آيات من القرآن الكريم

حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ

كففته، كلمة عامة؛ تقول: وزعته أي: كففته عن الإبطاء، بمعنى: دفعته وسقته، وتكون بمعنى كففته عن الإسراع، أي: حبسته، ووقفته (١). فمن قال في تفسير: ﴿يُوزَعُونَ﴾ يدفعون ويساقون، أراد: أن الآخِرين يُمنعون عن الإبطاء والتوقف.
وذكر أبو عبيدة الوجهين؛ فقال: يُدفع أخراهم، وُيحبس أولاهم (٢). يعني: إذا تقدم الأولون وسرعانهم وزعوا، وإذا توقف المتأخرون دفعوا ووزعوا عن الإبطاء. وهكذا يفعل الشُّرَط والوزعة للعساكر (٣).
١٨ - قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ﴾ أي: أشرفوا عليه (٤). ولهذا المعنى أُدخل (عَلَى) ولم يكن: أتوا وادي النمل. قال كعب: هو بالطائف (٥). وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام (٦).

(١) قال ابن الأنباري: الصحيح عندنا أن يكون: أوزعت، بمعنى: أمرت وأغريت، ووزعت، بمعنى: حبست. "الأضداد" ١٣٩. قال ابن العربي: وقد يكون بمعنى: يلهمون. "أحكام القرآن" ٣/ ٤٧٤.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٩٢.
(٣) أخرج نحوه ابن جرير ١٩/ ١٤١، عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضًا ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧، عن مجاهد. قال الحسن لما ولي القضاء: لابد للناس من وزعة أي شرط يكفونهم عن القاضي. "الأضداد" ١٤٠.
(٤) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٣، ولم ينسبه.
(٥) "تفسير الثعلبي" ٨/ ١٢٤ أ. و"تفسير الماوردي" ٤/ ١٩٩. و"تفسير البغوي" ٦/ ١٥٠. قال البقاعي ١٤/ ١٤٢: وهو الذي تميل إليه النفس، فإنه معروف عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضًا: نخب، وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار. والطائف مدينة معروفة في غريب المملكة العربية السعودية، على بعد ١٠٠كم من مكة المكرمة.
(٦) "تفسير مقاتل" ٥٧ ب. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧، عن قتادة. و"تفسير =

صفحة رقم 187

﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ ذكرنا أن القول والكلام والمنطق يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر، ويعبر به عن الصوت، كقوله: حتى إذا نطق العصفور. أي: صاح (١). كذلك قوله: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾ أي: صاحت بصوت خلق الله لها. ولما كان ذلك الصوت مفهومًا لسليمان -عليه السلام-، عبَّر عنه بالقول علي ما ذكر الفراء، في منطق الطير (٢). وهذان وجهان في قول النملة.
قال الكلبي: وكانت نملة صغيرة مثل النمل (٣). وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة: كانت نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم (٤).
وعن بريدة الأسلمي: أنها كانت كهيئة النعاج (٥). ولعل الأقرب قول

= الثعلبي" ٨/ ١٢٤ أ. و"تنوير المقباس" ٣١٦. واقتصر عليه الهواري ٣/ ٢٤٩، ولم ينسبه. وذكره الزجاج ٤/ ١١٢، ولم ينسبه. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٠١، وذكر القولين في تفسيره الوسيط ٣/ ٣٧٣. وكذا البغوي ٦/ ١٥٠.
(١) تقدم ذكر البيت عند قول الله تعالى: ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ [النمل: ١٦].
(٢) وذهب إلى هذا سيبويه، الكتاب ٢/ ٤٦، وكذا المبرد، "المقتضب" ٢/ ٢٢٦.
(٣) نسبه للكلبي القرطبي ١٣/ ١٧١، وفي "تنوير المقباس" ٣١٦: نملة عرجاء يقال لها: منذرة!. وما دليل ذلك؟.
(٤) "تفسير القرطبي" ١٣/ ١٧١. وأخرجه ابن جرير ١٩/ ١٤٢، عن عوف، بلفظ: الذباب. واقتصر عليه في "الوجيز" ٢/ ٨٠١. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٨، عن نوف الحميري: كان نمل سليمان مثل أمثال الذئاب. وذكره كذلك الثعلبي ٨/ ١٢٤ أ. وذكر السيوطي، "الدر المنثور" ٦/ ٣٤٧، عن كعب: وكانت مثل الذئب في العظم. وذكره الزجاج ٤/ ١١٢، ولم ينسبه. وذكره ابن كثير ٦/ ١٨٣، عن الحسن، ثم نقد ابن كثير هذه الأقوال بقوله: ومن قال من المفسرين: إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره، وإن هذه التكملة كانت ذات جناحين كالذباب، أو غير ذلك من الأقاويل، فلا حاصل لها. وأخرج ابن أبي حاتم ٩/ ٢٨٥٧ عن الشعبي: النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات في حين.
(٥) ذكره عنه القرطبي ١٣/ ١٧١.

صفحة رقم 188

الكلبي؛ لقوله: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾ ولو كانت كالذئاب والنعاج، ما حطمت بالوطء ولا خافت ذلك (١).
والنملة، جمعها: نَمْل، ونِمَال (٢)، ومنه قول الأخطل:
دبيبُ نِمَالٍ في نَقًا يتهيّلُ (٣)
ويقال: رجل نَمِل الأصابع، إذا كان خفيف الأصابع في العمل. وفرسٌ نَمِل القوائم؛ لا يكاد يستقر (٤). والنمل إذا خرجت من قريتها لا تُرى مُستقرة ثابتة، بل تتحرك وتعدُو يمنة ويسرة، وهي كثيرة الحركة.
قال أهل المعاني: ومعرفة النملة سليمان معجزة له ألهمها الله تعالى معرفته حتى عرفت وحَذَّرت النملَ حَطْمَه، والنمل تعرف كثيرًا مما فيه نفعها وضرها؛ فمن ذلك: أنها تكسر الحبة بقطعتين لئلا تنبت، إلا الكُزْبَرَة (٥) فإنها تكسرها بأربع قطع؛ لأنها تنبت إذا كُسرت بقطعتين. فمَنْ هداها إلى هذا هو الذي ألهمها معرفة سليمان (٦).

(١) ورجح ذلك القرطبي ١٣/ ١٧١، ولم يذكر من سبقه له. قال البغوي ٦/ ١٥١، والبرسوي ٦/ ٣٣٣: والمشهور أنه النمل الصغير.
(٢) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٦٦ (نمل).
(٣) "تهذيب اللغة" ١٥/ ٣٦٦ (نمل)، عن الليث، ونسبه للأخطل، وصدره:
تدِب دبيبًا في العظام كأنه
النقا: ما ارتفع من الرمل، يتهل: ينحدر. "شرح ديوان الأخطل" ٢٦٢.
(٤) "تهذيب اللغة " ١٥/ ٣٦٦ (نمل).
(٥) نوع من أنواع البقول. "لسان العرب" ٥/ ١٣٨ (كزبر)، و"المعجم الوسيط" ٢/ ٧٨٦.
(٦) "تفسير الوسيط" ٣/ ٣٧٣، ولم ينسبه. و"تفسير الماوردي" ٤/ ٢٠٠، ولم يشبه. وذكره الطوسي للدلالة على أن معرفة النمل لسليمان، ليس على سبيل المعجزة الخارقة للعادة؛ لأنه لا يمتنع أن تعرف البهيمة كثيرًا مما فيه نفعها وضرها. =

صفحة رقم 189

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ قال أبو إسحاق: جاء لفظ: (ادْخُلُوا) كلفظ ما يعقل؛ لأن النمل هاهنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما نطق الآدميون (١).
وذكرنا استقصاء هذا عند قوله: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ﴾ الآية [يوسف: ٤] (٢).
قوله تعالى: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ الحَطم: كسر الشيء، والحُطَام: ما يُحطم من ذلك (٣).
ومعنى: ﴿لَا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ لا يكسرنكم (٤). قال مقاتل: لا يهلكنكم سليمان وجنوده (٥). وذكرنا وجه جواب الأمر بنون التأكيد عند قوله: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ الآية، [الأنفال: ٢٥] وهذه الآية وتلك سواء (٦).

= "التبيان في تفسير القرآن" ٨/ ٨٤. وذكر ابن القيم عجائب صنع الله تعالى في المل، في كتابه "شفاء العليل" ٦٩، ٧٠.
(١) "معاني القرآن" للزجاج ٤/ ١١٢.
(٢) قال الواحدي في تفسير هذه الآية: وقوله: ﴿رَأَيْتَهُمْ﴾ وهي مما لا يَفهم، ولا يُفهم وحسن ذلك؛ لأنه لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨].
(٣) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٩ (حطم).
(٤) "تنوير المقباس" ٣١٧. و"تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٤١.
(٥) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٦) قال الواحدي في تفسير هذه الآية من سورة الأنفال: ووجه إعراب الآية على هذا القول ما ذكره أبو إسحاق، وهو أن قوله: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ نهي بعد أمر، والمعنى: اتقوا فتنة، ثم نهى بعدُ، ثم قال: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ الفتنة الذين ظلموا، أي: لا =

صفحة رقم 190

وقوله: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أي: بحطمكم ووطئكم. قال مقاتل: لقد علمت النملة أنه مَلِك لا بغي فيه، ولا فخر، وأنه إن علم بها قبل أن يغشاها لم يتوطاها (١)، لذلك قالت: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (٢).
ثم وقف سليمان بمَنْ معه ليدخل النمل مساكنها (٣). وهذا يدل على

= يتعرضن الذين ظلموا لما ينزل بهم من العذاب. ثم ذكر شرح ابن الأنباري لهذا القول، ثم ذكر قول أبي علي الفارسي: إنه نهي بعد أمر، واستغني عن استعمال حرف العطف معه لاتصال الجملة الثانية بالأولى كما استغني عن ذلك في قوله: ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: ٢٢] و ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٣٩، وغيرها] ومحال أن يكون جواب الأمر بلفظ النهي، ودخول النون هاهنا يمنع أن تكون: ﴿لَا تُصِيبَنَّ﴾ جوابًا للأمر.
قال أبو حيان: دخول نون التوكيد على المنفي بـ: لا، مختلف فيه؛ فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة، أو الندور، والذي نختاره الجواز، وإليه ذهب بعض النحويين. "البحر المحيط" ٤/ ٤٧٧، وأطال الحديث عن هذه المسألة في سورة الأنفال، وفي سورة النمل، وتبعه السمين الحلبي، "الدر المصون" ٥/ ٥٨٩. قال ابن الأنباري: (لا) ناهية، ولهذا دخلت النون الشديدة في ﴿يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ ولا يجوز أن يكون تقديره: إن دخلتم مساكنكم لم يحطمنكم، على ما ذهب إليه بعض الكوفيين؛ لأن نون التوكيد لا تدخل في الجزاء إلا في ضرورة الشعر. "البيان" ٢/ ٢٢٠.
(١) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب.
(٢) أي: لا يعلمون أنهم يحطمونكم. "تفسير ابن جرير" ١٩/ ١٤١. وذكر الهواري ٣/ ٢٤٩، قولاً آخر اقتصر عليه ولم ينسبه، فقال أي: والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم كلامهم. وفي ذلك بعد، وقد نقد هذا القول محقق الكتاب. واستبعده الشوكاني ٤/ ١٢٧. وذكر القولين السمرقندي ٢/ ٤٩٢. والماوردي ٤/ ٢٠٠. ورد هذا القول ابن العربي، في أحكام القرآن ٣/ ٤٧٥. وذكر ابن الجوزي ٦/ ١٦٢، عن ابن عباس: وأصحاب سليمان لم يشعروا بكلام النملة.
(٣) "تفسير مقاتل" ٧٥ ب. ونسبه "الماوردي" ٤/ ٢٠٠، لابن عباس.

صفحة رقم 191
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية