المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن «سليمان بن داود» الذي جمع الله له بين «النبوة والمُلْك» فكان نبياً ملكاً، وسخر له الإِنس والجن وعلمه منطق الطير، وتذكر الآيات هنا قصته مع «بلقيس» ملكة سبأ وما كان من الأمور العجيبة التي حدثت في زمانه.
اللغَة: ﴿تَفَقَّدَ﴾ التفقد: طلب ما غاب عن الإِنسان ﴿الخبء﴾ : الشيءُ المخبوء من خبأتُ الشيء أخبؤه خبأَ إذا سترته ﴿صَاغِرُونَ﴾ أذلاء مهانون من الصَّغار وهو الذل ﴿عِفْرِيتٌ﴾ العفريب: القويُ المارد من الشياطين ومن الإِنس، والخبيث الماكر ﴿الصرح﴾ القصر، وكلُّ بناءٍ عال مرتفع يسمى صرحاً ومنه قول فرعون «يا هامان ابن لي صَرْحاً» ﴿مُّمَرَّدٌ﴾ الممرَّد: المملَّس، والأمرد الذي لم تخرج لحيته بعد إداركه، وشجرةٌ مرداء: لا ورقَ عليها ﴿قَوارِيرَ﴾ جمع قارورة وهي الزجاجة.
التفسِير: ﴿وَتَفَقَّدَ الطير﴾ أي بحث سليمان وفتش عن جماعة الطير ﴿فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾ أي لم لا أرى الهُدهد هاهنا؟ قال المفسرون: كانت الطير تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها، فلما فصل سليمان عن وادي النمل ونزل في قفرٍ من الأرض عطش الجيش فسألوه الماء، وكان الهدهد يدله على الماء فإِذا قال: هاهنا الماء شقت الشياطين وفجَّرت العيون، فطلبه في ذلك اليوم فلم يجده فقال مالي لا أراه ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ أمْ منقطعة بمعنى «بل» أي بل هو غائب، ذهب دون إذنٍ مني ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ أي لأعقبنه عقاباً أليماً بالسجن أو نتف الريش أو الذبح أو ليأتيني بحجة واضحة تبيّن عذره ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أي فأقام الهدهد زماناً يسيراً ثم جاء إلى سليمان ﴿فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أي اطلعت على ما لم تطّلع عليه وعرفت ما لم تعرفه ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ أي وأتيتك من مدينة سبأ - باليمن - بخبرٍ هام، وأمر صادقٍ وخطير ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ﴾ أي من عجائب ما رأيت أن امرأة - تسمى بلقيس - هي ملكة لهم، وهم يدينون بالطاعة لها ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي وأُعطيت من كل شيء من الأشياء التي
يحتاج إليها الملوك من أسباب الدنيا من سعة المال وكثرة الرجال ووفرة السلاح والعتاد ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ أي ولها سرير كبير مكلَّل بالدر والياقوت قال قتادة: كان عرشُها من ذهب، قوائمُه من جوهر، مكلَّل باللؤلؤ قال الطبري: وعنى بالعظيم في هذا الموضع العظيم في قدرة وخطره، لا عِظمه في الكبر والسعة، ولهذا قال ابن عباس: ﴿عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ أي سرير كريم حسن الصنعة، وعرشُها سريرٌ من ذهب قوائمُه من جوهرٍ ولؤلؤ، ثم أخذ يحدثه عما هو أعظم وأخطر فقال ﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله﴾ أي وجدتهم جميعاً مجوساً يعبدون الشمس ويتركون عبادة الواحد الأحد ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ أي حسَّن لهم إبليسعبادتهم الشمس وسجودهم لها من دون الله ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل﴾ أي منعهم بسبب هذا الضلال عن طريق الحق والصواب ﴿فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي فهم بسبب إغواء الشيطان لا يهتدون إلى الله وتوحيده، ثم قال الهدهد متعجباً ﴿أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض﴾ أي أيسجدون للشمس ولا يسجدون للهِ الخالق العظيم، الذي يعلم الخفايا ويعلم كل مخبوء في العالم العلوي والسفلي؟ قال ابن عباس: يعلم كل خبيئةٍ في السماء والأرض ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ أي ويعلم السرَّ والعلن، ما ظهر وما بطن ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم﴾ أي هو تعالى المتفرد بالعظمة والجلال، ربُّ العرش الكريم المستحق للعبادة والسجود، وخصَّ العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات، وإِلى هنا انتهى كلام الهُدهد ﴿قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾ أي قال سليمان: سننظر في قولك ونتثبت هل أنت صادقٌ أم كاذب فيه؟ قال ابن الجوزي: وإِنما شكَّ في خبره لأنه أنكر أن يكون لغيره سلطان، ثم كتب كتاباً وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهُدهد وقال ﴿اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ﴾ أي اذهب بهذا الكتاب وأوصلْه إلى ملكة سبأ وجندها ﴿ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ أي تنحَّ إلى مكان قريب مستتراً عنهم ﴿فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ أي فانظر ماذا يردون من الجواب؟ قال المفسرون: أخذ الهدهد الكتاب وذهب إلى بلقيس وقومها، فرفرف فوق رأسها ثم ألقى الكتاب في حجرها ﴿قَالَتْ ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ﴾ أي قالت لأشراف قومها إنه أتاني كتاب عظيم جليل ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم﴾ أي إن هذا الكتاب مرسل من سليمان ثم فتحته فإِذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم وهو استفتاح شريفٌ بارع فيه إعلان الربوبية لله ثم الدعوة إلى توحيد الله والانقياد لأمره ﴿أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ أي لا تتكبروا عليَّ كما يفعل الملوك وجيئوني مؤمنين قال ابن عباس: أي موحدين، وقال سفيان: طائعين ﴿قَالَتْ ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي﴾ أي أشيروا عليَّ في الأمر ﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ﴾ أي ما كنتُ لأقضي أمراً بدون حضوركم ومشورتكم ﴿قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي نحن أصحابُ كثرةٍ في الرجال
صفحة رقم 374والعتاد، وأصحابُ شدةٍ في الحرب ﴿والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ ؟ أي وأمرنا إليكِ فمرينا بما شئتِ نمتثل أمرك، وقولهم هذا دليلٌ على الطاعة المفرطة قال القرطبي: أخذتْ في حسن الأدب مع قومها ومشاورتهم في أمرها في كل ما يعرض لها، فراجعها الملأ بما يُقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلّموا الأمر إلى نظرها، وهذه محاوة حسنة من الجيمع قال الحسن البصري: فوَّضوا أمرهم إلى عِلجةٍ يضطرب ثدياها، فلا قالوا لها ما قالوا كان هي أحزم منهم رأياً وأعلم ﴿قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ أي إن عادة الملوك أنهم إذا استولوا على بلدةٍ عنوةً وقهراً خربوها ﴿وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً﴾ أي أهانوا أشرافها وأذلوهم بالقتل والأسر والتشريد ﴿وكذلك يَفْعَلُونَ﴾ أي وهذه عادتهم وطريقتهم في كل بلدٍ يدخلونها قهراً، ثم عدلت إلى المهادنة والمسالمة فقالت ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون﴾ أي وإِني سأبعث إلأيه بهدية عظيمة تليقُ بمثله، فأنظر هل يقبلها أن يردُّها؟ قال قتادة: ما كان أعقلها في إسلامها وشركها!! علمتْ أن الهدية تقع موقعاً من الناس، وقال ابن عباس: قالت لقومها إن قبِلَ الهدية فهو ملك يريد الدنيا فقاتلوه، وإِن لم يقبلها فهو نبيٌ صادق فاتبعوه ﴿فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ﴾ ؟ أي فلما جاء رسل بلقيس إلى سليمان بالهدية العظيمة قال منكراً عليهم: أتصانعونني بالمال والهدايا لأترككم على كفركم وملككم؟ ﴿فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ﴾ أي فما أعطاني الله من النبوة والمُلك والواسع خيرٌ مما أعطاكم من زينة الحياة فلا حاجة لي بهديتكم ﴿بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾ أي أنتم تفرحون بالهدايا لأنكم أهل مفاخرةٍ ومكاثرة في الدنيا، ثم قال لرئيس الوفد ﴿ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا﴾ أي ارجع إليهم بهديتهم فواللهِ لنأتينَّهم بجنودٍ لا طاقة لهم بمقابلتها، ولا قدرة لهم على مقاتلتها ﴿وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ أي ولنخرجنهم من أرضهم ومملكتهم أذلاء حقيرين إن لم يأتوني مسلمين قال ابن عباس: لما رجعت رسلُ بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت قد عرفت ما هذا بملك، وما لنا به طاقة، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك، وما تدعو إليه من دينك ثم ارتحلْت إلى سليمان في اثني عشر ألف قائد ﴿قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ؟ أي قال سليمان لأشراف من حضره من جنده: أيكم يأتيني بسريرها المرصَّع بالجواهر قبل أن تصل إليَّ مع قومها مسلمين؟ قال البيضاوي: أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب، الدالة على عظيم القدرة، وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكّر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟ ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ أي قال ماردٌ من مردة الجنِّ: أنا أحضره إليك قبل أن تقوم من مجلس الحكم - وكان يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم - وغرضُه أنه يأتيه به في أقل من نصف نهار ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾ أي وإِني على حمله لقادرٌ، وأمينٌ على ما فيه من الجواهر والدُّر وغير ذلك ﴿قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ قال المفسرون:
صفحة رقم 375
هو «آصف بن برخيا» كان من الصِّدقين يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وهو الذي أتى بعرش بلقيس وقال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك أي آتيك به بلمح البصر فدعا الله فحضر العرشُ حالاً ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾ أي فلما نظر سليمان ورأى العرش - السرير - حاضراً لديه قال: هذا من فضل الله عليَّ، وإِحسانه إليَّ ﴿ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ ؟ أي ليختبرني أأشكر إنعامه، أم أجحد فضله وإِحسانه؟ ﴿وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ أي ومن شكر فمنفعة الشكر لنفسه، لأنه يستزيد من فضل الله
﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧] ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ أي ومن لم يشكر وجحد فضل الله فإِن الله مستغنٍ عنه وعن شكره، كريمٌ بالإِنعام على من كفر نعمته.. ولما قرُب وصولُ ملكة سبأ إلى بلاده أمر بأن تُغيَّر بعضُ معالم عرشها امتحاناً لها ﴿قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا﴾ أي غيّروا بعض أوصافه وهيئته كما يتنكر الإِنسان حتى لا يُعرف ﴿نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ﴾ أي لننظر إذا رأته هل تهتدي إلى أنه عرشها وتعرفه أم لا؟ أراد بذلك اختبار ذكائها وعقلها ﴿فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾ ؟ أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك؟ ولم يقل: أهذا عرشك؟ رئلا يكون تلقيناً لها ﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي يشبهه ويقاربه ولم تقل: نعم هو، ولا ليس هو قال ابن كثير: وهذا غاية في الذكاء والحزم ﴿وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾ هذا من قول سليمان أي قال سليمان تحدثاً بنعمة الله: لقد أوتينا العلم من قبل هذه المرأة بالله وبقدرته وكنا مسلمين لله من قبلها، فنحن أسبقُ منها علماً وإِسلاماً ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله﴾ أي منعها عن الإِيمان بالله عبادتُها القديمة للشمس والقمر ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ أي بسبب كفرها ونشوئها بين قوم مشركين ﴿قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح﴾ أي ادخلي القصر العظيم الفخم ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا﴾ أي فلما رأت ذلك الصرح الشامخ ظنته لجة ماء - أي ماءً غمراً كثيراً - وكشفت عن ساقيها لتخوض فيه ﴿قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ﴾ أي قال سليمان: إنه قصر مملَّس من الزجاج الصافي ﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ أي قالت بلقيس حينئذٍ: ربّ إني ظلمت نفسي بالشرك وعبادة الشمس ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وتابعتُ سليمان على دينة فدخلت في الإِسلام مؤمنةً برب العالمين، قال ابن كثير: والغرضُ أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج لهذه الملكة، ليريها عظمة سلطانه وتمكنه، فلما رأت ما آتاه الله وجلاله ما هو فيه وتبصرت في أمره، انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبيٌ كريم، وملِكٌ عظيم، وأسلمت لله عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - أسلوب التعجب ﴿مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد﴾ ؟
٢ - التأكيد المكرر ﴿لأُعَذِّبَنَّهُ.. أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ.. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي﴾ لتأكيد الأمر.
٣ - طباق السلب ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ وكذلك ﴿تهتدي.. لاَ يَهْتَدُونَ﴾.
٤ -
الجناس اللطيف ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ﴾ ويسمى الجناس الناقص لتبدل بعض الحروف.
٥ - الطباق في اللفظ ﴿تُخْفُونَ.. وتُعْلِنُونَ﴾ وكذلك ﴿أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾.
٦ - الطباق في المعنى ﴿أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾.
قال علماء البيان: والمطابقة هنا بالمعنى أبلغ من اللفظ لأنه عدول عن الفعل إلى الإِسم فيفيد الثبات فلو قال «أصدقت أم كذبت» لما أدَّى هذا المعنى لأنه قد يكذب في هذا الأمر ولا يكذب في غيره، وأما قوله ﴿أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين﴾ فإِنه يفيد أنه إذا كان معروفاً بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذباً لا محالة فلا يوثق به أبداً.
٧ - جناس الاشتقاق ﴿أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ﴾ وكذلك ﴿أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾.
٨ - التشبيه ﴿كَأَنَّهُ هُوَ﴾ أي كأنه عرشي في الشكل والوصف ويسمى «مرسلاً مجملاً».
٩ - الاستعارة البديعة ﴿قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ شبَّه سرعة مجيئه بالعرش برجوع الطرف للإِنسان، وارتدادُ الطرف معناه التقاء الجفنين وهو أبلغ ما يمكن أن يوصف به في السرعْة ومثله «وما أمرُ الساعةِ إلا كلمح البصر أو هو أقرب» فاستعار للسرعة الفائقة ارتداد الطرف.
١٠ - توافق الفواصل في كثير من الآيات، ولها وقعٌ في النفس رائع مثل ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين﴾ ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾ ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ إلى آخر ما هنالك.
لطيفَة: أخذ بعض العلماء من قوله تعالى ﴿وَتَفَقَّدَ الطير﴾ استحباب تفقد الملك لأحوال الرعية، وكذلك تفقد الأصدقاء، والإِخوان، والخلان وأنشد بعضهم:
سنَّ سُليمانُ لنا سُنَّةً | وكان فيما سنْه مُقْتدى |