صلابة المكلفين ومظاهر فتنة المؤمنين وتهديد الكافرين والمنافقين
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١٣]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣)
الإعراب:
وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ فيه حذف الجار والمجرور، أي ولنحمل خطاياكم عنكم.
البلاغة:
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، فهو مجمل.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ استعارة، شبه الذنوب بالأثقال لأنها تثقل الإنسان معنويا.
المفردات اللغوية:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أمرنا، وصى بمعنى أمر معنى وتصرفا. حُسْناً أي بأن يفعل معهم حسنا، أي فعلا ذا حسن بأن يبرهما، أو هو الحسن نفسه مبالغة، كأنه في ذاته حسن لفرط حسنه، وقرئ: حسنا وإحسانا. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي ما ليس لك بإشراكه علم، أو ما ليس لك بألوهيته علم، أي معلوم، كأنه قال: لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، عبر عن نفي الألوهية بنفي العلم بها إشعارا بأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه. فَلا تُطِعْهُما في الإشراك إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم ومن أشرك، فأجازيكم حق الجزاء. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأجازيكم به.
لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم، وهم الأنبياء والأولياء، بأن نحشرهم معهم. فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي بأن عذبهم الكفرة على الإيمان. فِتْنَةَ النَّاسِ أذاهم له في الصرف عن الإيمان. كَعَذابِ اللَّهِ في صرف المؤمنين عن الكفر، فيطيعهم فينافق. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ اللام لام القسم، ومجيء النصر بالفتح للمؤمنين والغنيمة. لَيَقُولُنَّ حذفت منه نون الرفع: ليقولونن لتوالي النونات، وحذفت الواو: ضمير الجمع لالتقاء الساكنين. إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين والإيمان، فأشركونا في الغنيمة. أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ أي بعالم. بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي بما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق؟ بلى.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا بقلوبهم. وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين: لام قسم. اتَّبِعُوا سَبِيلَنا طريقنا الذي نسلكه في ديننا. وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي عنكم في اتباعنا، إن كانت لكم خطايا، والأمر بمعنى الخبر. مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: مزيدة، والتقدير: وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم. أَثْقالَهُمْ أوزارهم أو ذنوبهم التي اقترفتها أنفسهم. وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ أي ذنوبا أخرى معها لما تسببوا له بالإضلال وحمل الآخرين على المعاصي، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شيء. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت. عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها.
سبب النزول:
نزول الآية (٨) :
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ: روى مسلم وأحمد والترمذي وأبو داود والنسائي عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم
طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر، فنزلت: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ.
وتوضيح ذلك في رواية الترمذي: أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقّاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم، وكان من السابقين الأولين، وكان بارّا بأمّه، قالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعيّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة، لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به.
وقال ابن عباس في آية وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه، وقد فعلت أمه مثل ذلك. وعنه أيضا: نزلت في جميع الأمة إذ لا يصبر على بلاء الله إلا صدّيق.
نزول الآية (١٠) :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ: نزلت في المنافقين. قال مجاهد:
نزلت في أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا.
وقال الضحاك: نزلت في أناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك.
وقال ابن عباس: نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون عن الدين فارتدّوا، والذين نزلت فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ
الآية «١» [النساء ٤/ ٩٧]. وقيل: نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد، وكان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخوين لأمه، ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه.
نزول الآية (١٢) :
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال مجاهد: إن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم، فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حسن التكاليف وثواب الآتي بها تحريضا للمكلف على الطاعة، ذكر أن الإتيان بها واجب ولو كان ذلك بمخالفة الوالدين اللذين يجب الإحسان إليهما والطاعة، فلا يكون ذلك مانعا من الإيمان ورفض الشرك ومقاومة معصية الله تعالى.
ثم ذكر أن العامل بالصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء.
وبعد أن أبان الله تعالى حال صنفين من المكلفين: المؤمن حسن الاعتقاد والعمل، والكافر المجاهر بكفره وعناده في قوله: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ أردف ذلك ببيان حال الصنف الثالث وهم المنافقون بقوله:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ.
ثم ذكر الله تعالى محاولات الكفار في فتنة المؤمنين عن دينهم، ودعوتهم بالرفق واللين إلى الشرك، ومساومتهم واستعدادهم تحمل تبعات ذنوب المؤمنين إن كانت.
التفسير والبيان:
تشتمل الآيات على موضوعات ثلاثة: التمسك بالتوحيد ولو بمخالفة أمر الأبوين رغم الأمر بالإحسان إليهما، وأقسام المكلفين الثلاثة، وبعض مظاهر الفتنة عن الدين.
الموضوع الأول:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً، وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لقد أمرنا العباد بالإحسان إلى الوالدين ببرهما قولا وفعلا لأنهما سبب وجوده، كما قال تعالى:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء ١٧/ ٢٣- ٢٤]. ونكّر كلمة حُسْناً ليدل على الكمال.
ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما في مقابلة إحسانهما، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، فإنه وإن حرصا على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فلا تطعهما في ذلك، في دعوتهما إلى الاعتقاد فيما ليس معلوما لك إذ كما
جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وإذا كان لا يصح اتباع ما ليس معلوما ثبوته، فلا يجوز اتباع ما علم بطلانه بالأولى، وهذا دليل على أن متابعتهم في الكفر لا تجوز.
والسبب مرجعكم جميعا إلى يوم القيامة، المؤمن والكافر، والبار بوالديه والعاق لهما، فأجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه وصبره على دينه، والمسيء بإساءته، لذا قال محرضا على الصلاح والإيمان:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي وإن الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا ما أمرهم به ربهم، فأصلحوا نفوسهم، وأدوا فرائضهم، لنحشرنهم في زمرة الصالحين: الأنبياء والأولياء، لا في زمرة الوالدين المشركين، وإن كانا أقرب الناس إليه في الدنيا، فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب حبا دينيا.
والسبب في إعادة الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان حال الهادي هنا بعد بيان حال المهتدي قبل ذلك بدليل أنه قال أولا: لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ثم قال ثانيا هنا: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ والصالحون هم الهداة لأنه مرتبة الأنبياء، ولهذا قال كثير من الأنبياء: أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ كما أنه تعالى ذكر أولا حال الضال بقوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ ثم هدد المضل بقوله:
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ فصار البيان المتقدم لقسمين من المكلفين: المهتدي والضال، والبيان المتأخر لقسمين آخرين هما: الهادي والمضل «١».
الموضوع الثاني:
حال المنافقين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي ويوجد فريق من الناس، هم قوم من المكذبين المنافقين الذين يقولون بألسنتهم: صدقنا بوجود الله ووحدانيته، ولكن لم يثبت الإيمان في قلوبهم، بدليل أنه إذا نزلت بهم محنة وفتنة في الدنيا، فآذاهم المشركون لأجل إيمانهم بالله، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام، وكان ذلك صارفا لهم عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف المؤمنين عن الكفر.
وهذا كقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ، ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ [الحج ٢٢/ ١١].
وهذا دليل على أن التخلي عن الإيمان سهل على المنافق لأنه لم يخالط الإيمان شغاف قلبه، وإنما كان مجرد ترداد على اللسان، لمصالح دنيوية، فإذا تعرض لأدنى أنواع الأذى، ترك الله بنفسه. أما المؤمن الصادق الإيمان فلا يتزحزح عن إيمانه القلبي مهما تعرض لأنواع الأذى، فإن أكره على الردة أمكنه مجاراة المكره باللسان، مع اطمئنان قلبه بالإيمان، فلا يترك الله بحال.
قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله.
روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال».
ثم تحدث الله تعالى عن انتهازية المنافقين ونفعيتهم فقال:
وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ، أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي ولئن تحقق نصر قريب من ربك يا محمد بالفتح والغنيمة لقال هؤلاء المنافقون: إنا كنا معكم ردءا وإخوانا لكم في الدين، نناصركم على الأعداء، كما أخبر تعالى عنهم في آية أخرى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ، وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ [النساء ٤/ ١٤١].
ثم رد الله عليهم وكشف أمرهم متوعدا مبينا لهم أنه لا تخفى عليه أوضاعهم فقال: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم وما تكنه ضمائرهم من الإيمان والنفاق، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان؟ بلى، إن الله عالم بكل شيء، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى، فيعلم المؤمن الحق والمنافق الكاذب.
ثم ذكر الله تعالى أنهم معرّضون للاختبار فقال:
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ أي وليختبرن الناس بالسراء والضراء، ليتميز المؤمنون من المنافقين، فيعرف من يطيع الله في كل حال، ومن يعصيه وقت الشدة، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ، وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣١] وقال سبحانه بعد وقعة أحد التي كانت محك اختبار وامتحان: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران ٣/ ١٧٩].
ويلاحظ أنه تعالى حكم هنا على ما في القلب، فيعلم إيمان المؤمن وهو التصديق، ونفاق المنافق وهو صدقه في قوله باللسان: الله واحد، وأما فيما سبق فقال: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ليميز بين المؤمن القائل بأن الله واحد، وبين الكافر الكاذب في قوله: الله أكثر من واحد، فكان هناك قسمان: صادق وكاذب. وهنا قسم واحد وهو صادق.
الموضوع الثالث:
محاولات فتنة المسلمين عن دينهم: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي وقال كفار قريش لمن آمن منهم واتبع الهدى بعد بيان أحوال الناس الثلاثة: المؤمن والكافر والمنافق: ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا، وأما آثامكم إن كانت لكم آثام ووجد حساب فعلينا وفي رقابنا، كما يقول القائل الجاهل: افعل هذا وخطيئتك في رقبتي. وهذه محاولة فتنة وإغراء للمسلمين على ترك دينهم بالرفق واللين. وقوله: وَلْنَحْمِلْ صيغة أمر من الشخص لنفسه، ولكن يراد بها الخبر، والمعنى شرط وجزاء، أي إن اتبعتمونا حملنا خطاياكم، كما يقول الواحد: ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء، فليس هو في الحقيقة أمر طلب.
فرد الله عليهم تكذيبا لهم:
وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي وإنهم لا يتحملون شيئا من ذنوبهم وأوزارهم، وإنهم لكاذبون فيما قالوه: إنهم يحملون عنهم الخطايا، فهم لا يحملون شيئا لأنه لا يحمل أحد وزر أحد، كما قال تعالى:
وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر ٣٥/ ١٨] وقال سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج ٧٠/ ١٠- ١١] وقال جل وعز: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤].
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة هذا القول، فقال:
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ، وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي إن دعاة الكفر والضلال هؤلاء ليحملن يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزار غيرهم الذين أضلوهم من الناس، من غير أن ينقص من أوزار أتباعهم شيئا، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل ١٦/ ٢٥] وكما
جاء في الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه من غير أن ينقص من آثامهم شيئا» «١»
وفي الصحيح أيضا: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل»
وثبت أيضا: «من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء». «٢».
وسوف يسألون يوم القيامة سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبون
(٢) أخرجه مسلم وغيره عن أبي هريرة.
ويختلفون من البهتان في الدنيا، كما
جاء في الحديث الصحيح: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، وقد ظلم هذا، وأخذ مال هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا لم تبق له حسنة، أخذ من سيئاتهم، فطرح عليه».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- بالرغم من وجوب أو افتراض بر الأبوين اللذين كانا سببا في وجود الإنسان وتربيته والإنفاق عليه، فإنه لا يجوز إطاعتهما فيما يدعوان الولد إلى الشرك والعصيان لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلا تجوز متابعتهم في الكفر.
لذا كان قوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ... وعيدا في طاعة الوالدين في معنى الكفر، وأنه تعالى سيجازي كل إنسان بما عمل، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
٢- كرر الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ لتحريك النفوس إلى نيل مراتب الصالحين: وهم الذين بلغوا نهاية الصلاح وأبعد غاياته، من الأنبياء والأولياء، وإذا وصل المؤمن إلى تلك المرتبة حظي بالثمرة المرجوة وهي الجنة.
٣- ينكشف أمر النفاق وشأن المنافقين وقت المحنة، فإذا قال المنافق:
آمنت بالله، ولم يؤمن قلبه، ثم تعرض لأذى أو مصاب، ارتد على عقبيه، وترك الإسلام إلى الكفر، جاعلا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، وما أفسد هذا القياس؟! وتراه يجزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، ولا يصبر على الأذية في الله تعالى.