
والخلاصة: أن اْقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله، وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه، مما هم معترفون بأنه خلقه.
قال بعضهم (١): قد ذكر الله تعالى آية الرزق، ثم آية التوحيد، ثم كررهما في صورتين أخريين، تنبيهًا منه لعباده المؤمنين على أنه سبحانه لا يقطع أرزاق الكفار، مع وجود الكفر والمعاصي، فكيف يقطع أرزاق المؤمنين مع وجود الإيمان والطاعات، وأنه سبحانه لا يسأل من العباد إلا التوحيد والتقوى والتوكل، فإنما الرزق على الله الكريم، وقد قدر مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وما قدر في الخلق والرزق والأجل لا يتبدل بقصد القاصدين، ألا ترى إلى الوحوش والطيور، لا تدخر شيئًا إلى الغد، تغدو خماصًا، وتروح بطانًا؛ أي: ممتلئة البطون والحواصل، لاتكالها على الله تعالى، بما وصل إلى قلوبها من نور معرفة خالقها، فكيف يهتم الإنسان لأجل رزقه، ويدخر شيئًا لغده، ولا يعرف حقيقة رزقه وأجله، فربما يأكل ذخيرته غيره، ويصل إلى غده، ولذلك كان - ﷺ - لا يدخر لغد إذ الأرزاق مجددة كالأنفاس المجددة في كل لمحة، والرزق يطلب الرجل كما يطلبه أجله. انتهى.
٦٤ - ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا، وأنها من جنس اللعب واللهو، وأن الدار على الحقيقة هي دار الآخرة فقال: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ إشارة تحقير للدنيا، وكيف لا وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، قال الإِمام الراغب: الحياة (٢) باعتبار الدنيا والآخرة ضربان: الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، فهي إشارة إلى أن الحياة الدنيا بمعنى الحياة الأولى بقرينة المقابلة بالآخرة، فإنه قد يعبر بالأدنى عن الأول المقابل للآخر، والمراد بالحياة الأولى ما قبل الموت، لدنوه؛ أي: لقربه، وبالآخرة: ما بعد الموت لتأخره.
﴿إِلَّا لَهْوٌ﴾ أي: إعراض عن الآخرة ﴿وَلَعِبٌ﴾؛ أي: شغل بما لا يعني ولا يهم، قال الرازي: اللهو: هو الإعراض عن الحق بالكلية، واللعب: الإقبال
(٢) روح البيان.

على الباطل اهـ.
وقيل (١): اللهو: الاشتغال بما فيه نفع عاجل، واللعب: الاشتغال بما لا نفع فيه أصلًا.
وقيل: اللهو: هو الاستمتاع بلذات الدنيا، وقيل: هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه، واللعب: هو العبث، فاللهو: كل ما يشغل الإنسان عما يهمه ويعنيه، والملاهي: آلة اللهو، ويقال: لعب فلان: إذا لم يقصد بفعله مقصدًا صحيحًا؛ أي: إن (٢) الدنيا سريعة الزوال، فالاشتغال بلذاتها كاشتغال الصبيان بلهوهم وعبثهم، فإنهم يجتمعون عليه، ويفرحون به ساعةً، ثم يتفرقون عنه، فالإعراض عن الحق لهو، والإقبال على الباطل لعب.
وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أن هذه الحياة التي يعيش بها المرء في الدنيا، بالنسبة إلى الحياة التي يعيش بها أهل الآخرة في الآخرة، وجوار الحق تعالى لهو ولعب، وإنما شبها باللهو واللعب لمعنيين:
أحدهما: أن أمر اللهو واللعب سريع الانقضاء، لا يداوم عليه؛ فالمعنى: أن الدنيا وزينتها، وشهواتها لظل زائل، لا يكون لها بقاء، فلا تصلح لاطمئنان القلب بها، والركون إليها.
والثاني: أن اللهو واللعب من شأن الصبيان والسفهاء، دون العقلاء وذوي الأحلام، ولهذا كان النبي - ﷺ - يقول: "ما أنا من ددٍ ولا الدد مني". والدد: اللهو واللعب، فالعاقل يصون نفسه منه. انتهى.
قال في "كشف الأسرار": فإن قيل: لما سماها لهوًا ولعبًا، وقد خلقها لحكمةٍ ومصلحةٍ؟
قلنا: إنه سبحانه بني الخطاب على الأعم الأغلب، وذلك أن غرض أكثر الناس من الدنيا اللهو واللعب. انتهى.
(٢) المراح.

وورد في الخبر النبويّ، حين سُئل عن الدنيا، فقال: "دنياك ما يشغلك عن ربك". قيل: الشر (١) كله في بيت واحد، ومفتاحه حب الدنيا. وما أحسن من شبهها بخيال الظل حيث قال:
رَأَيْتُ خَيَالَ الظِّلِّ أَعْظَمَ عِبْرَةٍ | لِمَنْ كَانَ فِيْ عِلْمِ الْحَقَائِقِ رَاقِيْ |
شُخُوْصٌ وَأَصْوَاتٌ يُخَالِفُ بَعْضُهَا | لِبَعْضٍ وَأَشْكَالٌ بِغَيْرِ وِفَاقٍ |
تَمُرُّ وَتَقْضِي أَوْبَةً بَعْدَ أَوْبَةٍ | وَتَفْنَى جَمِيْعًا وَالْمُحَرِّكُ بَاقِيْ |
تَرُوْحُ لَنَا الدُّنْيَا بِغَيْرِ الَّذِيْ غَدَتْ | وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الأمُوْرِ أُمُوْرُ |
وَتَجْرِيْ الليَالي بِاجْتِمَاعٍ وَفِرْقَةٍ | وَتَطْلُعُ فِيْهَا أَنْجُمٌ وَتَغُوْرُ |
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الدَّهْرَ بَاقٍ سُرُوْرُهُ | فَذَاكَ مُحَالٌ لَا يَدُوْمُ سُرُوْرُ |
عَفَا الله عَمَّنْ صَيَّرَ الْهَمَّ وَاحِدًا | وَأَيْقَنَ أنَّ الدَّائِرَاتِ تَدُوْرُ |
وقيل المعنى (٢): وإن الدار الآخرة لهي الحياة الدائمة الخالدة، التي لا موت ولا فناء فيها، ذهب المفسرون إلى أن معنى الحيوان هنا: الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة، فيكون كالنزوان، والغليان، واللهيان، والجولان، والطوفان، وقد قيل في شأن الدنيا:
أَحْلاَمُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ | إِنَّ اللَّبِيْبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ |
(٢) الخازن.