
ورؤوس الطغيان والبغي في مصر: قارون وفرعون وهامان، استكبروا في الأرض، وظنوا أن الله غير قادر عليهم، فخسف الله بقارون وبداره الأرض، وأغرق فرعون وهامان وجنودهما في البحر.
ولم يكن العقاب بالهلاك ظلما، فكل فئة أخذت بجريرة ذنبها العظيم، وما كان الله ليظلمهم لأنه أنذرهم وأمهلهم وبعث إليهم الرسل وأزاح العذر، وإنما ظلموا أنفسهم.
تشبيه حال عبدة الأصنام بحال العنكبوت
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣)
الإعراب:
كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ الكاف: في موضع رفع لأنها خبر المبتدأ: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ.. ما: إما بمعنى «الذي» في موضع نصب ب يَعْلَمُ وتقديره: إن الله يعلم الذين يدعون من دونه من شيء، فحذف العائد تخفيفا. وإما أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَدْعُونَ وتقديره: أي شيء تدعون من دونه، وهو قول الخليل وسيبويه.
البلاغة:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً تشبيه تمثيلي، شبه

الكفار في عبادتهم الأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيف النسج قابلا للاختراق والزوال بنفخة هواء. والتشبيه التمثلي: هو ما كان وجه الشبه فيه منتزعا من متعدد.
المفردات اللغوية:
مَثَلُ المثل: الصفة التي تشبه المثل في الغرابة. أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها.
الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة. اتَّخَذَتْ بَيْتاً لنفسها تأوي إليه مما نسجته من شبكة واهنة ضعيفة. أَوْهَنَ أضعف البيوت، لا يدفع عنها حرا ولا بردا، كذلك الأصنام لا تنفع عابديها.
لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ذلك ما عبدوها.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ على إضمار القول، أي قل للكفرة: إن الله يعلم الذي يعبدون، والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل. مِنْ دُونِهِ غيره. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الغالب القوي في ملكه، الحكيم في صنعه، وهو تعليل لما سبق، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه، فالجماد بالنسبة إلى القادر القاهر على كل شيء، البالغ النهاية في العلم وإتقان الفعل كالمعدوم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ يعني هذا المثل ونظائره. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ نجعلها مثلا تقريبا لأفهامهم. وَما يَعْقِلُها يفهمها. إِلَّا الْعالِمُونَ المتدبرون الذين يتدبرون الأشياء على ما ينبغي، روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه تلا هذه الآية فقال: «العالم: من عقل عن الله، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه».
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك من أشرك بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، دون أن ينفعه معبوده في الدارين، شبّه حال هذا المشرك الذي اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت التي اتخذت بيتا لا يحميها من الأذى، ولا يمنع عنها الحر أو البرد.
ثم أكد ذلك فأوضح أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يعبد وتترك عبادة الله القادر القاهر الحكيم المتقن؟ ثم لفت النظر إلى فائدة ضرب الأمثال وهي التقريب للأفهام وإدراك العقلاء لمغزاها.

التفسير والبيان:
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً أي صفة المشركين في اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله، طمعا في نصرهم ورزقهم ونفعهم، والتمسك بهم في الشدائد، كصفة العنكبوت في ضعفها اتخذت لنفسها بيتا يقيها الأذى والحر والبرد، فلم يفدها شيئا، وإذا هبت ريح يصير هباء منثورا.
فكذلك هؤلاء المشركون لا تفيدهم أصنامهم، ولا تدفع عنهم سوءا، ولا تجديهم شيئا، وتصبح أعمالهم للأوثان مبددة ذاهبة الأثر، كما قال تعالى:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
ثم بيّن الله تعالى مدى ضعف هذا البيت، فقال:
وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي وإن أضعف البيوت بيت العنكبوت لأنه يخرب بأدنى شيء، ولا يبقى منه أثر، فكذلك عملهم لا أثر له، فلو كانوا يعلمون علما صحيحا أن أصنامهم وعبادتهم لها لا تنفعهم شيئا، ما فعلوا ذلك، إلا أنهم في الواقع في غاية الجهل، لا يعلمون شيئا من عواقب الأمور، فتراهم يظنون بذلك النفع.
ثم أكد الله تعالى كون تلك المعبودات ليست بشيء، فقال متوعدا عابديها:
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الله يعلم أن الذي يعبدونه من غيره من الأصنام والجن والإنس ليس بشيء، وهو القوي الغالب القادر على الانتقام ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره، الحكيم في صنعه وتدبيره خلقه، يعلم ما هم عليه من الأعمال، ويعلم ما يشركون به من الأنداد، وسيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم.

ثم أبان تعالى فائدة ضرب الأمثال، فقال:
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ، وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ أي هذا المثل وأشباهه في القرآن الكريم، يضربها للناس تقريبا لأفهامهم، وتوضيحا لما التبس عليهم، وما يفهمها ويدركها ويتدبر حقيقتها إلا العلماء الأثبات، المتضلعون في العلم، المتأملون في القضايا والمسائل.
روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، فقال: «العالم من عقل عن الله تعالى، فعمل بطاعته، واجتنب سخطه».
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
١- إن عبادة الأصنام والأوثان فارغة المحتوى، لا مضمون فيها، ولا هدف لها، وما مثلها في عدم النفع إلا كمثل بيت العنكبوت. قال الفراء: هذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا.
٢- شبّه الله تعالى حال عبدة الأوثان بحال العنكبوت التي تتخذ أضعف البيوت، ولو علموا أن عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئا، وأن هذا مثلهم أو صفتهم، لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. أما قتل العنكبوت فروي عن سيدنا علي جوازه قائلا: إن تركه في البيوت يورث الفقر. وهذا صحيح لأن العناكب من الحشرات السامة.
٣- إن الله يعلم ضعف كل ما يعبدون من دونه من ملائكة وكواكب وأصنام وجن وإنس، فرثى لحالهم، وعجب من صنعهم، فنبههم على سطحية تفكيرهم، وسوء اعتقادهم، وأن جميع تلك المعبودات مثل بيت العنكبوت لأن كل ما عدا