
أَمَّا قَوْلُهُ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِيهِ مُرَتَّبٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْحَاثٍ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيهِ اثْنَتَا عشرة قراءة بَلِ ادَّرَكَ بَلِ ادَّارَكَ بَلْ تَدَارَكَ بَلْ أأدرك بهمزتين بل ءاأدرك بِأَلْفٍ بَيْنَهُمَا بَلْ آدْرَكَ بِالتَّخْفِيفِ وَالنَّقْلُ بَلَ ادَّرَكَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ وَأَصْلُهُ بَلْ أَدَّرَكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ بَلَى أَدْرَكَ بَلَى أَأَدْرَكَ أم تدارك أو أَدْرَكَ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: ادَّارَكَ أَصْلُهُ تَدَارَكَ فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ وَأَدَّرَكَ افْتَعَلَ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: مَعْنَى ادَّرَكَ عِلْمُهُمُ انْتَهَى وَتَكَامَلَ وَأَدْرَكَ تَتَابَعَ وَاسْتَحْكَمَ ثُمَّ فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَسْبَابَ اسْتِحْكَامِ الْعِلْمِ وَتَكَامُلِهِ بِأَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا قَدْ حَصَلَتْ لَهُمْ وَمُكِّنُوا مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَهُمْ شَاكُّونَ جَاهِلُونَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ يُرِيدُ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا مِنْ جُمْلَتِهِمْ نُسِبَ فِعْلُهُمْ إِلَى الْجَمِيعِ كَمَا يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ فَعَلُوا كَذَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ سِيقَتْ لِاخْتِصَاصِ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ وَإِنَّ الْعِبَادَ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنَّ وَقْتَ بَعْثِهِمْ وَنُشُورِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغَيْبِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ، فَكَيْفَ نَاسَبَ هَذَا الْمَعْنَى وَصْفَ الْمُشْرِكِينَ بِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ مَعَ اسْتِحْكَامِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ؟ وَالْجَوَابُ: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ كَيْفَ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَعَ أَنَّهُمْ شَكُّوا فِي ثُبُوتِ الْآخِرَةِ الَّتِي دَلَّتِ الدَّلَائِلُ الظَّاهِرَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَيْهَا فَمَنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الشَّيْءِ الظَّاهِرِ كَيْفَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ الَّذِي هُوَ أَخْفَى الْأَشْيَاءِ الوجه الثَّانِي: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِاسْتِحْكَامِ الْعِلْمِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ كَمَا تَقُولُ لِأَجْهَلِ النَّاسِ مَا أَعْلَمَكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزُءِ وَذَلِكَ حَيْثُ شَكُّوا فِي إِثْبَاتِ مَا الطَّرِيقُ إِلَيْهِ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ الوجه الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ بِمَعْنَى انْتَهَى وَفَنِيَ مِنْ قَوْلِكَ أَدْرَكَتُ الثَّمَرَةَ لِأَنَّ تِلْكَ غَايَتُهَا الَّتِي عِنْدَهَا تُعْدَمُ وَقَدْ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ بِاضْمَحَلَّ عِلْمُهُمْ وَتَدَارَكَ مِنْ تَدَارَكَ بَنُو فُلَانٍ إِذَا تَتَابَعُوا فِي الْهَلَاكِ، أَمَّا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بَلْ أَأَدْرَكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ لِإِدْرَاكِ عِلْمِهُمْ وَكَذَا مَنْ قَرَأَ أَمْ أَدْرَكَ وَأَمْ تَدَارَكَ لِأَنَّهَا أَمْ هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بَلَى أَدْرَكَ فَإِنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِبِلَى بَعْدَ قَوْلِهِ: وَما يَشْعُرُونَ كَانَ مَعْنَاهُ بَلَى يَشْعُرُونَ ثُمَّ فَسَّرَ الشُّعُورَ بِقَوْلِهِ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ شُعُورُهُمْ بِوَقْتِ الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهَا فَيَرْجِعُ إِلَى نَفْيِ الشُّعُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بَلَى أَأَدْرَكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ بَلَى يَشْعُرُونَ مَتَى يُبْعَثُونَ، ثُمَّ أَنْكَرَ عِلْمَهُمْ بِكَوْنِهَا وَإِذْ أُنْكِرَ علمهم بكونها وإذا أُنْكِرَ عِلْمُهُمْ بِكَوْنِهَا لَمْ يَتَحَصَّلْ لَهُمْ شُعُورٌ بِوَقْتِ كَوْنِهَا. فَإِنْ قُلْتَ هَذِهِ الْإِضْرَابَاتُ الثَّلَاثُ مَا مَعْنَاهَا؟ قُلْتُ مَا هِيَ إِلَّا بَيَانُ دَرَجَاتِهِمْ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِأَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَقْتَ الْبَعْثِ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةٌ، ثُمَّ بِأَنَّهُمْ يَخْبِطُونَ فِي شَكٍّ وَمِرْيَةٍ، ثُمَّ بِمَا هُوَ أَسْوَأُ حَالًا وَهُوَ الْعَمَى وَفِيهِ نُكْتَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْآخِرَةَ مَبْدَأَ عَمَاهُمْ فَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِمِنْ دُونَ عَنْ لِأَنَّ الْفِكْرَ بِالْعَاقِبَةِ وَالْجَزَاءُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كالبهائم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٧٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)

اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا تَكَلَّمَ فِي حَالِ الْمَبْدَأِ تَكَلَّمَ بَعْدَهُ فِي حَالِ الْمَعَادِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الْمَعَادِ لَا يَنْشَأُ إِلَّا مِنَ الشَّكِّ فِي كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَوْ فِي كَمَالِ الْعِلْمِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، وَعَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْكِنُهُ تَمْيِيزُ أَجْزَاءِ بَدَنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ عَنْ أَجْزَاءِ بَدَنِ غَيْرِهِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَ التَّرْكِيبَ وَالْحَيَاةَ إِلَيْهَا وَإِذَا ثَبَتَ إِمْكَانُ ذَلِكَ ثَبَتَ صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، لَا جَرَمَ لَمْ يَحْكِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَحَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَعَجَّبُوا مِنْ إِخْرَاجِهِمْ أَحْيَاءً وَقَدْ صَارُوا تُرَابًا وَطَعَنُوا فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا أَيْ هَذَا كَلَامٌ كَمَا قِيلَ لَنَا فَقَدْ قِيلَ لِمَنْ/ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فَهُوَ إِذَنْ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ يُرِيدُونَ مَا لَا يصح من الأخبار، فإن قيل ذكر هاهنا لَقَدْ وُعِدْنا هَذَا نَحْنُ وَآباؤُنا وَفِي آيَةٍ أخرى: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا [المؤمنون: ٨٣] فَمَا الْفَرْقُ؟ قُلْنَا التَّقْدِيمُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُقَدَّمَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ وَأَنَّ الْكَلَامَ سِيقَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ قَدْ بَيَّنَ الدَّلَالَةَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَاطَ بِهِمَا فَقَدْ عَرَفَ صِحَّةَ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ ثَبَتَ أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْهَا وَلَمْ يَتَأَمَّلُوهَا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ الْإِعْرَاضِ حُبَّ الدُّنْيَا وَحُبَّ الرِّيَاسَةِ وَالْجَاهِ وَعَدَمَ الِانْقِيَادِ لِلْغَيْرِ، لَا جَرَمَ اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ؟ جَوَابُهُ: لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى كَيْفَ كَانَ آخِرُ أَمْرِهِمْ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ عَاقِبَةَ الْكَافِرِينَ؟ جَوَابُهُ: الْغَرَضُ أَنْ يَحْصُلَ التَّخْوِيفُ لِكُلِّ الْعُصَاةِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى صَبَّرَ رَسُولَهُ عَلَى مَا يَنَالُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَقَالَ: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فَجَمَعَ بَيْنَ إِزَالَةِ الْغَمِّ عَنْهُ بِكُفْرِهِمْ وَبَيْنَ إِزَالَةِ الْخَوْفِ مِنْ جَانِبِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ كَالتَّكَفُّلِ بِنُصْرَتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ أَيْ فِي حَرَجِ قَلْبٍ يُقَالُ ضَاقَ الشَّيْءُ ضَيْقًا وَضِيقًا بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالضَّيْقُ تَخْفِيفُ الضَّيِّقِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ الوجه الثَّانِي: لِلْكَفَّارِ قَوْلُهُمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ وَقَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ ذَكَرُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ فَأَجَابَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَهُوَ عَذَابُ يَوْمِ بَدْرٍ، فَزِيدَتِ اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٥] أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوُ دَنَا لَكُمْ وَأَزِفَ لَكُمْ، وَمَعْنَاهُ تَبِعَكُمْ وَلَحِقَكُمْ، وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ رَدِفَ لَكُمْ بِوَزْنِ ذَهَبَ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْكَسْرُ أفصح، وهاهنا بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ عَسَى وَلَعَلَّ فِي وَعْدِ الْمُلُوكِ وَوَعِيدِهِمْ يَدُلَّانِ عَلَى صِدْقِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِذَلِكَ