آيات من القرآن الكريم

حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ

عَصاكَ»
فألقاها حالا دون تردد، امتثالا لأمره من غير أن يعلم المراد من إلقائها «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ» تنحرك بشدة «كَأَنَّها جَانٌّ» حية صغيرة لشدة اضطرابها، وتقدم في الآية ١٠ من سورة الأعراف والآية ١٥ من سورة طه والآية ٣٢ من سورة الشعراء فقد بينا فيها التوفيق بين ما جاء فيها هنا وهناك، فراجعها.
فلما رأى حركة عصاه وما انقلبت إليه هاله شأنها فتأخر عنها، وهو معنى قوله تعالى «وَلَّى» ظهره محلها «مُدْبِراً» عنها وهرب خوفا مما رأى وازداد اضطرابه «وَلَمْ يُعَقِّبْ» يرجع ويلتفت عقبه إليها ثم ناداه عز وجل ثانيا «يا مُوسى لا تَخَفْ» مما رأيت، ارجع لأني أريد أن أجعلك رسولا لي «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» ١٠ لأني آمنتهم مما يخافون. واعلم أن الله تعالى يفعل هذه المقدمات مع خلص خلقه من عباده الذين يختارهم لنبوته، ويصطفيهم لرسالته، بداية أمرهم إرهاصا لأقدارهم على تلقي وحيه، ليتوطنوا عليه، ويعلموا كيفية نزوله، وهذا الخوف غير الخوف الذي هو شرط الإيمان، فإن ذلك لا يفارقهم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنا أخشاكم لله- راجع الآية ٢٧ من سورة فاطر المارة-
ثم استثنى من عموم كلامه قوله «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ» منهم بفعل ترك الأفضل وما هو خلاف الأولى أو زل عن غير قصد أو استعجل في أمره كآدم ونوح وداود وسليمان وإبراهيم ويونس عليهم السلام، وقد سبقت الإشارة إلى ما صدر من كل منهم وتأويله وتفسيره ودواعيه في محله، وقد سمى الله ما حدث منهم ظلما بالنسبة إليهم، راجع الآية ٢ من الأعراف المارة والآية ٢٣ من ص والآيتين ٦٣ و ٨٥ من سورة هود في ج ٢، قال تعالى «ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ» تاب وندم على ما صدر منه، وقد سماه سوء أيضا نظرا لمقامهم وإلا في الحقيقة لا يسمى ظلما ولا سوء بالنسبة لغيرهم، لأنه على حد حسنات الأبرار وسيئات المقربين «فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ١١ به أعفو عما صدر منه ثم ناداه ثالثا بقوله «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» اجعلها تحت إبطك «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» برص، فأدخلها امتثالا لأمره، من غير أن يعرف الغاية منها، ثم أخرجها فإذا هي تبرق كالشمس، وبعد أن توطن لكلام الله قال اذهب «فِي تِسْعِ آياتٍ» مع هاتين الآيتين كما بيناها

صفحة رقم 312

في الآية ١٣٢ من الأعراف المارة، وهذه كلها قبل خروجه من مصر وعبوره البحر، أما بعدهما فقد أظهر الله له آيات كثيرة، أولها انفلاق البحر، ثم تفجير الماء من الصّخرة، والمن والسلوى، والغمام والطمس، وخسف الأرض بقارون، وإحياء صاحب البقرة، وإحياء هارون، وغيرها، ولبحث آياته عليه السّلام صلة في الآية ١٠٠ من الإسراء الآتية، وقد أرسلناك بهذه الآيات «إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» ١٢ متجاوزين الحد في الكفر والعدوان، خارجين عن الآداب والمروءة، فذهب وأخذ أهله وتوجه إلى فرعون، وقد قص الله لنا ما وقع بينهما في الآية ١١٣ من سورة الأعراف فراجعها، قال تعالى على طريق الإجمال «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً» على يدي موسى واضحة يشاهدونها بأم أعينهم وتتيقن بها قلوبهم «قالُوا هذا» الذي جاء به موسى «سِحْرٌ مُبِينٌ» ١٣ مكابرة وعنادا «وَجَحَدُوا بِها» أنكروا تلك الآيات وكفروا بها «وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ» بأنها من الله ليست بسحر ولا كهانة، وأيقنوا أن موسى ليس بساحر ولا كاهن، وأنه رسول الله حقا، وهذا هو الجحود المركب، لأن كل ما تيقنته وأنكرته فهو كذلك، لصدوره عن تعنت وتجبّر وعناد ومكابرة، أما من هداه الله كالسحرة ومؤمن آل فرعون وزوجته آسية، فإنهم صدقوا وآمنوا حينما تجلت لهم الحقيقة، وأصرّ فرعون وقومه على الكفر «ظُلْماً» وأي ظلم حيث سموها سحرا وحطوها عن مرتبتها «وَعُلُوًّا» ترفعا واستكبارا عن الإيمان بموسى وربه «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل واعجب «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» ١٤ إذ أهلكناهم في دنياهم غرقا على الصورة المبينة في الآية ٥٣ من سورة الشعراء، المارة، وستنظر عاقبتهم في الآخرة فهي أشد وأفظع وأقبح، وهكذا تكون عاقبة من لم يؤمن من قومك.
مطلب أن الله تعالى خص الأنبياء بأشياء خاصة لأمور خاصة:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» عظيما في القضاء والسياسة لأمور نزيد إيقاعها على أيديهم كما قد قصصناه عليك في السور المتقدمة وما سنقصه عليك بعد، وعلمنا آدم الأسماء لإسجاد الملائكة له راجع الآية ٣٤ من البقرة في ج ٣، وعلمنا الخضر علم الفراسة ليتلمذ له موسى كما في الآية ٤١ فما بعدها من سورة الكهف في

صفحة رقم 313

ج ٢، وعلمنا يوسف تعبير الرؤيا لنجعله ملكا على مصر راجع الآيتين ٣٧ و ٥٤ من سورة يوسف في ج ٢، وعلمنا داود صنعة الدروع ليكون ملكا مع النبوة، راجع الآية ١١ من سورة سبأ، وعلمنا سليمان نطق الطير لتؤمن به بلقيس كما سيأتي بعد، وعلمنا عيسى الحكمة والتوراة والإنجيل لتدفع عنه التهمة راجع الآية ٤٨ من آل عمران، وعلمناك يا محمد علم الأولين والآخرين لنعطيك الشفاعة العظمى والرسالة العامة، وهكذا بقية الرسل أعطيناهم أشياء خاصة لتكون سببا لإنالتهم أشياء خاصة في الدنيا والآخرة «وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا» بالنبوة والرسالة والملك، ولم تجمع لمن قبلنا من الأنبياء في سبط من أسباط يعقوب، بل كان الملك في سبط والنبوة في آخر «عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» ١٥ بذلك وبما سيأتي من تسخير الجن والإنس والطير والهواء وغيرها راجع الآية ١٠ فما بعدها من سورة سبأ في ج ٢، وقالا ما قالا إظهارا لشكر الله على نعمه وتحدثا بها ولم يفضلا أنفسها على الكل تواضعا وهضما لأنفسهما المطهرتين.
مطلب قصة ابن كثير مع جاره وعظمة ملك سليمان وكلام الطيور:
كان ابن كثير رحمه الله يجلس على بابه فيطالع، وكان له جار رثّ الثياب، وكلما خرج من داره ورآه على حالته يركب عليه فيشم منه رائحة كريهة، فعنفه يوما على فعله، وأخبره بأنه يعوقه عن مطالعته، فقال له وما تطالع؟ قال في الاقتباس، قال أنشدني منه شيئا، فقال موريا فيه فورا:
كيد حسودي وهنا... ولي سرور وهنا
الحمد لله الذي... أذهب عنا الحزنا
الآية ٣٨ من سورة فاطر، فأجابه فورا معرضا فيه أيضا:
قلبي إلى الرشد يسير... وعنده النظم يسير
الحمد لله الذي... فضلنا على كثير
الآية المارة، فتعجب منه وقام إليه واحترمه، واعتذر منه، فقال له إياك أن تزدري بأحد، فإن مواهب الله في الصدور لا في الثياب.

صفحة رقم 314

قال تعالى «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ» نبوته ورسالته وعلمه وملكه وحده خاصة دون سائر اخوته الثمانية عشر بتخصيص الله تعالى إياه وزاده على أبيه تسخير الجن والإنس والشياطين والريح ونطق الطير وكان يفهم تسبيحها فقط «وَقالَ» سليمان لأشرف قومه «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا» من قبل الله ربنا «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»
أوتيه الأنبياء قبلنا والملوك، ومما لم يؤتوه من جميع ما تحتاجه الدنيا والآخرة «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» ١٦ الذي لا فوقه فضل، وقال هذا على سبيل التحدث بالنعمة أيضا على حد قوله صلّى الله عليه وسلم، أنا سيد ولد آدم ولا فخر. قالوا وفي زمانه صنعت الأعاجيب من البناء والجنان والهياكل والتصاوير البارزة والمحاريب البديعة وغيرها، وجاء في تفسير البغوي أن ملكه دام سبعمائة سنة وستة أشهر، وهو أحد الأربعة الذين ملكوا الدنيا، قالوا إنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه وذنبه، فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا الله ونبيه أعلم، قال يقول أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا. وصاح طاووس فقال يقول كما تدين تدان. وصاح هدهد فقال يقول استغفروا الله يا مذنبون. وصاح طيطوى فقال يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول قدموا خيرا تجدوه، وصاحت رحمة فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فقال يقول سبحان ربي الأعلى، وقال تقول الحدأة كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول من سكت سلم، والببغاء تقول ويل لمن الدنيا همه، والعقاب يقول في البعد عن الناس أنس، والديك يقول اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والضفدع تقول سبحان ربي القدوس، والقنبرة تقول اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق، والدراج يقول الرحمن على العرش استوى. وعدّ الضفدع مع هذه الطيور مع أنه ليس منها، إشعارا بأنه كما علمه الله منطق الطير علمه نطق بعض الحيوان والحيتان.
والله أعلم بصحة ذلك، وإنما نقلناها لما فيها من الحكم البديعة التي تصح أن تكون موعظة وذكرى للمتعظين من البشر، والغافلين الذين لا يعقلون ما يراد بهم، إذ

صفحة رقم 315

لو عقلوا لما لذّ لهم طعام ولا شراب، ولأكثروا من البكاء على أنفسهم وتركوا الضحك وتذكروا بمصير هذه الدنيا التي أغرتهم بزخارفها الفانية عن الدار الباقية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مطلب الصفات الممدوحة بالملك وحكم وأمثال:
قال تعالى «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» ١٧ يمنع أولهم من سرعة السير ليلحق آخرهم مجتمعون لشدة الازدحام الناشئ عن كثرتهم، والوزع المنع، قال عثمان رضي الله عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقال الشاعر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه به فليس له من شيب فوديه وازع وإنما مال إلى حبس أولهم ولم يسق آخرهم ليلحقوا بهم رحمة ورأفة بهم، كي يستريح الأولون، ولا يزيد في تعب الآخرين. وقال محمد بن كعب القرضي: كان معسكر سليمان مائة فرسخ خمس وعشرون للإنس، ومثلها للجن، ومثلها للطير، ومثلها للوحش. والفرسخ اثنا عشر ألف باع، لأنه ربع البريد الذي هو مسافة مرحلة، قال:
أي بذراع اليد، وقالوا إن الجن نسجت بساطا لسليمان عليه السّلام من حرير وذهب فرسخا في فرسخ، وكان يوضع عليه كرسيه في الوسط وتوضع حوله كراسي الذهب والفضة ويجلس عليها العلماء والصلحاء والناس حولهم والجن والشياطين حول الناس، والوحوش حولهم وتظلّهم الطيور بأجنحتها، وكان له ألف بيت من قوارير فيها ثلاثمائة زوجة، وسبعمائة سرية، وأن الريح العاصفة ترفعه، والرّخاء يسير به بأمره، وأن الريح تخبره بما يتكلم به الخلائق، قالوا إن حراثا قال لقد أوتي آل داود ملكا عظيما، فألقته الريح بأذنه، فنزل بموكبه ومشى إليه وقال له تسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. قال عمر رضي الله عنه: أخبرني يا رسول الله عن هذا السلطان الذي ذلت له الرقاب، وخضعت له الأجساد، ما هو؟
فقال صلّى الله عليه وسلم ظل الله في الأرض، فإذا أحسن فله الأجر، وعليكم الشكر، وإذا

صفحة رقم 316

أساء فعليه الوزر، وعليكم الصبر. وقيل لكسرى أي الملوك أفضل؟ فقال الذي إذا حاورته وجدته عالما، وإذا خبرته وجدته حكيما، وإذا أغضبته كان حليما، وإذا ظفر كان كريما، وإذا استمنح منح جسيما، وإذا أوعد عفا، وإذا وعد وفى، وإذا شكي إليه كان رحيما. وقال حكيم ليزدجر: صلاح الملك الرفق بالرعية، وأخذ الحق منها بغير عنف، والتودد بالعدل إليها، وأمن السبيل عليها، وانصاف المظلوم، وردع الظالم. وجاء في الخبر: يوم واحد من سلطان جائر خير من سبعين سنة بلا سلطان، لأن عدمه يؤدي إلى الفوضى وسفك الدماء ونهب الأموال. وقال:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى ما لم يكن عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وقال بعض الحكماء: لا ينبغي للإمام أن يكون جائرا ومن عنده يلتمس العدل ولا للعالم أن يكون سفيها ومن عنده يلتمس الحلم. وقال آخر: المملكة تحب بالسخاء، وتعمر بالعدل، وتثبت بالعقل، وتحرس بالشجاعة، وتساس بالرياسة.
وقال عليم: على الظالم أن يكون وجلا، وعلى المظلوم أن يكون جذلا، وعلى الأمير أن لا يتجاوز الحد فكل ما جاوزه لا يسمى فضلا، كالشجاع إذا جاوز حد الشجاعة نسب إلى التهور، والسخي إذا جاوز حد السخاء نسب إلى التبذير، والأديب إذا زاد حد الأدب نسب إلى الخساسة، واعلم أن الخوف خوفان:
محمود وهو المقرون بالطاعة وحفظ الحدود مثل خوف الأبرار والأتقياء، ومذموم وهو المقرون بالمعصية ومخالفة الأوامر الشرعية مثل خوف إبليس وجنوده الذين يعلمون أن لهم خالقا يعاقبهم على عصيانهم وهم يخافون عقابه ويخالفون أوامره، والرجاء اثنان: رجاء من الله أن يرحمه في الدنيا ويعطف عليه قلوب أوليائه وعباده ويغمره بعفوه وعافيته، وفي الآخرة أن يشمله برحمته وشفاعة نبيه ويلحقه بعباده الصالحين. ورجاء من النفس من الآمال الباطلة وما يتخيّله له الشيطان من الأعمال الخسيسة والطمع فيما فيه من المعصية. هذا وأفضل المعرفة معرفة الرجل نفسه، وأفضل العلم وقوف العالم عند علمه، وأفضل المروءة استبقاء الرجل ماء وجهه، قال تعالى «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ» أشرفوا عليه لأن الإتيان غالبا

صفحة رقم 317

يكون من فوق، والوادي كل منخفض يسيل فيه الماء، وقد اختلف في هذا الوادي الكثير نمله حتى سمي به والمشهور أنه في اليمن وهو يسمى بهذا الاسم حتى الآن وكانت تذكره الناس بأقوالهم وأشعارهم، وما قيل إنه بالشام أو بالطائف فليس بشيء، «قالَتْ نَمْلَةٌ» لقومها سكان الوادي قولا فهمه سليمان عليه السّلام بان معناه ما ذكره الله بقوله «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ» سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ١٨ لكثرة غلبتهم ومراعاتهم نظام المشي، وذلك أن الجند إذا سيرهم قائدهم على جهة كان مشيهم بانتظام نحوها حتى إذا كان أمامهم شيء يدوسونه ولم يحيدوا عنه، ولهذا تقدمت النملة بالعذر لسليمان عليه السّلام ووصفته وجنوده بالعدل والرحمة والتباعد عن الجور، إذ علمت بإلهام الله إياها أنه نبي لا يجور ولا يتيه ولا يظلم، قالوا وكان اسمها طافيه وهي عرجاء ذات جناحين «فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها» إعجابا بما آتاها الله من معرفة، وسرورا بما آتاه الله من سماع وفهم لقولها، ولما وصفته وقومه به من الشفقة المستفادة من قولها (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) والتبسم سمة الأنبياء. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت: ما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قال الأبوصيري:
سيد ضحكه التبسم والمشي الهوينا ونومه الإغفاء واللهوات اللحمات المشدقة على الحلق أو التي ما بين منقطع أصل اللسان إلى منقطع القلب في أعلى الفم، مفرده لهاة، قالوا ثم إن سليمان حبس جنوده أي أوقفهم ومنعهم من مداومة السير، وأمر بإهباط البساط، فنزل على شفير الوادي، لأنه لو أهبطه فيه لتحطم النمل لعظمه وثقله، وانتظر حتى دخل النمل كله مساكنه فلم تكسر منه واحدة، ثم حمد الله وأثنى عليه «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي» كفني عن كل شيء مؤذ وامنعني من كل شيء مضر، ووفقني «أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ» من قبل «وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» لأن العمل مهما كان حسنا إذا لم يرضه الله لا يعد شيئا، والعمل الطيب الخالص لوجهه السالم من الرياء وشوائبه هو المرضي عند الله «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي

صفحة رقم 318
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية