آيات من القرآن الكريم

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﰿ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ

لك غنى عنه. التاسعة هجرة كل ما نهى الله عنه، فلا يحل لمسلم أن يقرب شيئا حرمه الله أو ينهى عن شيء أحلّه، لما جاء في الحديث الشريف المار آنفا من أن الهجرة إذا كانت لله ورسوله يثاب عليها، وفيها الأجر العظيم والخير الجزيل والرضاء من الله ورسوله، وإذا كانت على العكس فلا ثواب فيها، ولا تسمى هجرة شرعية، كمن ذهب للحج بقصد التجارة فقط، وكذلك من جاهد لأجل الغنيمة، ومن تزوج بقصد الولد، أي من قصد الحج والتجارة معا وإعلاء كلمة الله والغنيمة وكسر شهوة النفس وحفظها من الحرام مع الولد، فالله أكرم من أن لا يثيبه، قال صلّى الله عليه وسلم ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا، وإنما خيركم من أخذ من هذه وهذه. وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: أيها الناس ليس من شيء يقاربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا وقد أمرتكم به، وليس من شيء يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا وقد نهيتكم عنه، ألا وإن الروح الأمين نفث في روعي [بضم الراء القلب والعقل، وبفتحها الخوف، قال تعالى (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) الآية ٧٥ من سورة هود المارة، والمراد هنا الأول] أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته. وروى الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. أي تذهب أول النهار صباحا ضامرة البطون وترجع آخره شباعا ممتلئتها، ولا تدخر شيئا لغد. هذا ما جاء في أمر الهجرة، وسنتم قصّتها بعد تفسير المطففين الآتية إن شاء الله، لأنها وقعت بعدها.
قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» في منافع خلقه وهي حركتها بانتظام بديع «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» لأنهم يعلمون أن آلهتهم عاجزة عن حفظ نفسها، فضلا عن الخلق والتسخير، ولكنهم عنادا وعتوا يعبدونها تقليدا لفعل آبائهم الضالين، فقل لهم يا سيد الرسل بعد اعترافهم بذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» ٦١ وينصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان التي لم تخلق ولم ترزق، وقد أشار جل شأنه

صفحة رقم 503

بخلق السموات والأرض إلى اتحاد الذات، وبتسخير الشمس والقمر إلى اتحاد الصفات، ولما كان كمال الخلق ببقائه وبقاؤه بالرزق، والله تعالى هو المتفضل به. قال «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» فيوسعه عليهم إحسانا منه وكرما عليهم ولطفا بهم، وهو ذو الطول والامتنان والعطف «وَيَقْدِرُ لَهُ» يضيق على من يشاء بمقتضى حكمته وسابق تقديره، ولما كان هذا موجبا لاعتراض بعض الجهلة بين العلة لهم بقوله «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ٦٢ فيوسع لمن يعلم أن صالحه بالرزق، ولو لم يرزقه لكفر، ويضيق على من يعلم أن صالحه في الضيق، ولو أغناه لبغى، وان يفعل كلّا لكل بوقته حسب حكمته، فقد جاء بالحديث القدسي: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، راجع الآية ٢٥ من سورة لقمان والآية ٢٧ من سورة الشورى المارتين، والأخرى ان الله تعالى لا يسأل مما يفعل. قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» فعل ذلك كله «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» يا خاتم الرسل على إظهار الحجة عليهم باعترافهم. ثم نعى عليهم جهلهم بقوله «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» ٦٣ ما يقولون ولا يفهمون ما يفعلون ولا يفقهون ما يريدون، وفي هذه الآية دلالة على بطلان الشرك وإثبات التوحيد، وفي الإضراب ببل إيذان بالإعراض عن جهلهم الخاص بالإتيان بما هو حجة عليهم باعترافهم، لأنهم مسلوبو العقل، فلا يبعد عنهم مثله.
مطلب حقارة الدنيا والتعريض للجهاد:
قال تعالى «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ» اللهو الاستماع الذات والاشتغال بما لا يعني، واللعب العبث، أي أنها عبارة عن لعب ساعة بين الأولاد، ثم ينصرفون عنها لدورهم، وهكذا الدنيا يلهون بها أهلها مدة ويتركونها بالموت، والآية تشير إلى تصغيرها والازدراء بها، لأنها عبارة عن قضاء نهمتهم فيها مدة قصيرة وهي بما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، والآية جاءت كضرب المثل في سرعة زوالها، وتقلّبهم فيها وفراقهم لها. أخرج الترمذي عن سهل بن سعد

صفحة رقم 504

قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء. وقال بعض العارفين الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب بيد مجذوم. وإذا كانت هي حقيرة لهذه الدرجة فليعلم حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» الحياة الحقيقية المشمرة الدائمة المنعم أهلها التي لا يعرض لها كدر ولا موت ولا فناء وهي في ذاتها حياة طيبه والحيوان مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل وأصله حييّان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس، فلامه ياء كما قال سيبويه، وقيل إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى أن حياة علم رجل ولا حجة على كونه ياء في حيىّ، لأن الواو في مثله يبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة، وهو أبلغ من الحياة، لذلك جاءت بلفظ المبالغة، لأن بناء فعلان يكون بمعنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة، ولهذا المعنى أطلق عليها، مع أنه علم للنّام المدرك، ولأن الآخرة فيها الزيادة والنمو، قال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) الآية ٢٧ من سورة هود المارة، وهي محل الإدراك التام أطلق عليها الاسم المستعمل في النامي المدرك، ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة، وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة الدار الآخرة، والمراد بها هنا الخلود والسكون ويوقف على كلمة الحيوان لأن التقدير «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» ٦٤ حقيقة الدارين لما اختاروا دار اللهو واللعب الفانية على دار العزّة والكرامة الباقية. ولا توصل هذه الجملة بالأولى لأنه يصير وصف الحيوان معلق بشرط علمهم ذلك وليس كذلك، تدبر. وما قاله بعضهم أن لو هنا للتمني فقيل غير سديد، وعن مرمى الحقيقة بعيد، ومن أخذ بالأولى فهو السعيد. ونظير هذه الآية ٣٢ من سورة الأنعام المارة، إلا أن المذكور فيها من قبل الآخرة، والمذكور هنا من قبل الدنيا، وكذلك المذكور قبل تلك. قال تعالى «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ» السفينة بقصد التجارة أو الزيارة وتارت عليهم العواصف «دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» وتركوا ذكر أوثانهم كأنهم من خلص عباد الله الذين لا يذكرون غيره ولا يدعون معه إلها آخر، ولجئوا إليه بكليتهم كأنهم لم ينصرفوا إلى غيره، ولم يذهلوا عن الحياة الأبدية،

صفحة رقم 505

وذلك لعلهم أنه لا يكشف الشدائد غيره، وفي هذه الآية تهكّم بالكفرة المشركين أهل البغي والفساد، وتقريع بهم، لأنهم لا يستمرون على حالتهم هذه «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ» وأمنوا من الغرق «إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» ٦٥ بالله غيره كعادتهم الأولى، ونسوا الضيق الذي حل بهم والذي نجاهم منه، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ركبوا البحر استصحبوا أصنامهم، فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر وقالوا يا ربنا يا ربنا، قال تعالى قوله «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» من نعمة الإجابة والإنجاء «وَلِيَتَمَتَّعُوا» في دنياهم هذه، وليغفلوا عن الآخرة دار البقاء «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» ٦٦ عاقبة ذلك حين يعاقون إذ يتدمون من حيث لات مندم. واللام في الموضعين لام كي، أي يشركون بالله ليكونوا كافرين نعمته، فليتمتعوا في هذه الدنيا قليلا فإن مرجعهم إلينا، راجع الآية ٦٨ من الإسراء ج ١، وهذه الجملة الأخيرة مؤذنة بالتهديد والوعيد لأولئك الكفرة سبب جحودهم نعمة انجائهم ورجوعهم إلى شركهم. قال تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا» بلدهم مكة دون سائر البلاد «حَرَماً آمِناً» أهله مما يخاف الناس من السلب والسبي والقتل، وقد حرم فيه ما لم يحرم بغيره من البلدان، حتى شمل منه الطير والوحش والدواب. أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: إن أهل مكة قالوا يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا وكثرة العرب، فمنى بلغهم أنا قد دخلنا في
دينك اختطفتنا فكلنا أكلة رأس، فأنزل الله هذه الآية تطمنّهم بالأمن مما يخافون دون غيرهم إكراما لرسولهم محمد وإجابة لدعوة جده إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، كما سيأتي في الآية ١٣٦ من البقرة ج ٣، وقد مر شيء منه في الآية ٣٦ من سورة إبراهيم فراجعها «وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» يختلسون اختلاسا أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأزواجهم وأنعامهم ودوابهم، لأن النفار كان متحكما بينهم، فقل لهم يا سيد الرسل «أَفَبِالْباطِلِ» من الأصنام وغيرها «يُؤْمِنُونَ» بعد ظهور نعمة الحق الذي لا ريب فيه «وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ» التي أنعمها عليهم في هذا الدين الصحيح والرسول الصادق والكتاب المبين لكل شيء «يَكْفُرُونَ» ٦٧ مع أن ذلك مستوجب

صفحة رقم 506

للشكر ما بالهم عموا عن الرشد والهدى، وجنحوا إلى الضلال والردى. وتقديم الصلة في الموضعين في هذه الآية للاهتمام بها، لأنها مصبّ الأفكار، أو للاختصاص على طريق المبالغة، لأن الإيمان إذا لم يكن خالصا لا يعتد به، ولأن كفران غير نعمة الله عز وجل بجنب كفران نعمته لا يعد شيئا. وقرىء الفعلان بالتاء على الخطاب، كما قرىء بالغيبة. قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» فزعم أن له شريكا «أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ» القران المنزل من لدنه «لَمَّا جاءَهُ» على يد رسوله صلّى الله عليه وسلم، أي لا أظلم من هذا أحد البتة، ولهذا عقبه بقوله «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» ٦٨ أمثال هؤلاء بل فيها منازل كثيرة تنتظرهم وتتميّز عليهم غيظا وحنقا. تشير هذه الآية إلى تقرير مثواهم وإقامتهم، فيها، لأن الاستفهام فيه معنى النفي وهو داخل على المنفي ونفي النفي إثبات، وعليه قول جرير:

ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
والمعنى ألا يستوجبون هذا الثواء، وقد افتروا ذلك الافتراء على الله تعالى، وكذبوا بالحق مثل ذلك التكذيب، بلى والله هم أهل له ولا شرّ منه. قال تعالى «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا» في شأننا ومن أجلنا وخالصا لوجهنا «لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» الدالة على الخير والبر الموصلة إلى الرشد والهدى في الدنيا المؤدية إلى الجنة في الآخرة «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» ٦٩ بالنصر والمعونة والظفر في الدنيا والثواب والمغفرة والرحمة في الآخرة. وقد ختمت سورة النحل فقط بما ختمت به هذه السورة. وتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى يريد أن يأمر رسوله بمجاهدة الكفار الذين لم ينزعوا عن شركهم وتكذيبه وجحد كتابه، لأنه إنما أمره بالهجرة عن دارهم لعدم تأثير العطف عليهم بهم، وان الرحمة التي عاملهم بها واللين والعطف لم يزدهم إلا عتوا وعنادا، ولم يزدهم التهديد والوعيد إلا استهزاء وسخرية ومكابرة في البغي والطغيان والعدوان، ولهذا قدم في هذه الآية الجليلة التمهيدات اللازمة لإنزال العقاب فيهم وتعجيل ما استبطئوه من العذاب الذي يطالبون به، وكانوا يوقنون عدم وجود عقاب أو عذاب كما يتيقنون عدم وجود بعث ولا حساب ولا جزاء، فاستحقوا جزاء معاملتهم بالقسوة والشدة، وآن وقت قسرهم على الإيمان

صفحة رقم 507
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية