آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا ۖ وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [الْقَصَصِ: ١٦] وَقُرِئَ (أَلَا مَنْ ظَلَمَ) بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَالْمُرَادُ حُسْنُ التَّوْبَةِ وَسُوءُ الذَّنْبِ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ فِي رِوَايَةِ عَاصِمٍ (حَسَنًا). أَمَّا قَوْلُهُ: فِي تِسْعِ آياتٍ فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، وَحَرْفُ الْجَرِّ فِيهِ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وَالْمَعْنَى اذْهَبْ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَانَتِ الْآيَاتُ إِحْدَى عَشْرَةَ، اثْنَتَانِ مِنْهَا الْيَدُ وَالْعَصَا، وَالتُّسْعُ: الْفَلْقُ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقَمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَالطَّمْسَةُ وَالْجَدْبُ فِي بَوَادِيهِمْ وَالنُّقْصَانُ فِي مَزَارِعِهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً فَقَدْ جَعَلَ الْإِبْصَارَ لَهَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لِمُتَأَمِّلِهَا، وَذَلِكَ بِسَبَبِ نَظَرِهِمْ وَتَفَكُّرِهِمْ فِيهَا، أَوْ جُعِلَتْ كَأَنَّهَا لِظُهُورِهَا تُبْصِرُ فَتَهْتَدِي، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقَتَادَةُ مُبْصِرَةً وَهُوَ نَحْوُ مَجْبَنَةٍ وَمَبْخَلَةٍ، أَيْ مَكَانًا يَكْثُرُ فِيهِ التَّبَصُّرُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ فَالْوَاوُ فِيهَا وَاوُ الْحَالِ، وَقَدْ بَعْدَهَا مُضْمَرَةٌ وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ أَنَّهُمْ جَحَدُوهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَاسْتَيْقَنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ، وَالِاسْتِيقَانُ أَبْلَغُ مِنَ الْإِيقَانِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: ظُلْماً وَعُلُوًّا فَأَيُّ ظُلْمٍ أَفْحَشُ مِنْ ظُلْمِ مَنِ اسْتَيْقَنَ أَنَّهَا آيَاتٌ بَيِّنَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ كَابَرَ بِتَسْمِيَتِهَا سِحْرًا بَيِّنًا. وَأَمَّا الْعُلُوُّ فَهُوَ التَّكَبُّرُ وَالتَّرَفُّعُ عَنِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى كَقَوْلِهِ: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٦] وَقُرِئَ (عُلِيًّا) وَ (عِلِيًّا) بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ، كما قرئ [عتيا و] «١» عِتِيًّا [مريم: ٨، ٦٩] واللَّه أعلم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
الْقِصَّةُ الثَّانِيَةُ- قِصَّةُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ والسلام
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: عِلْماً فَالْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنَ العلم أو علما سنيا (عزيزا) «٢»، فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْفَاءِ دُونَ الواو، كقولك أعطيته فشكر [ومنعته فصبر] «٣» ؟ جَوَابُهُ: أَنَّ الشُّكْرَ بِاللِّسَانِ إِنَّمَا يَحْسُنُ مَوْقِعُهُ إذا كان

(١) زيادة من الكشاف.
(٢) في الكشاف (غزيرا).
(٣) زيادة من الكشاف.

صفحة رقم 546

مَسْبُوقًا بِعَمَلِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَبِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَهُوَ الِاشْتِغَالُ بِالطَّاعَاتِ، وَلَمَّا كَانَ الشُّكْرُ بِاللِّسَانِ يَجِبُ كَوْنُهُ مَسْبُوقًا بِهِمَا فَلَا جَرَمَ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَاهُمَا عِلْمًا، فَعَمِلَا بِهِ قَلْبًا وَقَالِبًا، وَقَالَا بِاللِّسَانِ الْحَمْدُ للَّه الَّذِي فَعَلَ كَذَا وَكَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَفِيهَا أَبْحَاثٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْكَثِيرَ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ مَنْ لَمْ يُؤْتَ عِلْمًا أَوْ مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِثْلَ عِلْمِهِمَا، وَفِيهِ أَنَّهُمَا فُضِّلَا عَلَى كَثِيرٍ وَفُضِّلَ عَلَيْهِمَا كَثِيرٌ وَثَانِيهَا: فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى عُلُوِّ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمَا أُوتِيَا مِنَ الْمُلْكِ مَا لَمْ يُؤْتَ غَيْرُهُمَا فَلَمْ يَكُنْ شُكْرُهُمَا عَلَى الْمُلْكِ كَشُكْرِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُفَضِّلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْكُلِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ التَّوَاضُعِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ الظَّاهِرَ يَقْتَضِي أَنَّ تِلْكَ الْفَضِيلَةَ لَيْسَتْ إِلَّا ذَلِكَ الْعِلْمَ، ثُمَّ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ أَشْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الشُّكْرُ لَيْسَ إِلَّا عَلَى هَذَا الْعِلْمِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِفَضِيلَتِهِمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَإِذَنْ الفضيلة هُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعِلْمُ باللَّه وَبِصِفَاتِهِ جَلِيًّا بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَرْءُ مُسْتَغْرِقًا/ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَلَا يَغْفُلُ الْقَلْبُ عَنْهُ فِي حِينٍ مِنَ الْأَحْيَانِ وَلَا سَاعَةٍ مِنَ السَّاعَاتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْمَالُ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ وَلَا تُورَثُ، وَقَالَ غَيْرُهُ بَلِ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ الْمُلْكُ وَالسِّيَاسَةُ، وَلَوْ تَأَمَّلَ الْحَسَنُ لَعَلِمَ أَنَّ الْمَالَ إِذَا وَرِثَهُ الْوَلَدُ فَهُوَ أَيْضًا عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يَرِثُ الْوَلَدُ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا وَلَا يَرِثُ إِذَا كَانَ كَافِرًا أَوْ قَاتِلًا، لَكِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ الْإِرْثِ فِيمَنْ يَرِثُ الْمَوْتَ عَلَى شَرَائِطَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النُّبُوَّةُ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يَكُونُ سببا لنبوة الولد فمن هذا لوجه يَفْتَرِقَانِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ وَرِثَ النُّبُوَّةَ لَمَّا قَامَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، كَمَا يَرِثُ الْوَلَدُ الْمَالَ إِذَا قَامَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ فَصَّلَ فَقَالَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داود ماله لم يكن لقوله: وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ مَعْنًى، وَإِذَا قُلْنَا وَوَرِثَ مَقَامَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَعْلِيمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ مَا وَرِثَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لِأَنَّ وَارِثَ الْمُلْكِ يَجْمَعُ ذَلِكَ وَوَارِثَ الْمَالِ لَا يَجْمَعُهُ وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لَا يَلِيقُ أَيْضًا إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا دُونَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَامِلِ وَالنَّاقِصِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ جُنُودِ سُلَيْمَانَ بَعْدَهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَبَطَلَ بِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِثْ إِلَّا الْمَالَ، فَأَمَّا إِذَا قِيلَ وَرِثَ الْمَالَ وَالْمُلْكَ مَعًا فَهَذَا لَا يَبْطُلُ بِالْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، بَلْ بِظَاهِرِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ معاشر الأنبياء لا نورث» «١».
فأما قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ تَشْهِيرُ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَالتَّنْوِيهُ بِهَا وَدُعَاءُ النَّاسِ إِلَى التَّصْدِيقِ بِذِكْرِ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي هِيَ عِلْمُ مَنْطِقِ الطَّيْرِ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» الْمَنْطِقُ كُلُّ مَا يُصَوَّتُ بِهِ مِنَ الْمُفْرَدِ وَالْمُؤَلَّفِ الْمُفِيدِ وَغَيْرِ الْمُفِيدِ، وَقَدْ تَرْجَمَ يَعْقُوبُ كِتَابَهُ «بِإِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ» وَمَا أَصْلَحَ فِيهِ إِلَّا مُفْرَدَاتِ الْكَلِمِ، وَقَالَتِ الْعَرَبُ نَطَقَتِ الحمامة [وكل صنف من الطير يتفاهم أصواته] «٢» فَالَّذِي عَلَّمَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ مَنْطِقِ الطَّيْرِ هُوَ مَا يُفْهَمُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ من مقاصده وأغراضه.

(١) للحديث بقية لم يذكرها المفسر وهي «ما تركناه صدقة».
(٢) زيادة من الكشاف.

صفحة رقم 547

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَالْمُرَادُ كَثْرَةُ مَا أُوتِيَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُلَّ وَالْبَعْضَ الْكَثِيرَ يَشْتَرِكَانِ فِي صِفَةِ الْكَثْرَةِ، وَالْمُشَارَكَةُ سَبَبٌ لِجَوَازِ الِاسْتِعَارَةِ فَلَا جَرَمَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْكُلِّ عَلَى الْكَثِيرِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: ٢٣].
أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فَهُوَ تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الشُّكْرُ وَالْمَحْمَدَةُ كَمَا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: عُلِّمْنا... وَأُوتِينا وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَبِّرِينَ؟ جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُرِيدَ نَفْسَهُ وَأَبَاهُ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ النُّونَ يُقَالُ لَهَا نُونُ الْوَاحِدِ الْمُطَاعِ وَكَانَ مَلِكًا مُطَاعًا، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِتَعْظِيمِ الْمَلِكِ مَصَالِحُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ وَاجِبًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَالْحَشْرُ هُوَ الْإِحْضَارُ وَالْجَمْعُ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى كُلَّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ جُنُودَهُ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا بِأَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَى مُرَادِهِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا مَعَ الْعَقْلِ الَّذِي يَصِحُّ مَعَهُ التَّكْلِيفُ، أَوْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاهِقِ الَّذِي قَدْ قَارَبَ حَدَّ التَّكْلِيفِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الطَّيْرَ فِي أَيَّامِهِ مِمَّا لَهُ عَقْلٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حَالُ الطُّيُورِ فِي أَيَّامِنَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا قَدْ أَلْهَمَهُ اللَّه تَعَالَى الدَّقَائِقَ الَّتِي خُصَّتْ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهَا أَوْ خَصَّهَا اللَّه بِهَا لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ كَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهُمْ يُوزَعُونَ مَعْنَاهُ يُحْبَسُونَ وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي كُلِّ قَبِيلٍ مِنْهَا وَازِعٌ، وَيَكُونُ لَهُ تَسَلُّطٌ عَلَى مَنْ يَرُدُّهُ وَيَكُفُّهُ وَيَصْرِفُهُ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ بِهَذَا الْقَدْرِ وَالَّذِي جَاءَ فِي الْخَبَرِ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَ مَنْ يَتَقَدَّمُ لِيَكُونَ مَسِيرُهُ مَعَ جُنُودِهِ عَلَى تَرْتِيبٍ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ فَقِيلَ هُوَ وَادٍ بِالشَّامِ كَثِيرُ النَّمْلِ، ويقال لِمَ عَدَّى أَتَوْا بِعَلَى؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِتْيَانَهُمْ كَانَ مِنْ فَوْقُ فَأَتَى بِحَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالثَّانِي: أَنْ يُرَادَ قَطْعُ الْوَادِي وَبُلُوغُ آخِرِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَى عَلَى الشَّيْءِ إذا [أنفذه و] «١» بَلَغَ آخِرَهُ كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَنْزِلُوا عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، وَقُرِئَ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَبِضَمِّ النُّونِ وَالْمِيمِ وَكَانَ الْأَصْلُ النَّمُلَ بِوَزْنِ الرَّجُلِ وَالنَّمْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ تخفيف عنه [كقولهم السبع في السبع] «٢».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ فِيهَا الْعَقْلَ وَالنُّطْقَ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أَنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه حَاضِرًا وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ سَلُوهُ عَنْ نَمْلَةِ سُلَيْمَانَ أَكَانَتْ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى؟ فَسَأَلُوهُ فَأُفْحِمَ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ كَانَتْ أُنْثَى فَقِيلَ لَهُ مَنْ أَيْنَ عَرَفْتَ؟ فَقَالَ مِنْ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ: قالَتْ نَمْلَةٌ وَلَوْ كَانَ ذَكَرًا لَقَالَ (قَالَ نَمْلَةٌ)، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّمْلَةَ مِثْلُ الْحَمَامَةِ وَالشَّاةِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمَا بِعَلَامَةٍ نَحْوُ قَوْلِهِمْ حَمَامَةٌ ذَكَرٌ وَحَمَامَةٌ أُنْثَى وَهُوَ وَهِيَ «٣».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ فَاعْلَمْ أَنَّ النَّمْلَةَ لَمَّا قَارَبَتْ حَدَّ الْعَقْلِ، لَا جَرَمَ ذُكِرَتْ بِمَا يُذْكَرُ بِهِ الْعُقَلَاءُ فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ فَإِنْ قُلْتَ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ مَا هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا

(١) زيادة من الكشاف.
(٢) زيادة من الكشاف.
(٣) مقتضى ما ذكره من أن النملة تقع على المذكر والمؤنث يبطل رد أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى.

صفحة رقم 548

لِلْأَمْرِ وَأَنْ يَكُونَ نَهْيًا بَدَلًا مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمَعْنَى لَا تَكُونُوا حَيْثُ أَنْتُمْ فَيَحْطِمَنَّكُمْ عَلَى طريقة: لا أرينك هاهنا. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَنْ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَنْ فِي الطَّرِيقِ التَّحَرُّزُ وَثَانِيهَا: أَنَّ النَّمْلَةَ قَالَتْ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَأَنَّهَا عَرَفَتْ أَنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ فَلَا يَقَعُ مِنْهُ قَتْلُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى وُجُوبِ الْجَزْمِ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَثَالِثُهَا: مَا رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ تِلْكَ النَّمْلَةَ إِنَّمَا أَمَرَتْ غَيْرَهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّهَا خَافَتْ عَلَى قَوْمِهَا أَنَّهَا إِذَا رَأَتْ سُلَيْمَانَ فِي جَلَالَتِهِ، فَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ/ سُلَيْمانُ فَأَمَرَتْهَا بِالدُّخُولِ فِي مَسَاكِنِهَا لِئَلَّا تَرَى تِلْكَ النِّعَمِ فَلَا تَقَعُ فِي كُفْرَانِ نِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مَحْذُورَةٌ وَرَابِعُهَا: قُرِئَ (مَسْكَنَكُمْ) وَ (لَا يَحْطِمَنْكُمْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ، وَقُرِئَ (لَا يَحْطَمَنَّكُمْ) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِهَا وَأَصْلُهَا (يَحْطِمَنَّكُمْ) «١».
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها يَعْنِي تَبَسَّمَ شَارِعًا فِي الضحك [وآخذا فيه] «٢»، بمعنى أَنَّهُ قَدْ تَجَاوَزَ حَدَّ التَّبَسُّمِ إِلَى الضَّحِكِ، وَإِنَّمَا ضَحِكَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِعْجَابُهُ بِمَا دَلَّ مِنْ قَوْلِهَا عَلَى ظُهُورِ رَحْمَتِهِ وَرَحْمَةِ جُنُودِهِ [وشفقتهم] «٣» وَعَلَى شُهْرَةِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ فِي بَابِ التَّقْوَى، وَذَلِكَ قَوْلُهَا: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَالثَّانِي: سُرُورُهُ بِمَا آتَاهُ اللَّه مِمَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه.
وأما قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبِّ أَوْزِعْنِي فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : حَقِيقَةُ أَوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أَزَعُ شُكْرَ نِعْمَتِكَ عِنْدِي وَأَكُفُّهُ عَنْ أَنْ يَنْقَلِبَ عَنِّي، حَتَّى أَكُونَ شاكرا لك أبدا، وهذا يدل على مذهبا فَإِنَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كُلَّ مَا أَمْكَنَ فِعْلُهُ مِنَ الْأَلْطَافِ فَقَدْ صَارَتْ مَفْعُولَةً وَطَلَبَ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ عَبَثٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلى والِدَيَّ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَدَّ نِعَمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى وَالِدَيْهِ نِعْمَةً عَلَيْهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ:
وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ طَلَبَ الْإِعَانَةَ فِي الشُّكْرِ وَفِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، ثم قال: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا طَلَبَ فِي الدُّنْيَا الْإِعَانَةَ عَلَى الْخَيْرَاتِ طَلَبَ أَنْ يُجْعَلَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَقَوْلُهُ:
بِرَحْمَتِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقٍ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ وَاعْلَمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَلَبَ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوَّلًا ثُمَّ طَلَبَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ ثَانِيًا، أَمَّا وَسِيلَةُ الثَّوَابِ فَهِيَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: شُكْرُ النِّعْمَةِ السَّالِفَةِ وَالثَّانِي: الِاشْتِغَالُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ، أَمَّا الِاشْتِغَالُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ السَّالِفَةِ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَلَمَّا كَانَ الْإِنْعَامُ عَلَى الْآبَاءِ إِنْعَامًا عَلَى الْأَبْنَاءِ لِأَنَّ انْتِسَابَ الِابْنِ إِلَى أَبٍ شَرِيفٍ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الِابْنِ، لَا جَرَمَ اشْتَغَلَ بِشُكْرِ نِعَمِ اللَّه عَلَى الْآبَاءِ بِقَوْلِهِ:
وَعَلى والِدَيَّ وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِدْمَةِ، فَقَوْلُهُ: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَمَّا طَلَبُ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فَقَوْلُهُ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ فَإِنْ قِيلَ دَرَجَاتُ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ دَرَجَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَمَا السَّبَبُ فِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَطْلُبُونَ جَعْلَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال يوسف: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقال سليمان: أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ؟ جَوَابُهُ: الصَّالِحُ الْكَامِلُ هو الذي لا يعصي اللَّه وَلَا يَهُمُّ بِمَعْصِيَةٍ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ، واللَّه أعلم.

(١) في الكشاف (يحتطمنكم).
(٢) زيادة من الكشاف. [.....]
(٣) زيادة من الكشاف.

صفحة رقم 549
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية