آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ

وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه في سنته عن علي كرم الله وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الآية ٦٥ من الزمر المارة، فأجابه عليه السلام وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفّنك الذين لا يوقنون) وهذا ليس بكثير على باب مدينة العلم وسيف الله ومن هو بمنزلة هرون من موسى بالنسبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد سماه رسول الله حينما خرج إلى ابن ود العامري الإسلام كله. وفي هذه الآية إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يصدقون بأحوالهم ولا يعتقدون صحتها، ولذلك يستخفون بهم ويرمونهم بما ليس فيهم وما هم منه براء، عفا الله عنهم وأعادهم إلى الرشد. هذا، والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة العنكبوت عدد ٣٥ و ٨٥ و ٢٩
نزلت بمكة بعد سورة الروم عدا الآيات من ١ إلى ١١ فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وستون آية، وتسعمئة وثمانون كلمة، وأربعة آلاف ومئة وخمسة وستون حرفا. لا يوجد مثلها في عدد الآي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الم» ١ تقدم معناه وما فيه أول سورة الأعراف فما بعدها من أمثاله مفصلا «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا» في هذه الدنيا بلا بلاء وهي داره، ولا امتحان واختبار وهي محلهما، بمجرد «أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا» بالله ورسوله وكتابه وملائكته والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله «وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» ٢ فيها بأموالهم وأولادهم وأنفسهم، كلا ثم كلا.
مطلب لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح:
لا يكفي الإيمان المجرد، بل لا بد من اقترانه بالعمل الصالح والصبر على البلاء.
نزلت هذه الآية وما بعدها إلى ١١ في المدينة المنورة في أناس كانوا في مكة بعد

صفحة رقم 463

هجرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مسلمين فكتب إليهم أصحاب الرسول أن لا يقبل الله منكم الإقرار بالإسلام حتى تهاجروا من محل الكفر إلى الإيمان، فخرجوا عامدين إلى المدينة، فتبعهم المشركون فمنهم من قتل ومنهم من نجا، قال بعضهم لو أثاب الله المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا، لقال الكافر المعذب ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي، فإيمانه الذي تثبيه عليه مما لا يستحق الثواب له، وبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض من خير الآخرة ونعيمها الذي لا يكيف، وان نعيم رجل أو امرأة من أهل الجنة لو قسم على أهل الأرض لزاد عليهم بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت، وقال ابن عباس أراد بالناس الذين آمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والوليد ابن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم من المسلمين، وقيل في عمار كان يعذب في الله، وقيل في مهجع بن عبد الله مولى عمر وكان أول من قتل من المسلمين في بدر فسماء صلّى الله عليه وسلم سيد الشهداء وقال إنه أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة، فجزع أبوه وأمه فأنزل الله هذه الآية. قال تعالى «وَلَقَدْ فَتَنَّا» اختبرنا وامتحنا «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قبل أولئك المسلمين الممتحنين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم بأنواع البلاء فمنهم من قتل ومنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من مشّط بأمشاط الحديد المحماة ومنهم من أحرق بالنار، ومنهم من صبر على أنواع التعذيب، فثبتوا على دينهم ولم ينصرفوا عنه «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ» بهذا الافتتان، وهو عالم قبل ولكن ليظهر ذلك من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ليطلع عليه خلقه «الَّذِينَ صَدَقُوا» بإيمانهم وحافظوا عليه ولم يثنهم عنه ما أصابهم من البلاء رغبة به وطلبا لما عند الله من الثواب «وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» ٣ في إيمانهم الذين ذمهم الله تعالى بقوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الآية ١٢ من سورة الحج في ج ٣، أي ليميز الصادق من الكاذب فيما بين الناس، أما هو جلّ علمه فهما معلومان عنده من يوم قالوا بلى كعلمه بجميع مكوناته، وان ما يطهره من أقوالهم ليعلم به الناس، وانه سيكافىء الصادق على صدقه، ويجازي الكاذب على كذبه.
قال تعالى «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا» يفوتوننا،

صفحة رقم 464

كلا لا يقدرون على الهرب منا، ولا يفلتون من قبضتنا، أو يظنون أنا لا نعاقبهم، بلى سننتقم منهم لا محالة، وإذا كان هذا ظنهم فقد «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» ٤ به فقد خاب ظنهم وبئس ما حكموا به. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ» في الآخرة فعليه أن يحسن إيمانه ويشفعه بالعمل الصالح، ويعتقد بالبعث بعد الموت «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ» المضروب للقائه الذي فيه عقاب الكافر وإثابة المؤمن «لَآتٍ» لا محاله، فليستعد له ويستمر على صالح العمل كي يصدق رجاؤه ويحقق أمله. وإتيانه كناية عن إتيان ما فيه من الخير العظيم لأهل الخير، والشر الجسيم لأهل الشر، ألا فلينتظر المحسنون ثواب أعمالهم والمسيئون عقابها «وَهُوَ السَّمِيعُ» لأقوال عباده سرّها وجهرها «الْعَلِيمُ» ٥ بنياتهم طيبها وخبيثها، ثم طفق جل شأنه يعرض بالجهاد ويرغب فيه لقرب أوانه، لأنه تعالى سيأذن لحبيبه في هذه السورة بالهجرة التي هي مقدماته، فقال عز قوله «وَمَنْ جاهَدَ» منكم أيها الناس أعداء الله الكافرين أعداءكم لإعلاء كلمة الله وتخليص عباده من الذل ومن رق الكفار، وأنقذهم من أذاهم المرعق، وصبر نفسه على قتالهم، وصدق ربه بما آتاه من قوة بدنية ومالية «فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ» لأنها هي التي تحظى بعظيم ثوابه لتلك الغايات الشريفة، فمن زهد بنفسه لأجل الله فيكون جزاؤه ومكادنه عليه، وناهيك به مجاز يعطي على القليل الكثير، وعلى العظيم أعظم منه «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» ٦ وإيمانهم وجهادهم ولو شاء لما أحاجهم إلى الجهاد، ولكن أمرهم به لمنفعة أنفسهم وليظهر لخلقه من منهم الطائع له أزلا والعاصي كما هو مدون في لوحه ولما يعود عليهم بسببه من الخير العميم والفضل الجسيم، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» التي أعظمها الجهاد في سبيل الله في زمنه ووقت الحاجة الماسة إليه، وإلا فتوحيد الله أعظم منه وسد عرز المحتاج الذي لا يقوم به أحد أفضل أيضا «لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ» في الآخرة ولنبدلنها حسنات بسبب ما ضحوه من الأعمال الطيبة لإيمانهم «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» ٧ مر مثلها في الآية ٩٧ من سورة النحل المارة.

صفحة رقم 465

مطلب برّ الوالدين وما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وأبي بكر مع ولده، وعياش وأخويه أولاد أسماء بنت محرمة:
قال تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً» أمرناه أن يتعهدهما ويراعي حقوقهما ويحسن إليهما «وَإِنْ جاهَداكَ» ألحّا عليك أيها الإنسان «لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» بإلهيته، ولا يصح أن يكون إلها إذ لا إله غيري، أنا الملك صاحب الأمر والنهي «فَلا تُطِعْهُما» في ذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وان الإشراك لا أعظم منه ولا أجلب لغضب الله من معتنقه، «إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ» لا إلى غيري بررتم بوالديكم أو عقفتم أو آمنتم أو كفرتم وحينذاك «فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ٨ في الدنيا، فأجازيكم على الخير خيرا منه، وعلى الشر مثله. وقدمنا ما يتعلق في بر الوالدين في الآية ٢٤ من الإسراء في ج ١ وفي الآية ١٤ من سورة لقمان المارة فراجعهما. وتفسير الجملة الأولى من هذه الآية في الآية ١٥ من سورة الأحقاف المارة، وذكرنا في آية لقمان ما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وفي آية الأحقاف ما وقع لأبي بكر أيضا فراجعها. وقيل إن هذه الآية نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي لما هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء أبو جهل والحارث بن هشام ونزلا عنده في المدينة وقالا له إن من دين محمد صلة الرحم وبر الوالدين، وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك، وهي أشد لك حبا (وذلك لأنهما أخواه لأمه)، فاستشار عمر فقال يخدعانك، ولئن بقيت لأقسم مالي بيني وبينك، فلم يزالا به حتى أطاعهما، فقال له عمر أما إذ عصيتني فخذ ناقتي، وإن رابك أمرهما فارجع فإنها لا تدرك. رضي الله عنه وأرضاه، إنه لينظر بنور الله، كيف وقد جاء التنزيل يحمل من أقواله، وقد قال فيه صلّى الله عليه وسلم لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدّثون فإن يك من أمتي منهم أحد فإنه عمر. وفي رواية: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن بك في أمتي أحد فإنه عمر. وكلمة محدّثون بالتشديد، وفي رواية: ملهمون. وهذا مما يؤيد أن أن الله تعالى لم يترك هذه الأمة من معنى الوحي وآثار الرسالة، كيف وقد

صفحة رقم 466

قال صلّى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدّد لها أمر دينها.
ولله الحمد، هذا، ولما لم يقنع بقوله ليقضي الله أمرا كان مفعولا وليطلعهم عليه ليصدقوا أن من عباده ممن هو ملهم بما يقع من قضائه، فلما انتهوا به إلى البيداء قال أبو جهل كلتت نافتي فاحملني معك، فنزل، فأخذاه وشدا وثاقه، وجلده كل منهما مئة جلدة، وذهبا به إلى أمه، فقالت له لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد.
هذا وقد جعل بعض المفسرين الآيات الثلاث في حق سعد رضي الله عنه، وان ما جرينا عليه أولى، على أن كلا منها عامة اللفظ والمعنى لا يخصصها عن عمومها هذه الأسباب ولا يقيدها عن إطلاقها، لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولأن الآية الواحدة قد يكون نزولها لعدة حوادث بسبب انطباق مآلها عليها، ولم نعهد أن ثلاث آيات نزلت في حادثة واحدة أو آيتين، وعليه فالقول بنزول الآيات الثلاث المذكورة في حق سعد رضي الله عنه لم يثبت، والله أعلم. ومرت بقية القصة في الآية ١١ من سورة لقمان، وقيل إنها نزلت في سعد بن مالك الزّهري وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس، لما أسلم قالت له لا آكل ولا أشرب ولا استظل حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتعيّر بي، فلم يفعل، وبقيت أياما، ولما أيست منه أكلت وشربت واستظلت، قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» ٩ من عبادنا مع الأنبياء والأولياء والشهداء والعارفين. قال تعالى «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ» إيمانا مطلقا «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ» لأجله أو من أجله «جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ» به من أذية أو إهانة «كَعَذابِ اللَّهِ» أي نزل ما يصيبه منهم منزلة عذاب الله في الآخرة وجزع كما يجزع من عذابه لو حل به، مع أنه لا يعد كل عذاب الدنيا شيئا بالنسبة لجزء من عذاب الآخرة، فلم يصبروا على ما وقع عليهم من عذاب الدنيا، ورجعوا عن دينهم وكفروا بربهم، مع أنه يجب عليهم أن يصبروا عليه مهما كان شديدا، لأنه فان رغبة بما عند الله للصابرين من نعيمه الدائم. وهذه سمة المنافق فإنه إذا أوذي في الله رجع عن دينه، كالذي يعبد الله على حرف، راجع الآية ١٢ من سورة الحج المشار إليها آنفا، أما المؤمن فإنه يصبر على ما أصابه

صفحة رقم 467
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية