاية قوله تعالى: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء ١٧/ ٦٧] وهذا دليل على أن معرفة الله في فطرة كل إنسان.
ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، ذهب فارّا منها، فلما ركب في البحر، ليذهب إلى الحبشة، اضطربت بهم السفينة، فقال أهلها: يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا ينجي هاهنا إلا هو، فقال عكرمة: والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره، فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره، اللهم لك علي عهد لئن خرجت لأذهبنّ، فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنّه رؤفا رحيما، فكان كذلك».
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ اللام لام العاقبة أو الصيرورة، أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفر بنعمة النجاة، والتمتع بالاجتماع على عبادة الأصنام، وعقد الروابط بسببها، ولكنهم سوف يعلمون عاقبة فعلهم هذا، وسيجازون الجزاء الوفاق على أعمالهم. وهذا وصف لسوء ما يترتب على شركهم، وتهديد ووعيد على بقائهم على كفرهم.
ويصح أن تكون اللام لام الأمر، ويكون المعنى التهديد أي: ليكفروا، كما قال تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠] وقال: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الزمر ٣٩/ ٣٩] فساد ما تعملون.
ثم وصف الله تعالى تناقض المشركين إذ يلجأون إلى الله وحده مخلصين له الدعاء وقت الشدة، ويكفرون بالله ويشركون به حين الأمن في بلدهم مكة، فقال:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ، وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ؟! أي أولم يعلم هؤلاء المشركون ما أنعمنا به عليهم من إسكانهم في بلد حرام آمن وهو مكة، لا يتعرضون فيه لقتل وسبي
وخطف، فيشكروا الله على هذه النعمة، وهذا امتنان على قريش بما أحلهم من حرم الله الآمن، كما قال سبحانه: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش ١٠٦/ ٤].
ولكن عجبا لهم أنهم قابلوا الشكر بالكفر، أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله؟! فكان اللائق بهم إخلاص العبادة لله، وألا يشركوا به، وأن يصدّقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه.
وبعد بيان حالهم العجيبة وتناقضهم، أبان الله تعالى أنهم قوم أظلم من يكون، فقال:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ؟ أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله بالشرك وتكذيب كتابه ورسوله وقوله: إن الله أوحى إليه، ولم يوح إليه شيء، أو قوله إذا فعل فاحشة: إن الله أمر بها، والله لا يأمر بالفحشاء، ألا يستوجب هؤلاء المشركون من أهل مكة وأمثالهم المقام في جهنم؟
وهذا تسفيه آرائهم وتقريع لهم، وتبيين سوء مصيرهم، بطريق الاستفهام التقريري الذي هو أبلغ في إثبات العقاب المنتظر لهم.
وبعد بيان عاقبة الكافرين، أبان الله تعالى عاقبة المؤمنين فقال:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي من جاهد بالطاعة، ونصر دين الله، وقاتل أعداء الله المكذبين بكتابه ورسوله، هداه الله ووفقه إلى طريق الجنة وطريق السعادة والخير في الدنيا والآخرة، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد ٤٧/ ١٧]
وجاء في الحديث الثابت: «من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم».
والله مع المحسنين أعمالهم بالنصرة والإعانة، والتأييد والحفظ والرعاية والتوفيق، روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام:
«إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك».
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- الحياة الدنيا بما فيها من المال والجاه والملبس ملهاة وملعب، أو شيء يلهى به ويلعب، وليس ما أعطاه الله الأغنياء من الدنيا إلا وهو يضمحل ويزول، كاللعب الذي لا حقيقة له ولا ثبات.
٢- ما يعمل في الدنيا لله من القرب والطاعات هو من الآخرة، وهو الذي يبقى، كما قال تعالى: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن ٥٥/ ٢٧] أي يبقى ما ابتغي به ثواب الله ورضاه.
٣- إن الدار الآخرة هي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا موت فيها، وهي الحياة الصحيحة، فلا حياة إلا حياة الآخرة، وعبّر عنها بالحيوان: وهو الحياة، لأن فيها مبالغة ليست في الحياة.
٤- المشركون قوم متناقضون، فتراهم في وقت الشدة المستعصية، كما إذا ركبوا في السفن وخافوا الغرق، يدعون الله صادقين في نياتهم، ويتركون دعاء الأصنام وعبادتها، فإذا وصلوا إلى بر الأمان دعوا معه غيره، وما لم ينزل به سلطانا أو حجة، وما لا حقيقة لألوهيته أصلا، فهم يشركون في البر، ولا يشركون في البحر.
٥- إن عاقبة الشرك أو ثمرته أن يجحد المشركون نعم الله ويتمتعوا بالدنيا،
والله يهددهم ويوعدهم ويقول لهم: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة والنجاة من البحر وتمتعوا.
٦- جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧] وتلك نعمة تستحق الشكر والحمد لله والإذعان له بالطاعة، لا سيما إذا قورنت مكة بما عليه أحوال أهل البلاد الأخرى المجاورة، حيث يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، ويغار بعضهم على بعض.
ولكن المشركين كما تقدم تتناقض أحوالهم، فهم بالشرك أو بإبليس يؤمنون وبنعمة الله وعطائه وإحسانه يكفرون ويجحدون.
٧- لا أحد أظلم ممن جعل مع الله شريكا وولدا، وإذا فعل فاحشة قال:
وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف ٧/ ٢٨] وكذّب بالقرآن أو بتوحيد الله، وأنكر رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وعاقبتهم الثّواء في نار جهنم.
٨- إن المجاهدين جهادا عاما في دين الله وطلب مرضاته يوفقهم ربهم إلى سبل الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «إنما قصّر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا» قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ٢٨٢].
قال ابن عطية في آية: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا: هي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.
وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.
٩- إن الله لمع المحسنين بالنصرة والمعونة، والحفظ والهداية، ومع جميع الناس بالإحاطة والقدرة. فتكون فائدة المجاهدين في طاعة الله أمرين: التوفيق للخير والإيمان والسعادة، والعون والتأييد والحفظ.
صفحة رقم 41
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الروممكية، وهي ستون آية.
تسميتها:
سميت سورة الروم لافتتاحها بخبر غلبة الروم، والإخبار عن نصرهم بعدئذ في بضع سنين، وتلك إحدى معجزات القرآن العظيم بالإخبار عن المغيبات في المستقبل ووقوع الشيء كما أخبر به.
موضوعها:
هو موضوع سائر السور المكية التي تبحث في أصول العقيدة الإسلامية وهي التوحيد وصفات الله تعالى، والإيمان بالرسالة النبوية، وبالبعث والجزاء في الآخرة.
مناسبتها لما قبلها:
تتشابه سورة الروم وسورة العنكبوت التي قبلها في المطلع، فإن كلا منهما افتتح ب الم غير مقرون بذكر التنزيل والكتاب والقرآن، على خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح بالحروف المقطعة، فإنها كلها قرنت بذلك إلا هاتين السورتين وسورة القلم. وقد ذكر في أول هذه السورة ما هو معجزة وهو الإخبار عن الغيب، فقدمت هذه الحروف الهجائية لتنبيه السامع والإقبال بقلبه وعقله وروحه على الاستماع. صفحة رقم 42
وهناك تشابه آخر بين السورتين من وجوه ثلاثة:
الأول- إن السورة السابقة بدئت بالجهاد وختمت به: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وبدئت هذه السورة بوعد المؤمنين بالغلبة والنصر، وهم يجاهدون في سبيل الله تعالى.
الثاني- إن الاستدلال في هذه السورة على أصول الاعتقاد وأهمها التوحيد جاء مفصلا للمجمل في السورة السابقة مثل قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [١٩] فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [٢٠].
الثالث- ترتب على التفرقة بين المشركين وأهل الكتاب في السورة المتقدمة أن أبغض المشركون أهل الكتاب، وتركوا مراجعتهم في الأمور، وكانوا من قبل يراجعونهم في الأمور، وسبب البغضاء أن المشركين في جدالهم نسبوا إلى عدم العقل: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [٦٣] وطلب مجادلة أهل الكتاب بالحسنى وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [٤٦] وكان أهل الكتاب يوافقون النبي في الإله، كما قال تعالى: وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [٤٦].
فلما غلب أهل الكتاب حين قاتلهم الفرس المجوس، فرح المشركون بذلك، فأنزل الله تعالى أوائل سورة الروم لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق، وإنما قد يريد الله تعالى مزيد ثواب في المحب، فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار للمعادي تعجيل العذاب الأدنى، دون العذاب الأكبر يوم القيامة.
مشتملات السورة:
افتتحت السورة بإثبات النبوة بالإخبار بالغيب، وهو انتصار الروم على الفرس في حرب تقع بينهما في غضون بضع سنوات (من ٣- ٩ سنوات) ووقع الخبر كما أخبر القرآن، وتلك معجزة القرآن تثبت صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتتضمن البشارة بنصر جند الرحمن على حزب الشيطان.
ثم ذكرت أدلة الوحدانية وعظمة القدرة الإلهية بالتأمل في صفحة الكون والنظر في خلق السموات والأرض، والاعتبار بمأساة المكذبين الغابرين وعاقبتهم السيئة، وأردف بعدها أدلة البعث، والأمر بعبادة الله وحده، وذلك مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها.
ونوقش فيها المشركون وضربت لهم الأمثال في أن الشركاء ضعفاء عاجزون لا يملكون لأنفسهم يوم القيامة نفعا، ولا يتمكنون دفع الضر عن أحد، ولا يستطيعون خلق شيء وإيجاده ولا إمداد أحد بالرزق. وكشف القرآن حقيقة حال المشركين كما ذكر في السورة المتقدمة وهي لجوءهم إلى الله وقت الضر، وإشراكهم به وقت الرخاء، وأميط اللثام عن طبيعة الإنسان وهي الفرح بالنعمة، والقنوط حين الشدة إلا من آمن وعمل صالحا.
ونهى الله تعالى عن اتباع المشركين وغيرهم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ثم أمر تعالى بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل، واجتناب أكل الربا، وتنمية المال بوجوه الحلال وتطهيره بالزكاة.
ثم قارنت السورة بين مصير المؤمنين في روضات الجنان فضلا من الله تعالى، ومصير الكافرين في نيران الجحيم جزاء أعمالهم وكفرهم، وحينئذ تظهر فائدة الإيمان والخير، وظلام الكفر والشر.
وأعقب ذلك إيراد بعض الأدلة الكونية الناطقة بقدرة الله والدالة على وحدانيته من إرسال الرياح مبشرات بالرحمة، وتسيير السفن في البحار، وتمكين المسافرين من التجارة وابتغاء فضل الله في أقطار الأرض، والدلائل الملحوظة في الأنفس من خلق ثم رزق، ثم إماتة، ثم إحياء.
وختمت السورة بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن إعراض قومه عن الإيمان برسالته بأنهم أغلقوا منافذ الهداية، وعطلوا طاقات الفكر والعقل عن النظر في وسائل