
هذا الموضوع كرر في سورة طه. والنمل. والقصص كما ذكرنا في الجزء (التاسع عشر) ويلاحظ أن موسى نودي، وهو في الشاطئ الأيمن من الشجرة: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ كما نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين. فترى أن العبارة مختلفة، والمعنى يكاد يكون واحدا فهو بدء الإيحاء والرسالة بعبارة تدل عليه، والله- سبحانه- ذكر الكل، وقد حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء.
وشبيه بهذا ما مضى في قوله. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ في أنه معنى واحد صيغ في عبارات متعددة، ثم هنا سؤال قد جعل الجناح وهو اليد تارة مضموما، وتارة مضموما إليه اليد، والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحد من اليدين جناح. وسؤال آخر ما الفائدة في قلب العصا حية وإدخال اليد وإخراجها بيضاء عند نداء الله لموسى؟ والجواب أن ذلك لتمرين موسى على إبراز المعجزات، وليقوى على ملاقاتها حتى لا يخاف عند مشاهدتها كما حصل في أول مرة.
محاجته لهم. وعناد فرعون وآله وعاقبتهم [سورة القصص (٢٨) : الآيات ٣٦ الى ٤٣]
فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣)

المفردات:
مُفْتَرىً مختلق هامانُ وزيره فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاصنع لي آجرا أى: طوبا صَرْحاً قصرا أَطَّلِعُ أصعد فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المبعدين.
المعنى:
أمر موسى بأن يذهب هو أخوه إلى فرعون وملئه، وبأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، وأخذا يجادلانه في الله الذي يجب أن يعبد، وهو رب السموات والأرض وما بينهما، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء، وأنزل منها ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى.

ولقد جاءهم موسى بالآيات الشاهدة على صدقه، الدالة على أنه رسول رب العالمين ولكنهم قالوا له: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر قد افتريته من عندك ونسبته لربك وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه، في آبائنا الأولين، حاجهم موسى بالعقل والمنطق، وساق لهم الآيات الشاهدة مصدقة، فكان الجواب والرد الذي يدل على الحماقة ما هذا إلا سحر، وما سمعنا به قديما، وما سمعنا عن دعوتك في آبائنا الأولين.
وقال موسى ردا عليهم: ربي الذي خلق كل شيء، ويعلم الغيب في السموات والأرض أعلم منكم بمن جاء بالهدى والنور من عنده، وهو أعلم بمن تكون له العاقبة الحسنى، والجزاء الأوفى يوم القيامة، ولا يفلح عنده الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة.
ولو كنت كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا على الله لما أعطانى الآيات، ولما هداني إلى الحق والخير الذي أدعو إليه لأنه غنى حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون، وهو القاهر فوق عباده، الخبير بخلقه، لا تخفى عليه خافية وهذا تهديد لهم، وتثبيت لغيرهم.
ولما ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان بالله، وهو في ملأ من قومه، وهذا يحط من شأنه، ويضيع من هيبته، وهو حريص على ذلك جدا، أخذ يقول تارة:
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «١»، ويقول مرة أخرى: إنه سيتخذ الوسيلة للصعود إلى إله موسى ليصفى الحساب معه، ولعله فهم من قول موسى. رب السماء والأرض أنه يجلس في السماء لا في الأرض.
انظر إليه يخاطب القوم، ويقول: يا أيها الملأ- الأشراف ووجوه القوم ما علمت لكم من إله غيرى، يقصد بذلك نفى وجود إليه غيره.
وإذا كان يعتقد أنه هو الإله، ولا إله غيره أبدا فكيف يقول: يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى، وإنى لأظنه من الكاذبين؟! ولعله يقول ذلك من باب التسليم للخصم.
ومن الناس من يدعى رأيا ويقول به، وهو عالم أنه مخطئ فيه، ولكن لأن رأيه على غير أساس، لا يلبث أن يشك فيه ويرجع عنه طمعا، في أنه ربما يصادف شيئا.

هذا فرعون يدعى أنه إله، وأن موسى كاذب في أن للكون إلها، ثم بعد لحظة يأمر وزيره أن يوقد النار، ويخرج الآجر ليبنى له صرحا، وبناء فخما يصعد به إلى السماء لعله يصعد إلى إله موسى ليصفى حسابه معه، ثم يختم آثامه وأقواله التي تدل على الارتباك والتخبط بأنه يشك في صدق موسى، ولكن احتياطا فعل هذا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ.
[غافر ٣٧] كل هذا يحصل، ولم يجد فرعون من قومه وملئه من يقول الحق، أو يهدى إلى الخير أو يمنع الظلم بل كانوا يؤمنون على قوله، وينفذون رغبته، وكان عاقبة أمره وأمرهم خسرا.
استكبر فرعون في الأرض، وطغى وتجبر، وعلا علوّا كبيرا هو وجنوده، كان من أثره ركوب ذلك الشطط، وفعل تلك الخبائث، وكان مبعث ذلك كله أنهم ظنوا بل تيقنوا أنهم إلى الله لا يرجعون.
وانظر إلى الحق- جل جلاله-، وهو يسجل عليهم نهايتهم بعبارة فخمة ضخمة فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «١» نعم كانوا في قبضة الله الذي يقول للشيء كن فيكون كحصيات يجمعها الشخص في الطريق ثم يلقيها في البحر، فانظر أيها الناظر إلى الدنيا بعقلك، المتفكر فيها بقلبك كيف كان عاقبة الظالمين؟!! وصيرناهم أئمة ورؤساء يدعون إلى النار، فيطاعون، وكأنهم بإصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم يأتمرون بهم ويقتدون، ويوم القيامة لا ينصرون أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «٢» وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وطردا، وبعدا عن رحمة الله، ويوم القيامة هم من المقبوحين المطرودين الممقوتين وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود آية ٩٩].
ولقد آتينا موسى التوراة التي هي نور البصائر، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون،
روى أبو سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التّوراة على موسى غير القرية الّتى مسخت قردة»
ألم تر إلى قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «٣» ولعل إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها،
(٢) سورة محمد الآية ١٣.
(٣) سورة القصص الآية ٤٣.