آيات من القرآن الكريم

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﰿ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ

بسم الله الرحمن الرحيم

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي من اتبع دينه وإخراجه عليه السلام يعلم من باب أولى. وقال بعض المحققين: المراد بآل لوط هو عليه السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه، وأيا ما كان فلا تدخل امرأته عليه السلام فيهم، وقوله سبحانه: إِلَّا إلخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «جواب» بالرفع فيكون ذاك واقعا موقع الخبر، وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب، وفي قوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكُمْ بإضافة القرية إلى- كم- تهوين لأمر الإخراج، وقوله جل وعلا: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وهم متكلفون بإظهار ما ليس فيهم، والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه

صفحة رقم 213

السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي بعد إهلاك القوم فالفاء فصيحة إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها أي قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب، وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات، وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك، وهو قوله تعالى: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر: ٦٠].
وقرأ أبو بكر «قدرناها» بتخفيف الدال وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً غير معهود فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس مطر المنذرين مطرهم، وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذكرناه عنده.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، وشرح صدره الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلّم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: ٦].
أمر صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانا لفضلهم وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام، وقوله تعالى في آية أخرى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ١٨١]، وقيل: هذا أمر له صلّى الله تعالى عليه وسلّم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلّى الله تعالى عليهم وسلم، والسلام على غير الأنبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالا مما لا خلاف في جوازه، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقا، وقيل: أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته ومخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة.
فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة، وأخرج عبد بن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم:
هم أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في وَسَلامٌ إلخ: نزلت في أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالا كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة مبتدأة حيث قال: أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه:
آللَّهُ إلخ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتراسلون فآجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها

صفحة رقم 214

شأن انتهى، ولعل جعل ذلك تخلصا من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى الله تعالى عليه وسلّم مع المشركين أولى، وأبعد الأقوال باتصاله بما قبله، وجعل ذلك أمرا للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال: هذه عجمة من الفراء، والظاهر أن سَلامٌ مبتدأ وما بعده خبره، والجملة معطوفة على الْحَمْدُ لِلَّهِ داخلة معه في حيز القول.
وقرأ أبو السمال «الحمد لله» بفتح اللام آللَّهُ بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا والأصل أالله. خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ والظاهر أن (ما) موصولة والعائد محذوف أي (الله) الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام، وخَيْرٌ أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز وجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض، وقيل: خَيْرٌ ليست للتفضيل مثلها في قولك: الصلاة خير تعني خيرا من الخيور، والمختار الأول، واستظهره أبو حيان، وقال: كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر، واستظهر أيضا كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات، وقيل: الخيرية فيما يتعلق بها، وفي الكلام حذف في موضعين، والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون، وقيل: (ما) مصدرية والحذف في موضع واحد، والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك، وأيا ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين، وقيل: لأولئك المهلكين وليس بشيء، وقرأ الأكثرون- تشركون- بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: فَأَنْبَتْنا إلخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣]، تعسف ظاهر من غير داع إليه،
وفي بعض الآثار أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم
، و (أم) في قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا- أن تشركون- المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معا، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأول لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم مِنَ السَّماءِ ماءً أي نوعا منه وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلا، وقيل: أي أنبتنا عنده حَدائِقَ جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال الزمخشري: هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة، وهو مروي عن الضحاك، وقال الراغب:
هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في

صفحة رقم 215

البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الأحداق وتنظر إليها ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كانَ لَكُمْ أي ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره.
وقال ابن عطية: يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له: ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: ١٧] انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد.
وقرأ الأعمش «أمن» بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل ورشح ذلك بقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا أو استئنافا، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: ٢٥، النساء: ٥٧، آل عمران: ١٥] وكذا الحال في ضمير شجرها.
وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات» بالجمع «بهجة» بفتح الهاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية، وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:
٢٥، الزمر: ٣٨] بل بإشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل: أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة، وقيل: المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: ٩١] والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط.
وقرأ هشام عن ابن عامر «آاله» بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «أإلها» بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون.
بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم ويَعْدِلُونَ من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن

صفحة رقم 216

الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك، وقيل: من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم، وروي ذلك عن ابن زيد، والأول أنسب بما قبله، وقيل: الكلام عليه خال عن الفائدة.
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم- فقرارا- بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائدة على ذلك أتم، والجعل إن كان تصييريا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة، وجملة قوله تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ
إلخ على ما قيل: بدل من قوله سبحانه: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد، وقال بعض الأجلة: الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف، وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه وَجَعَلَ خِلالَها أي أوساطها جمع خلل، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى: أَنْهاراً وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني- لجعل- وأَنْهاراً هو المفعول الأول، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها وَجَعَلَ لَها أي لصلاح أمرها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت فإن لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها، وذكر لَها دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل.
وإرجاع ضمير لَها للأنهار ليكون المعنى وجعل لإمدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والملح- عن الضحاك- أو بحري فارس والروم- عن الحسن- أو بحري العراق والشام- عن السدي- أو بحري السماء والأرض- عن مجاهد- حاجِزاً فاصلا يمنع من الممازجة، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي شيئا من الأشياء معتدا به ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى الله عز وجل، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له، وقيل: المراد بذلك المذنب إذا استغفر، واللام فيه على ما قيل: للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب.
وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام: ٤١]، ومع هذا كره النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يقول الشخص: اللهم اغفر لي إن شئت
وقال عليه الصلاة والسلام: «إنه سبحانه لا مكره له»
، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا، وقال صاحب الفرائد: ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في

صفحة رقم 217

الآخرة، وذلك أن الدعاء طلب شيء. فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده اهـ.
وظاهره حمله على الاستغراق من دون تقييد للإجابة، ولا يخفى أنه إذا فسرت الإجابة بإعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لا بقطع سؤاله سواء كان بالإعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره، وقال العلامة الطيبي: التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجأون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام، ويدل على التنبيه قوله تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قال صاحب المفتاح: كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله تعالى دون أصنامهم، فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يجيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ فلا يكون المضطر عاما ولا الدعاء فإنه مخصوص بمثل قضية الفلك، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: ٢٢] الآية اهـ.
وأنت تعلم أنه بعيد غاية البعد، ولعل الأولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحانه لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية فافهم وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع عن الإنسان ما يعتريه من الأمر الذي يسوءه، وقيل: الكشف أعم من الدفع والرفع، وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العام على الخاص، وقيل: المعنى ويكشف سوءه أي المضطر، أو ويكشف عنه السوء والعطف من قبيل عطف التفسير فإن إجابة المضطر هي كشف السوء عنه الذي صار مضطرا بسببه وهو كما ترى.
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها بعدهم، وقيل: المراد بالخلافة الملك والتسلط، وقرأ الحسن ونجعلكم بنون العظمة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي هذه شؤونه ونعمه تعالى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا تتذكرون- فقليلا- نصب على المصدرية، أو على الظرفية لأنه صفة مصدر أو ظرف مقدر، وما- مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى، ومفعول تَذَكَّرُونَ محذوف للفاصلة، فقيل: التقدير تذكرون نعمه، وقيل: تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام، وقيل: تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور، ولعل الأولى نعمه المذكورة، وللإيذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه كان التذييل بنفي التذكر، وقرأ الحسن والأعمش وأبو عمرو- يذكرون- بياء الغيبة، وقرأ أبو حيوة- «تتذكرون» - بتاءين أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر بالنجوم ونحوها من العلامات، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما، وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازا فإنها كالظلمات في إيجاب الحيرة.
وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ نفي لأن يكون معه سبحانه إله آخر، وقوله تعالى: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تقرير وتحقيق له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدرته عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى، أو تعالى الله عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية أي تعالى الله عن إشراكهم، وقرىء «عما تشركون» بتاء الخطاب.

صفحة رقم 218

أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي يوجده مبتدئا له ثُمَّ يُعِيدُهُ يكرر إيجاده ويرجعه كما كان، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالإجماع، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين، وتفصيله في محله.
واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف؟ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار وقيل: إن منهم من اعترف بها، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين أَإِلهٌ آخر موجود مَعَ اللَّهِ حتى يجعل شريكا له سبحانه في العبادة، وقوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه عز وجل إلها، وقيل: أي هاتوا برهانا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز وجل، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأنى لهم ذلك، وقيل: إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل: نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهانا يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك، ومع هذا أنتم عاجزون عن الإتيان به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في تلك الدعوى، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان.
هذا وفي الكشف أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى، فأجمل أولا بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى: آللَّهُ ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السماوات والأرض تمهيدا لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى:
ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لونا وطعما ورائحة واسترواح ظل.
ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لا يستحق، والأول أظهر، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيرا وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قرارا وما عقبه، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الإنبات، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور، وأسوأ منه وأسوأ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو لصيق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار، وعم بكشف السوء والمضار، هذا فيما يرجع إلى دفع المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعا وأهم، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطرادا لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم.
ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الإيجاد والإعادة، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها، وعقبه بإجمال

صفحة رقم 219

يتضمن جميع ما عدده أولا وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين، ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس (١) وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب اهـ.
وفي غرة التنزيل للراغب ما يؤيده، وقد لخصه الطيبي في شرح الكشاف، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ بعد ما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العاملة عقب بذكر ما لا ينفك عنه، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث، وفي البحر قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة- التي وعدوها- الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم وألحوا عليه عليه الصلاة والسلام فنزل قوله: قُلْ لا يَعْلَمُ الآية، فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أتم مناسبة، والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف، والغيب مفعوله، والاسم الجليل مرفوع على البدلية من مَنْ والاستثناء على ما قيل: منقطع تحقيقا متصل تأويلا على حدّ ما في قول الراجز:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
بناء على إدخال اليعافر في الأنيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السماوات والأرض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل: إن كان الله تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله تعالى منهم، ونظير هذا مما لا استثناء فيه قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع وقيل: هو منقطع على حد الاستثناء في قوله:
عشية ما تغني الرماح مكانها... ولا النبل إلا المشرفي المصمم
يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، وقد ذكرهما سيبويه، وذكر ابن مالك أن الأصل فيهما: ما أتاني أحد إلا عمرو، وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة، ولكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي دفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به، فذكر تأكيدا، وعليه يكون الأصل في الآية لا يعلم أحد الغيب إلا الله فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السماوات والأرض، والبعض الآخر من ليس فيهما، ويكفي في كونه مدلولا له صدقه عليه ولا يجب في ذلك وجوده في الخارج، فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجلة الإسلاميين من قال بوجود شيء غير الله عز وجل، وليس في السماوات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فإنها لا مكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة، وقال: إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميمي. والحجازي كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: ٤٣]، فإن الاستغناء فيه بالمستثنى عما قبله ممتنع إلا بتكلف، وزعم المازني أن اتباع المنقطع من تغليب

(١) قوله: فيما ليس، وسجل إلخ هكذا في نسخة المؤلف اهـ.

صفحة رقم 220

العاقل على غيره، ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد- كما قال ابن خروف- لأن ما يبدل منه في هذا الباب غير ما ذكر أكثر من أن يحصى اهـ.
وكلام الزمخشري يوهم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه، وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما، ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق، وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها، وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما تتأتى إذا جعل الاستثناء منقطعا تحقيقا متصلا تأويلا، ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله: «وبلدة» إلخ، وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم: ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه فتدبر، وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السماوات والأرض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة، وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال، وقيل: يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لا بنحو استقر مما لا يصح نسبته إليه سبحانه على الحقيقة أي لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله، ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا، وهذا وما قبله كما ترى، واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم،
فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله»
، وأجيب بأن ذلك مما يذم إذا صدر من البشر أما إذا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع،
فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث
، ولعل مدار الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها، وقد قيل في حديث أنس: النكتة في تثنية الضمير الإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، والنكتة في إفراده في حديث عدي الإشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر، وجوز أن يعرب من مفعول- يعلم. والغيب- بدل اشتمال منه، والاسم الجليل فاعل يَعْلَمُ ويكون استثناء مفرغا أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله ولا يخفى بعده.
والغيب في الأصل مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وكون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عز وجل فإنه سبحانه لا يغيب عنه تعالى شيء لكن لا يجوز أن يقال: إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه ليقال يعلمه، وقد شنع الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بالإمام الرباني في مكتوباته- على من قال ذلك قاصدا ما ذكر- أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء، والظاهر عموم الغيب، وقيل: المراد به الساعة، وقيل: ما يضمره أهل السماوات والأرض في قلوبهم، وقيل: المراد جنس الغيب، ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عز وجل نفي علم كل فرد من أفراده عن ذلك الغير، ولا يضر في ذلك أن الآية لا تدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عز وجل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من

صفحة رقم 221

ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك، وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه، وتعقب بأن الغيب من حيث إنه غيب لا يتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل.
واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السماوات والأرض كل غيب إلا الله فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السماوات والأرض من يعلم بعض الغيوب، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك، ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يخبر الناس بما يكون في غد. وفي بعض الروايات.
يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له: أتعلم الغيب؟ فقال: نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: ٥٩]، وقوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: ٢٦، ٢٧] ما نصه: وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الجن: ٢٦] الآية، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئا، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى.
ولعل الحق أن يقال: إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السماوات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السماوات والأرض إشارة إلى علة الحكم، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز وجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال:
إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا، وإنما يقال: إنهم أظهروا أو اطلعوا. بالبناء للمفعول، على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال: يجوز على هذا أن يقال: أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف، ومتى جاز هذا جاز أن يقال: علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول: لا كلام في جواز. أعلم.
بالبناء للمفعول، وإنما الكلام في قولك: ومتى جاز هذا جاز أن يقال إلخ، فنقول: إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعا استعماله، وإن أريد الجواز شرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وغيرها وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال الله سبحانه: «لا يعلم الغيب» متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه، وقد شنعوا أيضا على من قال: أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت، وبالفتنة المال أو الولد، وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى. نعم لا يكفر قائل

صفحة رقم 222

ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله، ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لا يثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضا إلا أنه في نسبته لشيء منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفي تلك الواسطة لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به عز وجل ونفيه عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لالتزم فيه ما التزم فيه، وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلّم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم: إنهم عالمون بالغيب، وقائله إما كافر أو مسلم آثم، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى، والتأهل له قد يكون فطريا، وقد يكون كسبيا، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقا عظيما عند المحققين، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة، ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم، فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة، وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إذ هي وإن كانت غائبة عنا إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران والتثليث والتسديس والمقابلة ونحو ذلك، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشىء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويا مثلا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارا معينا من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبا فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علما حقيقيا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء الله تعالى.
وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلا أو بعضا مخصوص بالله جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلا، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب، ويلتزم أن القاعدة أغلبية. وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه والله تعالى أعلم.
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهم الأمور عندهم- فأيان- اسم استفهام عن الزمان، ولذا قيل: إن أصلها أي آن أي أيّ زمان، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة

صفحة رقم 223

ليبعثون، والجملة في موضع النصب. بيشعرون. وعلقت يَشْعُرُونَ لمكان الاستفهام، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعا، وقيل: الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم، وفيه بحث.
وقرأ السلمي. «إيان». بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره، وأصل ادَّارَكَ تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بعلمهم. والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء، وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفني ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لا حظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع.
وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها، وقوله سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة، فالمراد عَمُونَ عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا، ومِنْها متعلق بعمون، قدم عليه رعاية للفواصل، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك.
وجوز أن يكون ادَّارَكَ بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزء، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولا.
وجوز أيضا أن يكون المراد بالإدراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة.
وقال الكرماني: التدارك التتابع، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها، فنفاهم بعضهم. وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه.
وقيل: إن في الآخرة متعلق. بادّارك. وإليه ذهب الزجاج والطبرسي، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس

صفحة رقم 224

رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع.
وقيل: التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاء فتدبر.
وقرأ أبيّ أم «تدارك». على الأصل وجعل أم بدل بَلِ، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء على وزنه افتعل، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم: اثرد وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام «بل»، وروى ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة. «بل أدرك». على وزن أفعل بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن. «بل آدّرك».
بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد «بل» لأن بل للإيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: ١٩]، أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار اهـ.
وقد أجاز بعض المتأخرين، كما قال أبو حيان، الاستفهام بعد بَلِ وشبهه بقول القائل: أخبزا أكلت، بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني، وقرأ مجاهد «أم أدرك» جعل أم بدل بَلِ وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس في رواية أيضا «بل أدارك» بهمزة داخلة على ادَّارَكَ فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضا والأعرج. «بل أدرك». بهمزة، وادغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا، وقرأ ورش في رواية. «بل ادّرك».
بحذف همزة أدرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضا. «بلى أدرك». بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرأ. «بل آإدّارك». بألف بين الهمزتين، فهذه عدة قراءات فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم: إن كان يلي جوابا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم: بلى إيجابا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ اهـ، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا، وقال بعض المحققين: ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منها عمون فهو على منوال:

صفحة رقم 225
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية