آيات من القرآن الكريم

فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ
ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐ ﭑﭒﭓﭔ ﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ

وأنهم لا يعجّلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم وتوقعهم أن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، وعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده اهـ.
ثم بين سبحانه السبب فى ترك تعجيل العذاب فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي وإن ربك لهو المنعم المتفضل على الناس جميعا بتركه المعاجلة بالعقوبة على المعصية والكفر، ولكن أكثرهم لا يعرفون حق فضله عليهم. فلا يشكره إلا القليل منهم.
ثم أبان سبحانه أنه مطّلع على ما فى قلوبهم فقال:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) يقال كننت الشيء وأكننته:
إذا سترته وأخفيته، أي إن ربك يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر كما قال «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» وقال «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى».
وقصارى ذلك- إنه يعلم ما يخفون من عداوة الرسول ومكايدهم له وما يعلنون، وهو محصيها عليهم ومجازيهم بذلك.
ثم ذكر أن كل ما يحصل فى الوجود فهو محفوظ فى اللوح المحفوظ فقال:
(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي وما من أمر مكتوم وسر خفى يغيب عن الناظرين فى السماء أو فى الأرض إلا وهو فى أم الكتاب الذي أثبت ربنا فيه كل ما هو كائن من ابتداء الخلق إلى يوم القيامة، وهو بيّن لمن نظر إليه وقرأ ما فيه، مما أثبته ربنا جلت قدرته.
ونحوه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ، إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠)
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)

صفحة رقم 16

المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما يتعلق بالنشأة الأولى وأنه خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، وما يتصل بالبعث والنشور وأقام على ذلك الدليل يتلو الدليل بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد- أردف ذلك الكلام فى نبوة محمد ﷺ وأقام الأدلة على صحتها وصدق دعواه فيما يدّعى، وكان من أعظم ذلك القرآن الكريم، لا جرم بين الله تعالى إعجازه من وجوه:
(١) إن ما فيه من القصص موافق لما فى التوراة والإنجيل مع أنه ﷺ كان أميا ولم يخالط أحدا من العلماء للاستفادة والتعلم، فلا يكون ذلك إذا إلا من وحي إلهى من لدن حكيم خبير.
(٢) إن ما فيه من دلائل عقلية على التوحيد والبعث والنبوة والتشريع العادل المطابق لحاجة البشر فى دنياهم وآخرتهم- لا يوجد له نظير فى كتاب آخر، فلا بد أن يكون ذلك من عند الله.
(٣) إنه قد بلغ الغاية فى الفصاحة والبلاغة حتى لم يستطع أحد أن يتصدى لمعارضته مع حرصهم عليها أشد الحرص، فدل ذلك على أنه خارج عن قوى الشر، وأنه من من الملإ الأعلى ومن لدن خالق القوى والقدر.
ثم ذكر بعد ذلك أنه جاء حكما على بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فأبان لهم الحق فى هذا كاختلافهم فى أمر المسيح، فمن قائل هو الله، ومن قائل هو ابن الله، ومن قائل

صفحة رقم 17

إنه ثالث ثلاثة، وقوم يقولون إنه كاذب فى دعواه النبوة، كما نسبوا مريم إلى ما هى منزهة عنه، وقالوا إن النبي المبشّر به فى التوراة هو يوشع عليه السلام أو هو نبى آخر يأتى آخر الدهر. إلى نحو ذلك مما اختلفوا فيه، وأنه لا يحكم إلا بالعدل، فقوله الحق وقضاؤه الفصل.
ثم أمر رسوله ﷺ أن يتوكل عليه فإنه حافظه وناصره، وأن يعرض عن أولئك الذين لا يستمعون لدعوته، لأنهم صم بكم لا يعقلون، والذكرى لا تنفع إلا من له قلب يعى، وآذان تسمع دعوة الداعي إلى الحق فتستجيب لها.
الإيضاح
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن هذا القرآن الذي أنزلته إليك أيها الرسول يقص على بنى إسرائيل الحق فى كثير مما اختلفوا فيه، وكان عليهم لو أنصفوا أن يتبعوه، لكنهم لم يفعلوا وكابروا مع وضوح الحق وظهور دليله كما تفعلون أنتم أيها المشركون.
ثم وصف القرآن بقوله:
(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وإنه لهاد للمؤمنين إلى سبيل الرشاد، ورحمة لمن صدّق به وعمل بما فيه.
وبعد أن ذكر فضله وشرفه أتبعه دليل عدله فقال:
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي إن ربك يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بحكمه العادل، فينتقم من المبطل منهم، ويجازى المحسن بما يستحق من الجزاء، وهو العزيز الذي لا يردّ حكمه وقضاؤه، العليم بأفعال العباد وأقوالهم، فقضاؤه موافق لواسع علمه.
وبعد أن أثبت لنفسه العلم والحكمة والجبروت والقدرة أمر رسوله ﷺ أن يتوكل عليه وحده فقال:

صفحة رقم 18

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي ففوض إلى الله جميع أمورك وثق به فيها، فإنه كافيك كل ما أهمك، وناصرك على أعدائك، حتى يبلغ الكتاب أجله.
ثم علل هذا بقوله:
(إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي أنت على الحق المبين، وإن خالفك فيه من خالفك ممن كتب عليه الشقاء: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ».
ثم أيأسه من إيمان قومه وأنه لا أمل فى استجابتهم لدعوته فقال:
(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) أي إنك لا تقدر أن تفهم الحق من طبع الله على قلوبهم فأماتها، ولا أن تسمعه من أصمهم عن سماعه، ولا سيما أنهم مع ذلك معرضون عن الداعي، مولّون على أدبارهم، وإنما شبههم بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم، وشبههم بالصم البكم ليبين أنه لا أمل فى استجابتهم للدعوة، لأن الأصم الأبكم لا يسمع الداعي بحال.
وظاهر نفى سماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل.
كما
ثبت فى الصحيح «أنه ﷺ خاطب القتلى فى قليب (بئر) بدر فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجسادا لا أرواح لها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم». أخرجه مسلم.
وكما ثبت أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه.
وقصارى ما سلف- إنه تعالى أمره بالتوكل عليه والإعراض عما سواه، لأنه على الحق المبين ومن سواه على الباطل، ولأنه تعالى مؤيده وناصره، ولأنه لا مطمع فى مشايعة المشركين ومعاضدتهم، لأنهم كالموتى وكالصم البكم، فلا أمل فى استجابتهم للدعوة، ولا فى قبولهم للحق.
ثم أكد ما سلف وقطع أطماعه فى إيمانهم على أتم وجه فقال:

صفحة رقم 19
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية