
الأمر بالهجرة عند تعذر إقامة الشعائر الدينية
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠)
الإعراب:
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً..: غُرَفاً مفعول به ثان ل لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين، أما قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج ٢٢/ ٢٦] فاللام زائدة في لِإِبْراهِيمَ ومَكانَ الْبَيْتِ: مفعول ثان.
خالِدِينَ فِيها حال من الهاء والميم في لَنُبَوِّئَنَّهُمْ.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ: كَأَيِّنْ: في موضع رفع مبتدأ، بمنزلة (كم) ومِنْ دَابَّةٍ:
تبيين له. ولا تَحْمِلُ: في موضع جر لأنها صفة دَابَّةٍ.
اللَّهُ يَرْزُقُها اللَّهُ مبتدأ، وجملة يَرْزُقُها خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع، لأنه خبر كَأَيِّنْ.
البلاغة:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
الإضافة للتشريف والتكريم.
المفردات اللغوية:
إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي إذا لم يتيسر لكم العبادة في بلدة أو إقامة شعائر الدين، فهاجروا إلى أي أرض أخرى تتيسر فيها العبادة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، ولو كان شبرا، استوجب الجنة، وكان رفيق إبراهيم ومحمد عليهما السلام».
والفاء في قوله:

فَإِيَّايَ
في جواب شرط محذوف، إذ المعنى: إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض، فأخلصوها في غيرها.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي تناله لا محالة. تُرْجَعُونَ للجزاء، ومن هذا عاقبته ينبغي أن يجتهد في الاستعداد لذلك الجزاء. لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم، وقرئ: (لنثوينهم) أي لنقيمنهم، من الثواء، أي الإقامة، وتعدية هذا الفعل إلى كلمة غُرَفاً: بحذف مِنَ أي تكون منصوبة بنزع الخافض، أو لأنه أجري مجرى (لننزلنهم).
خالِدِينَ فِيها ماكثين فيها على الدوام. نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ وقرئ: «فنعم» والمخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله، أي نعم هذا الأجر. الَّذِينَ صَبَرُوا أي هم الصابرون على أذى المشركين والهجرة لإظهار الدين وغير ذلك من المحن والمشاق. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولا يتوكلون إلا على الله، فيرزقهم من حيث لا يحتسبون، لأن الرازق هو الله الذي يهيئ الأسباب للرزق وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة.
وَكَأَيِّنْ أي كم. لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا أي لا تطيق حمله لضعفها. وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم. الْعَلِيمُ بضمائركم.
سبب النزول: نزول الآية (٥٦) :
يا عِبادِيَ
: نزلت في ضعفاء مسلمي مكة، كانوا في ضيق من إظهار الإسلام بها. قال مقاتل والكلبي: هذه الآية نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، أي في قوم تخلفوا عن الهجرة وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
نزول الآية (٦٠) :
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ:
عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون: اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة، قالوا:
ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا، ولا من يسقينا، فنزلت الآية:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ
أي ليس معها رزقها مدخرا، وكذلك أنتم يرزقكم الله في دار الهجرة.

المناسبة:
بعد إنذار المشركين وأهل الكتاب بالخسران وجعلهم من أهل النار، اشتد عنادهم وزاد فسادهم، وكثر أذاهم للمؤمنين، ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله تعالى بالهجرة إلى بلاد أخرى، إن تعذرت عليهم العبادة في بلادهم، مما يدل على أن المقام في دار الحرب حرام، والخروج منها واجب. وأبان تعالى أن توقع المكروه لا يمنع من الهجرة، فالمكروه إن لم يحدث بالهجرة، وقع بالموت في أي مكان، كما أبان أنه سبحانه تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته حيثما كانوا.
التفسير والبيان:
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
أي أيها العباد المصدقون بي وبرسولي محمد صلّى الله عليه وسلّم، إن أرضي واسعة غير ضيقة، يمكنكم المقام فيها في أي موضع، فإذا تعذرت عليكم العبادة وإقامة شعائر الدين بسبب منع الكفار وأذاهم، فهاجروا إلى المكان الذي تتمكنون فيه من إقامة الشعائر الدينية.
وبالرغم من أن كلمة عِبادِيَ
لا تتناول إلا المؤمنين، فقد أتبعت بوصف الَّذِينَ آمَنُوا
لا للتمييز، بل لمجرد بيان اشتمالهم على هذا الوصف.
فهذا أمر للمؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن إقامة الدين، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم، وهو حثّ على إخلاص العبادة لله تعالى.
والمقصود من الهجرة: إعداد المؤمن الكامل المخلص الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وكانت الهجرة من مكة إلى المدينة واجبة قبل الفتح، ثم زال وجوبها.
أخرج الإمام أحمد عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم».

ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم فيها، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة، ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى، فآواهم وأيدهم بنصره، ثم هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الباقون إلى المدينة المنورة.
وبعد أن أمر الله تعالى عباده بالحرص على العبادة والإخلاص فيها وصدق الاهتمام بها، أبان أن الدنيا ليست بدار بقاء، وأمر بالاستعداد إلى دار الجزاء، فقال:
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ أي إن الموت كائن لا محالة بكل نفس، وأينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله، فهو خير لكم، فإن الموت لا بدّ منه ولا محيد عنه، سواء في الوطن أو خارجه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب.
والخلاصة: أن المكروه لا بد من وقوعه، فلا يصح أن يصعب على المؤمنين ترك الأوطان ومفارقة الإخوان.
ثم بيّن الله تعالى نوع جزاء المؤمن المهاجر بدينه، فرارا من الشرك والمعاصي فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي والذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا صالح الأعمال من التزام أوامر الله واجتناب نواهيه، لننزلنهم أو لنسكننهم منازل عالية في الجنة تجري من تحت أشجارها الأنهار، على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن، ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا، جزاء لهم على أعمالهم، نعم الجزاء، ونعمت هذه الغرف أجرا على أعمال المؤمنين.

وهذا الجزاء في مقابل جزاء الكافرين السابق ذكره: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ فكما أن للكافرين النيران، يكون للمؤمنين الجنان أجر عملهم.
ومن صفات هؤلاء العاملين:
الصبر والتوكل:
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إن أولئك المؤمنين الذين صبروا على القيام بواجبات دينهم من صلاة وصيام وهجرة في سبيل الله، وجهاد الأعداء، ومفارقة الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله، وتحمل أذى المشركين، وتوكلوا على ربهم وفوضوا إليه أمورهم في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم، فقاموا بما يجب عليهم، ثم تركوا أمر تحقيق النتائج إلى ربهم، من نصر ونجاح ورزق وعزة وغير ذلك.
وذكر صفتي الصبر والتوكل هنا مناسب للمقام، فإن الهجرة والجهاد وترك الأوطان ومفارقة الإخوان تتطلب الصبر على تحمل الأذى، والمواظبة على عبادة الله تعالى والتوكل عليه.
ثم ذكر الله تعالى ما يعين على التوكل وهو معرفة أن الله هو الكافي في رزق مخلوقاته فقال:
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا، اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أي إن الرزق لا يختص ببقعة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين وجدوا، فكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها، ولا تستطيع جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد، الله يقيض لها رزقها على ضعفها، وييسره لها، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه ويكفيه، سواء كان في باطن الأرض، أو طيرا في الهواء، أو حوتا في الماء، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بضمائرهم وأسرارهم وما في قلوبهم.

وقد أنجز الله وعده، فكانت أرزاق المهاجرين في المدينة أكثر وأوسع وأطيب، وصاروا بعد زمن قصير حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار. ونظير الآية قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [هود ١١/ ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مطلوبة واجبة حال وجود أذى الكفار وتعذر إقامة شعائر الدين، فعلى المسلم أن يتلمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده، فإن كان في حال مضايقة من إظهار الإيمان في أرض، فهاجر إلى أرض أخرى، فإن أرض الله واسعة، لإظهار التوحيد بها. وهذا كان مناسبا للمؤمنين في صدر الإسلام حيث هاجروا من مكة مهد الشرك والوثنية إلى المدينة الطيبة المطهرة، ثم ارتفع الوجوب ولم تعد الهجرة واجبة بعد فتح مكة، وإنما بقيت الهجرة بمعنى هجر السوء وترك ما نهى الله عنه.
والآية نزلت في الهجرة قبل الفتح، لا في الهجرة مطلقا في كل زمان ومن أي بلد، ولكن بعمومها تعد مستندا للقول بوجوب الهجرة على الدوام عند الإمكان إذا لم يتمكن المسلم من إقامة شعائر دينه.
٢- رغّب الله في الهجرة السابقة من مكة إلى المدينة بتحقير أمر الدنيا ومخاوفها وبيان أن البشر كلهم ميتون ومحشورون إلى الله، وما عليهم إلا المبادرة إلى طاعة الله والهجرة إليه وإلى ما يمتثل.
٣- وعد الله المؤمنين العاملين بسكنى الجنة تحريضا منه تعالى، وذكر الجزاء الذي ينالونه وهو دخول الجنان التي تجري من تحتها الأنهار وإسكانهم المنازل العالية.

روى مسلم في صحيحة عن سهل بن سعد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراؤون الكوكب الدرّيّ الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين».
وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجنة لغرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها، فقام إليه أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلّى الله بالليل والناس نيام».
٤- من أهم صفات المؤمنين الذين يستحقون الجنان: الصبر على الأذى وعلى مشاق التكاليف الشرعية، والتوكل على الله، فهما صفتان يدلان على العلم بالله تعالى، وهما صفتان مناسبتان أيضا للهجرة والجهاد موضوع الآيات.
٥- بدد الله سبحانه مخاوف المهاجرين ومخاطر المغتربين، فأبان أن الموت حتمي في أجل مسمى، فلا يزيد العمر ولا ينقص، سواء أكان الشخص مقيما في موطنه، أم مسافرا مغتربا بعيدا عن بلده، كما قال سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء ٤/ ٧٨].
وأبان أيضا أن الرزق مكفول ومقسوم منه تعالى، كما قال تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات ٥١/ ٢٢] ومن رحمته سبحانه أنه ييسر الرزق رغدا لكل دابة كل يوم، رغم ضعفها، وأنها لا تدخر شيئا لغد، سواء أكانت الدابة في جوف الأرض أم في ظاهرها أم في أعماق المياه، أم في أعالي الفضاء.