
ناحية «الشَّجَرَةِ» التي أسرق عليها نور الإله العظيم، فأضاء ما حولها، وجاءه النداء الإلهي منها قال ابن عباس هي شجرة عناب وقدست أيضا لذلك السبب ثم فسر ذلك النداء بقوله «أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» ٣١ فلما دنا منها شملته أنوار القدس وأحاطت به جلابيب الأنس، ورأى النور في هيئة النار، وخرطب بألطف خطاب، وصار مكلما شريفا لحضرة رب الأرباب، وقد أعطي ماسئل، وأمن مما خاف، وحظي بالألطاف، قيل لموسى عليه السلام كيف عرفت أنه نداء ربك؟ قال لأني سمعته بجميع أجزائي وعلمت أنه لا يجمع بين النار وخضرة الشجرة إلا الواحد القهار، والجذوة مثلتة الجيم، كالجثوة والرغوة والحضرة والصفوة والربوة والعشوة والنشوة والوجنة والخدعة والفلقة، أي تقرأ بالضم والفتح والكسر، وهي العود الغليظ سواء كان في رأسه نار كقوله:
وألقى على قيس من النار جذوة | شديدا عليها حرها والتهابها |
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها | جذل الجذا غير خوّار ولا دعر |
وبعد أن توطن موسى عليه السلام لكلام ربه عز وجل أراد أن يريه معجزة على نبوته فخاطبه بقوله جل قوله «وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ» فألقاها حالا دون أن يعرف المراد منها ونظر إليها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة، راجع تفسير الآية ١٠ من سورة النمل المارة «وَلَّى» ظهره «مُدْبِراً» عنها «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع لأنه رآها كأنها لم تدع شجرة ولا حجرة إلا بلعتها، وصار يسمع صرير أسنانها وقعقعة الشجر والحجر في جوفها فناداه ربه «يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» ٣٢ لاينالك مكروه منها ولا من غيرها، فرجع حالا وقد عادت العصا على حالتها الاولى راجع الآية ٢١ من سورة طه المارة، فأخذها بيده ثم قال له ربه «اسْلُكْ صفحة رقم 371

يَدَكَ فِي جَيْبِكَ»
هو فتحة الثوب من حيث يدخل رأسه عند اللبس، وأراد منه أن يضعها تحت إبطه ليريه معجزة أخري، بحيث أنّ يده السراء «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، ففعل فإذا هي تبرق كالشمس، ولم يعرف كيف يتمكن من إعادتها لحالتها الأولى، إلا أنه لما عرف إعادة العصا لحالتها الأولى حال أخذها من الأرض، ففعل بيده مثل ما فعل بالعصا بان أعاد يده لإبطه، ثم أخرجها فإذا هي على حالتها الاولى، ولما كان عليه السلام لحقه خوف من هاتين المعجزتين ولا سيما العصا، أراد الله أن يعلمه ما يزيله عنه فقال «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» الخوف، ففعل فذهب عنه الروع وعرف من هذا أنه كلما هاله أمر ضم يديه الى صدره فيزول خوفه بإذن الله تعالى، قال ابن عباس أمر الله نبيه أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الرعب وما من خائف بعد موسى إلا وبضع يده على صدره عند الخوف فيزول خوفه بإذن الله تعالى. قال أبو علي الفارسي هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه، وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه، وقيل ان الرهب بلغة حمير هو كم الثوب، وعليه يكون المعنى والله اعلم، اضمم إليك يدك وأخرجها من كمك وتناول عصاك ولا تخف، فان العصا واليد قد عادتا لحالتهما «فَذانِكَ بُرْهانانِ» آيتان عظيمتان، وحجتان بالغتان، ودليلان قاطعان، على صدق نبوتك «مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» فاذهب إليهم وانما ذكر الضمير مع أنه يعود لمؤنثين مراعاة للخبر الذي هو مذكر، أي ان قلب العصا حية واليد السمراء بيضاء نقية ميزة على الصورة المارة للمذكر، برهانان لك، فإذا طلبوا منك دليلا على دعواك النبوة فاظهرهما إليهم وادعهم للايمان «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ٣٣ خارجين عن الطاعة، متوغلين في العصيان، متجاوزين الحدود «قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» ٣٤ بها والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء عنها، كما زعمت اليهود بانه استعفى ربه من قبول ذلك، وجاء في التوراة الموجودة بأيدينا في الإصحاح الرابع من الخروج الآية ١٤ ما نصه (استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل) وجاء في

بعض النسخ أنه قال (يا ربّ ابعث من أنت باعثه) وهذا من التحريف المحض، راجع الآية ٧٤ من سورة يونس ج ٢ إذ يكذبه قوله تعالى «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» بيانا بالنطق بسبب العقدة التي في لسانه، راجع الآية ١٣ من الشعراء المارة تعلم أن الله أزالها منه «فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي» بزيادة بيانه وتلخيص الدلائل التي أعرضها عليهم، والإجابة عن الشبهات التي يلقونها علي بكلام فصيح لا ركاكة فيه، ويكون عونا لي عليهم، فأتثبت بالمقام وأوضح الكلام «إِنِّي أَخافُ» إذا ذهبت إليهم وحدي «أَنْ يُكَذِّبُونِ» ٣٤ فيتغلبوا عليّ في المجادلة فيظنوني كاذبا في دعواي، فلو كان قصده ما زعمته اليهود لقال أرسل هارون لم يقل اجعله عونا لي ولم يستطرد الكلام إلى الفصاحة، قاتل الله اليهود لم يتركوا شيئا حقا الا عمدوا إلى تغييره، فأجاب الله طلبه «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ» ونقوبك به، وهذا المراد في قوله بصدقي لا أن يقول له صدقت في دعواك كما ذكره الغير، لأن هذا يقدر عليه الفصيح والأبكم (فسحبان وباقل فيه سواء) لأن موسى يريد بقوله هو أفصح مني إلخ أي يقدر على الرد عليهم في المجادلة ببيان أوضح من بياني، وهذه سعادة زفت إلى هرون عفوا من الله إذ جاءته الرسالة بمطلق طلب أخيه المقدر عليها أزلا، ويرحم الله الأبوصيري إذ يقول:
وإذا سخر الإله سعيدا... لأناس فإنهم سعداء
والعضد هو العظم الذي بين الذراع والكتف وبه تشتد اليد لأنه قوامها «وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً» قويا على فرعون وملئه، وغلبة عظيمة، اذهبا إليه لا تخافا أبدا «فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما»
بسوء قط حيث قوينا كما «بِآياتِنا» هذه وغيرها، وقضينا في أزلنا ان يكون «أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» ٣٥ عليهم، وبهذه الآية استدل على عدم تسليط فرعون على السحرة، وعدم تمكنه من إنفاذ تهديده لهم، وهنا انقضت المناجاة الشريفة، فرجع عليه السلام إلى أهله وأخذهم وسار إلى مصر، فوصل إليها واجتمع بأمه وأخيه وأخته، ورآهم على أحسن حال ببركته، ثم ترك أهله وأخذ أخاه وذهب إلى فرعون بجنان قوي،

وصار يدعوه إلى الله على الوجه المار ذكره في سورة الأعراف وطه والشعراء الآيات ١٠٣ و ٤٢ و ١٦ فما بعدها، لأن هذه السورة كالتكملة لما تقدم فيها قال تعالى «فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا» التي لا خفاء فيها «بَيِّناتٍ» وطلب منهما أن يؤمنوا بربّه، ويصدقوا رسالته، «قالُوا ما هذا» الذي جئتنا به من اليد والعصا بشيء يركن اليه بأنه من الله الذي تصفه وما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» مختلق لا صحة له «وَما سَمِعْنا بِهذا» الإله الذي تدعي رسالته وتدعونا لعبادته «فِي» زمن «آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» ٣٦ ولا نحن سمعناه من غيرك وأخيك «وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ» يعني نفسه عليه السلام «وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» المحمودة في هذه الدنيا لأنها هي التي دعا الله إليها عباده وركب فيهم عقولا ترشدهم إليها، ومكنهم منها وحضّهم على العمل فيها «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ٣٧ بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم، ولا ينجون من محذورهم، يريد بقوله عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله للفلاح الأعظم، إذ جعله نبيا، وبعثه بالهدى، ووعده حسن العاقبة، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك، لأنه غني حكيم لم يرسل الكاذبين، ولا ينيء الساحرين، ولا يفلح عنده الظالمون، فلما سمع فرعون من موسى ما أبهر عقله التفت إلى وزرائه وخاطبهم بقوله «قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» يقصد الخبيث إنكار إله موسى وما جاء به من الآيات وتعجب ملئه منه لينكروا عليه أيضا مثل ما أنكر هو، وقال «فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ» كبير وزرائه «عَلَى الطِّينِ» اطبخ لي آجرا وهو أول من طبخه طبخه الله في ناره «فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً» ابن لي قصرا عاليا كالبرج مثل المنارة «لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى» قاتله الله أين هو من إله موسى حتى يطلع عليه قاتله الله. أيظن أنه جل جلاله في مكان كي يصعد اليه، عذبه الله في الصعود راجع الآية ١٧ من المدثر المارة «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» ٣٨ في قوله بوجود إله غيري لهذا الخلق، وأنه أرسله إلي، قال هذا لملئه، قاتله الله، مع علمه ببطلانه وعلمه أن له وللكون أجمع إلها قادرا، ولكنه يموّه عليهم ليستميلهم
صفحة رقم 374