
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إلى قوله فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ] اعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْجَانِبُ مَوْصُوفٌ، وَالْغَرْبِيُّ صِفَةٌ، فَكَيْفَ أَضَافَ الْمَوْصُوفَ إِلَى الصِّفَةِ؟ الْجَوَابُ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ خِلَافِيَّةٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ، فَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ إِلَّا بِشَرْطٍ خَاصٍّ سَنَذْكُرُهُ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَجُوزُ ذَلِكَ مُطْلَقًا حُجَّةُ الْبَصْرِيِّينَ، أَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ تَقْتَضِي إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ فَذَاكَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ جَاءَنِي زَيْدٌ الظَّرِيفُ، فَلَفْظُ الظَّرِيفِ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ مَجْهُولٌ بِحَسْبَ هَذَا اللَّفْظِ حَصَلَتْ لَهُ الظَّرَافَةُ، فَإِذَا نَصَصْتَ عَلَى زَيْدٍ عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي حَصَلَتْ لَهُ الظَّرَافَةُ هُوَ زَيْدٌ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَلَوْ أَضَفْتَ زَيْدًا إِلَى الظَّرِيفِ، كُنْتَ قَدْ أَضَفْتَ زَيْدًا إِلَى زَيْدٍ، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، فَإِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ، إِلَّا أَنَّهُ جَاءَ عَلَى خِلَافِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَلْفَاظٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ وَقَوْلُهُ: وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [الْبَيِّنَةِ: ٥] وَقَوْلُهُ: حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة: ٩٥] وَلَدارُ الْآخِرَةِ [النحل: ٣٠] وَيُقَالُ صَلَاةُ الْأُولَى وَمَسْجِدُ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَمْقَاءِ، فَقَالُوا التَّأْوِيلُ فِيهِ جَانِبُ الْمَكَانِ الْغَرْبِيِّ وَدِينُ الْمِلَّةِ الْقَيِّمَةِ وَحَقُّ الشَّيْءِ الْيَقِينِ وَدَارُ السَّاعَةِ الْآخِرَةِ وَصَلَاةُ السَّاعَةِ الْأُولَى وَمَسْجِدُ الْمَكَانِ الْجَامِعِ وَبَقْلَةُ الْحَبَّةِ الْحَمْقَاءِ، ثُمَّ قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ: الْمُضَافُ إِلَيْهِ لَيْسَ هُوَ النَّعْتَ، بَلِ الْمَنْعُوتُ، إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ الْمَنْعُوتُ وَأُقِيمَ النَّعْتُ مَقَامَهُ فَهَهُنَا يُنْظَرُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ النَّعْتُ كَالْمُتَعَيِّنِ لِذَلِكَ الْمَنْعُوتِ، حَسُنَ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ عِنْدِي جَيِّدٌ عَلَى مَعْنَى عِنْدِي دِرْهَمٌ جَيِّدٌ، وَيَجُوزُ مَرَرْتُ بِالْفَقِيهِ عَلَى مَعْنَى مَرَرْتُ بِالرَّجُلِ الْفَقِيهِ، لِأَنَّ الْفَقِيهَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ النَّاسِ وَالْجَيِّدُ قَدْ يَكُونُ دِرْهَمًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حَسُنَ قَوْلُهُ جَانِبُ الْغَرْبِيِّ، لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمَوْصُوفَ بِالْغَرْبِيِّ الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهِ الْجَانِبُ لَا يَكُونُ إِلَّا مَكَانًا أَوْ مَا يُشْبِهُهُ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْبَوَاقِي واللَّه أَعْلَمُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ؟ الْجَوَابُ: الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ هُوَ الْمَكَانُ الْوَاقِعُ فِي شِقِّ الْغَرْبِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ مِيقَاتُ مُوسَى عَلَيْهِ السلام من الطور، وكتب اللَّه [له] «١» فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَمْرُ الْمَقْضِيُّ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْوَحْيُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: وَمَا كُنْتَ حاضرا

الْمَكَانِ الَّذِي أَوْحَيْنَا فِيهِ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا كُنْتَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّاهِدِينَ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ أَوْ عَلَى (الْمُوحَى) «١» إِلَيْهِ، (وَهِيَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا) «٢»، وَهُمْ نُقَبَاؤُهُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ لِلْمِيقَاتِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لَمَّا قَالَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا، لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَةِ قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ؟ الْجَوَابُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا:
التَّقْدِيرُ لَمْ تَحْضُرْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَوْ حَضَرْتَ فَمَا شَاهَدْتَ تِلْكَ الْوَقَائِعَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ، وَلَا يَشْهَدُ وَلَا يَرَى.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: كَيْفَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ: وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً بِهَذَا الْكَلَامِ وَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ اسْتِدْرَاكًا لَهُ؟
الْجَوَابُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا بَعْدَ عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى عَهْدِكَ قُرُونًا كَثِيرَةً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ، فَانْدَرَسَتِ الْعُلُومُ فَوَجَبَ إِرْسَالُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَرْسَلْنَاكَ وَعَرَّفْنَاكَ أَحْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالَ مُوسَى، فَالْحَاصِلُ كَأَنَّهُ قَالَ وَمَا كُنْتَ شَاهِدًا لِمُوسَى وَمَا جَرَى عَلَيْهِ، وَلَكِنَّا أَوْحَيْنَاهُ إِلَيْكَ فَذَكَرَ سَبَبَ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ إِطَالَةُ الْفَتْرَةِ وَدَلَّ بِهِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، فَإِذَنْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ شَبِيهُ الِاسْتِدْرَاكَيْنِ بَعْدَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمُعْجِزِ كَأَنَّهُ قَالَ إِنَّ فِي إِخْبَارِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ حُضُورٍ وَلَا مُشَاهَدَةٍ وَلَا تَعَلُّمٍ مِنْ أَهْلِهِ، دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ كَمَا قَالَ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى [طه: ١٣٣].
أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ فالمعنى ما كنت مقيما فيه.
وأما قوله: تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ لَمْ تَشْهَدْ أَهْلَ مَدْيَنَ فَتَقْرَأَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أَيْ أَرْسَلْنَاكَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَلِمْتَهَا الثَّانِي: قَالَ الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَكُنِ الرَّسُولَ إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ وَإِنَّمَا كَانَ غَيْرُكَ وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ رَسُولًا، فَأَرْسَلْنَا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ شُعَيْبًا وَأَرْسَلْنَاكَ إِلَى الْعَرَبِ لِتَكُونَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا يُرِيدُ مُنَادَاةَ مُوسَى لَيْلَةَ الْمُنَاجَاةِ وَتَكْلِيمَهُ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أَيْ عَلَّمْنَاكَ رَحْمَةً، وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالرَّفْعِ أَيْ هِيَ رَحْمَةٌ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ نادَيْنا وُجُوهًا أُخَرَ أَحَدُهَا: إِذْ نَادَيْنَا أَيْ قُلْنَا لموسى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦، ١٥٧]. وَثَانِيهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذْ نَادَيْنَا أُمَّتَكَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ: «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي، وَأَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي، وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُونِي» قَالَ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ حِينَ اخْتَارَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِ رَبِّهِ وَثَالِثُهَا:
قَالَ وَهْبٌ: «لَمَّا ذَكَرَ اللَّه لِمُوسَى فَضْلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَبِّ أَرِنِيهِمْ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَهُمْ وَإِنْ شِئْتَ أَسْمَعْتُكَ أَصْوَاتَهُمْ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ فَقَالَ سُبْحَانَهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ فَأَجَابُوهُ مِنْ أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَسْمَعَهُ اللَّه تَعَالَى أَصْوَاتَهُمْ ثم قال: أَجَبْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي» الْحَدِيثَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَرَابِعُهَا:
رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قَالَ كَتَبَ اللَّه كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بِأَلْفَيْ عَامٍ ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ ثُمَّ/ نَادَى «يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إن رحمتي سبقت
(٢) السؤال الثاني منقول عن الكشاف ولكن ما بين الهلالين غير مثبت فيه. [.....]

غَضَبِي أَعْطَيْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُونِي وَغَفَرْتُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَسْتَغْفِرُونِي مَنْ لَقِيَنِي مِنْكُمْ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ».
أَمَّا قَوْلُهُ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ فَالْإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ بِالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ قِصَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِرَسُولِهِ: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ... وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ... وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْأَحْوَالُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي اتَّفَقَتْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إِنْزَالُ التَّوْرَاةِ حَتَّى تَكَامَلَ دِينُهُ وَاسْتَقَرَّ شَرْعُهُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَما كُنْتَ ثاوِياً أَوَّلَ أَمْرِهِ وَالْمُرَادُ نَادَيْنَاهُ وَسَطَ أَمْرِهِ وَهُوَ لَيْلَةُ الْمُنَاجَاةِ، وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَاضِرًا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُ وَعَرَّفَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ بِأَنْ قَالَ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ نَذِيرٌ مِنْهُمْ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: حُجَّةُ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ مَا بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يجد تِلْكَ الحجة عَلَيْهِمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَبْعُدُ وُقُوعُ الْفَتْرَةِ فِي التَّكَالِيفِ فَبَعَثَهُ اللَّه تَعَالَى تَقْرِيرًا لِلتَّكَالِيفِ وَإِزَالَةً لِتِلْكَ الْفَتْرَةِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ الْآيَةِ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :(لَوْلَا) الْأُولَى امْتِنَاعِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مَحْذُوفٌ، وَالثَّانِيَةُ تَحْضِيضِيَّةٌ، وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيَقُولُوا لِلْعَطْفِ، (وَفِي قَوْلِهِ لِلْعَطْفِ) «١». وَفِي قَوْلِهِ:
فَنَتَّبِعَ جَوَابُ (لَوْلَا) لِكَوْنِهَا فِي حُكْمِ الْأَمْرِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَمْرَ بَاعِثٌ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْبَاعِثُ وَالْمُحَضِّضُ مِنْ واد واحد، والمعنى لولا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ إِذَا عُوقِبُوا بِمَا قَدَّمُوا مِنَ الشرك والمعاصي: هلا أرسلت لينا رَسُولًا، مُحْتَجِّينَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ لَمَا أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ، يَعْنِي إِنَّمَا أَرْسَلْنَا الرَّسُولَ إِزَالَةً لِهَذَا الْعُذْرِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: ١٦٥] أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [الْمَائِدَةِ: ١٩] لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْعُذْرَ لَمَا أَرْسَلْنَا، بَلْ قَالَ: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ... فَيَقُولُوا هَذَا الْعَدُوُّ لَمَا أَرْسَلْنَا وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يُعَاقَبُوا مَثَلًا وَقَدْ عَرَفُوا بُطْلَانَ دِينِهِمْ لَمَا قَالُوا ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا يَقُولُونَ ذَلِكَ إِذَا نَالَهُمُ الْعِقَابُ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا هَذَا الْعُذْرَ تَأَسُّفًا عَلَى كُفْرِهِمْ، بَلْ لِأَنَّهُمْ مَا أَطَاقُوا وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِحْكَامِ كُفْرِهِمْ وَرُسُوخِهِ فِيهِمْ كَقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: ٢٨] وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ الْجُبَّائِيُّ عَلَى وُجُوبِ فِعْلِ اللُّطْفِ قَالَ لَوْ لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَخْتَارُونَ الْإِيمَانَ إِلَّا عِنْدَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ خَالَفَ فِي وُجُوبِ اللُّطْفِ كَمَا مَرَّ أَنَّ الْجَائِزَ إِذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ لَوْ خُلِقَ لَهُ لَمْ يُمْكِنْ إِلَّا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْكَعْبِيُّ بِهِ عَلَى أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقْبَلُ حُجَّةَ الْعِبَادِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ الحجة وَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّهُ ليس المراد من قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٣] مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَقْبَلُ الحجة وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَإِلَّا لَكَانَ لِلْكَافِرِ أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَى اللَّه تعالى.