
قال ابن عباس: يريد: هم ولا من اتخذوه عن دوني أولياء ﴿أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ متى يكون البعث (١). وهذا احتجاج عليهم بأن الله هو الذي يعلم ما غاب عن العباد، وأنه هو الذي يعلم متى البعث، لا غيره.
٦٦ - قوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾ ﴿ادَّارَكَ﴾ معناه: تدارك، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها، وكونها من حيزها، فلما سكنت للإدغام اجتلبت لها همزة الوصل، كما اجتلبت في قوله: ﴿فَادَّارَأْتُمْ﴾ [البقرة: ٧٢]، و ﴿اطَّيَّرْنَا﴾ [النمل: ٤٧]، ونحوه. ومنه قوله: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ٣٨]، أي: تلاحقوا (٢).
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿بَلْ أَدْرَكَ﴾ (٣).
(١) "تنوير المقباس" ٣٢٠. وهو في "مجاز القرآن" ٢/ ٩٥. و"غريب القرآن" لابن قتيبة ٣٢٦. و"تفسير الهواري" ٣/ ٢٦٢. و"معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٧، ولم ينسبوه.
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠١. و"تأويل مشكل القرآن" ٣٥٤. وذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٨. وابن جني في "المحتسب" ٢/ ١٤٣. قال ابن الجزري:
والطاءُ والدالُ وتا منه ومِن | عُليا الثنايا والصفيرُ مستكنْ |
قوله: منه، أي: من طرف اللسان، ومن أصول عليا الثنايا، وهي الأسنان المتقدمة، اثنتان فوق، واثنتان تحت. وأما قوله: (والصفير مستكن) فهو وصف لما ذكره بعد ذلك من الحروف. "الدقائق المحكمة في شرح المقدمة"، لأبي زكريا الأنصاري ١٠. ويسمى إدغام متقاربين. "منحة ذي الجلال في شرح تحفة الأطفال" ٨٣.
(٣) قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿بَلْ أَدْرَكَ﴾ خفيفة لغير ألف، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ بالألف ممدودة. وروى المفضل عن =

[ومعنى أدرك:] (١) بلغ ولحق، يقال: فلان أدرك الحسن، إذا لحق أيامه. وتقول على هذا: أدركه علمي، أي: بلغه ولحقه (٢).
وقال شمر: أدرك، وتدارك، وادَّارك، وادَّرَك، واحد؛ يقال: أَدْرَكته، وتدارَكته، وادَّارَكته، وادَّرَكته (٣)، وأنشد لزهير:
تداركتما عَبْسًا وذُبيانَ بعدما (٤)
وأنشد للطِرمَّاح:
فلما أدركناهن أبدينَ للَّهوى (٥)
قال ابن عباس: يريد ما جهلوا في الدنيا، وسقط علمه عنهم علموه في الآخرة (٦).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة: (ب).
(٢) "الحجة للقراء السبعة" ٥/ ٤٠٠.
(٣) في "تهذب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك) عن شمر: أدرك الشيء وأدركته وتدارك القوم، واداركوا، وأدركوا، إذا أدرك بعضهم بعضًا. ويقال: تداركته، وادّاركته، وادّركته.
(٤) شطر بيت من معلقة زهير، يقول: تلافيتما أمر هاتين القبيلتين بعدما أفنى القتال رجالهما، ويعني بهما: هرم ابن سنان، والحارث بن عوف. "ديوان زهير" ٧٩. وأنشد البيت الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك).
(٥) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك). وعجز البيت:
محاسن واستولين دون محاسن
وهو في "ديوان الطرماح" ٢٦٧.
(٦) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٧، عن ابن عباس، من طريق عطاء الخراساني: بصرهم في الآخرة حين لم ينفعهم العلم والبصر. ومن طريق علي بن أبي طلحة، بلفظ: غاب =

وقال مقاتل: يقول: بل علموا في الآخرة حين عاينوها ما شَكُّوا وعموا عنه في الدنيا (١).
وقال السدي: اجتمع عليهم يوم القيامة فلم يَشُكُّوا ولم يختلفوا (٢).
قال أبو معاذ النحوي: من قرأ: ﴿بَلْ أدْرَكَ﴾ أو قرأ: في ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ فمعناهما واحد؛ يقول: هم علماءُ في الآخرة، [ومعناها عنده: علموا في الآخرة أن الذي] (٣)، كقوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: ٣٨] (٤).
وروى (٥) أبو تراب عن أبي سعيد الضرير (٦) أنه قال: أما أنا فأقرأ: (بَلْ أدرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الأَخِرَةِ) ومعناها عنده: علموا في الآخرة أن الذي
(١) تفسير مقاتل" ٦١ ب.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم ٩/ ٢٩١٥.
(٣) هكذا في نسخة: (أ)، (ب)، وهو ساقط من نسخة (ج). ولعل ما بعده هو: أن الذي كانوا يوعدون حق.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤. قال الواحدي في تفسير هذه الآية: قال قتادة: ذلك والله يوم القيامة، سمعوا حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر. وقال الحسن: لئن كانوا في الدنيا صُمًا عُميًا عن الحق، فما أبصرهم وأسمعهم يوم القيامة. "الوسيط" ٣/ ١٨٤.
(٥) في نسخة: (ب): قال أبو تراب.
(٦) أحمد بن خالد، أبو سعيد البغدادي، الضرير، اللغوي، لقي ابن الأعرابي، وأبا عمرو الشيباني، قدم نيسابور، وأقام بها، وأملى بها كتبًا في معاني الشعر والنوادر، وأخذ عن ابن قتيبة. "إنباه الرواة على أنباه النحاة" ١/ ٧٦، و"بغية الوعاة" ١/ ٣٠٥.

كانوا يوعدون حق (١).
وأنشد للأخطل:
وأدْركَ علمي في سواءةَ أنها | تُقيم على الأوتار والمشربِ الكَدْر (٢) |
وأما الفراء وكثير من المفسرين وأهل المعاني فقد تخبطوا في هذه الآية [وذهبوا إلى ما لا وجه له (٤)؛ قال الأزهري: والقول في أدرك، وادارك، في هذه الآية] (٥) ما قال السدي وأبو معاذ (٦). ولا معنى لما قال الفراء، ولم أحك قوله، ولا قول من حذا حذوه، لتشوشه واضطرابه. وروي عن مجاهد أنه قال: بل تواطأ علمهم في الآخرة (٧).
(٢) بيت من قصيدة له في هجاء قبائل قيس، وسواءة: من قيس عيلان، مراده أن بني سواءة يرضون بما قد يصيبهم من الذل، والهوان. "شرح ديوان الأخطل" ١٥٦. وذكر البيت الأزهري، "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، من إنشاد أبي سعيد الضرير.
(٣) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك)، و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤، من إنشاد أبي سعيد الضرير.
(٤) قال الفراء ٢/ ٢٩٩: معناه: لعلهم تدارك علمهم. يقول: تتابع علمهم في الآخرة. يريد: بعلم الآخرة أنها تكون أو لا تكون. وذكر نحوه ابن قتيبة غريب القرآن ٣٢٦، وابن جرير ٢٠/ ٦. وذكر الهواري ٣/ ٢٦٢، عن الحسن: أي: لم يبلغ علمهم في الآخرة، أي: لو بلغ عحهم أن الآخرة كائنة لآمنوا بها في الدنيا كما آمن المؤمنون.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ج).
(٦) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك). و"معاني القراءات" للأزهري ٢/ ٢٤٤.
(٧) أخرج ابن جرير ٢٠/ ٧: بلفظ: أم أدرك علمهم من أين يدرك علمهم. وأخرجه =

قال الأزهري: وهذا يوافق قول السدي؛ لأن معنى: تواطأ تحقق واتفق حين لا ينفعهم (١).
وقال أبو إسحاق: من قرأ: (بَلِ ادَّارَكَ) وهو الجيد؛ فعلى معنى: بل تدارك، أي: بل تكامل علمهم يوم القيامة بالبعث، وبأن كلَّ ما وعدوا حق. قال: ومن قرأ: (بَلْ أدْرَكَ) فهو على معنى: التقرير والاستخبار؛ كأنه قيل: لم يُدرك علمهم بالآخرة، أي: ليس يقفون في الدنيا على حقيقتها، ثم بيَّن ذلك في قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا﴾ وقالوا في تفسير: (بَلْ أدرَكَ) أم أدرك. هذا كلامه (٢).
وقد فَصَل الزجاج بين القراءتين، فجعل القراءة الثانية استفهامًا بمعنى الإنكار، وحرف الاستفهام: (بل)، الذي هو بمعنى: (أم)، وبهذا قال جماعة، وأنشدوا أبياتًا؛ منها قوله:
أمِ النومُ أمْ كلٌّ إليَّ حبيبُ (٣)
(١) "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٣ (درك).
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١٢٧. وذكر نحوه النحاس، "إعراب القرآن" ٣/ ٢١٨.
(٣) أنشده الفراء، "معاني القرآن" ٢/ ٢٩٩، كاملًا، ولم ينسبه، وصدره:
فواللَّه ما أدري أسلمى تغولت
يقال: تغولت المرأة: إذا تلونت. "تهذيب اللغة" ٨/ ١٩٣ (غال). وأنشده كذلك ابن جرير ٢٠/ ٨. وذكره الأزهري من إنشاد الفراء، "تهذيب اللغة" ١٠/ ١١٢ (درك). ولم ينشده الزجاج عند هذه الآية. وأنشده الثعلبي ٨/ ١٣٤ أ، ولم ينسبه. ونسب لعقبة المضرب برواية:
فوالله ما أدري أسلمى تفولت | أم الحلم أم كل إلى حبيب |